شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
هو وباء جديد للعالم أجمع... لكنه لن يرحم أوطاناً مثل اليمن

هو وباء جديد للعالم أجمع... لكنه لن يرحم أوطاناً مثل اليمن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 31 مارس 202003:33 م

فيما ينشغل العالم بمواجهة جائحة فيروس كورونا الذي ينتشر بوتيرة تفوق قدرة المستشفيات على الاستجابة وتوفير العلاج اللازم للمصابين بشكل متساو، يدخل اليمن العام السادس من حرب كان من أخطر ما اقترفته، أنها قضت على أسس نظم الرعاية الصحية فيه ودمرتها.

وإذا كانت هيئات الرعاية الصحية العالمية في الدول المتطورة حتى، تواجه تحديات مشابهة لناحية القدرة الاستيعابية، فالمفارقة أن اليمن يواجه تلك التحديات بفعل نزاع هو من صنع الإنسان، ومن صنع حرب مستعرة بين مجموعة أطراف لم تستثن هجماتها وقوتها التدميرية، لا العاملين الصحيين ولا مراكز الرعاية الصحية.

كل الأطراف من دون استثناء، شاركت في تهديد العاملين في مجال الرعاية الصحية، تخويفهم، حرمانهم من مستحقاتهم، إصابتهم بجروح، اعتقالهم، خطفهم وقتلهم.

يكفي فقط أن تتخيلوا أنفسكم في اليمن، أن تعيشوا وسط ظروف حرب طاحنة وتعتريكم حاجة لعلاج طبي فرضه عليكم مرض مزمن، أو طارئ صحي، أو جروح حفرتها في أجسامكم شظايا متفجرة أصابت منزلكم، أو الحي الذي تقطنون فيه، أو ربما قريباً، حرارة مرتفعة وصعوبة في التنفس بفعل إصابتكم بكورونا: ماذا كنتم لتفعلوا في ظل نظام صحي يرزح تحت وقع الهجمات الحربية والاعتداءات منذ سنوات؟

بين عامَي 2015 و2018، وثق باحثون من فريق "مواطنة لحقوق الإنسان" 120 هجمة عسكرية نفذها مختلف أطراف النزاع، على مراكز رعاية صحية وطواقم طبية، أدّت إلى مقتل 96 مدنياً وعاملاً صحياً، وجرح المئات. وقد بيّن تقرير أعدته "مواطنة لحقوق الإنسان" و"أطباء من أجل حقوق الإنسان" صدر في آذار/ مارس 2020، كيف حصلت هذه الاعتداءات وتسبّبت بمفاقمة الوضع الإنساني الكارثي في اليمن. واللافت أن هذه الأرقام لا تمثل سوى عينة مما يحدث فعلياً على نطاق أوسع في البلاد، إذ من المرجح أن تكون أعداد الأضرار أعلى بكثير مما هو موثق.

يكفي أن تتخيلوا أنفسكم في اليمن، أن تعيشوا وسط ظروف حرب طاحنة وتعتريكم حاجة لعلاج طبي فرضه عليكم مرض مزمن، أو طارئ صحي، أو ربما قريباً، حرارة مرتفعة وصعوبة في التنفس بفعل إصابتكم بكورونا: ماذا كنتم لتفعلوا في ظل نظام صحي يرزح تحت وقع الهجمات الحربية والاعتداءات منذ سنوات؟

الواضح أن جميع أطراف الحرب متورطة في إنهاك النظام الصحي في اليمن: التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات، وجماعة الحوثي، وحكومة اليمن المعترف بها دولياً، جميع هذه الجهات استهدفت القطاع الصحي. منهم من أطلق ضربات جوية أو برية على مراكز صحية، ومنهم من احتل هذه المراكز، ومنهم من استولى على معداتها واعتدى على طواقمها، واقترف الكثير من الانتهاكات التي أثّرت في قدرة وصول اليمنيين إلى الخدمة الصحية.

ما شهدته حين زرت مستشفيات في تعز وصنعاء مفجع للغاية: كان المستشفى الجمهوري في تعز فارغاً، كمدينة أشباح، خطيئته أنه يقع في منطقة جغرافية غدت ساحة معركة بين مسلحي الحوثي وصالح من جهة، ومقاتلي المقاومة الشعبية الموالية للحكومة اليمنية من جهة أخرى.

وكأنما موقع المستشفى الخطر بين النيران المشتعلة لم يكن كافياً، فجاءه النقص في معدات الأوكسيجين اللازمة لإجراء عمليات أساسية ليزيد وضعه صعوبة ومأساة، نتيجة الحصار المفروض من قوات الحوثي وصالح على المدينة.

في صنعاء، لم تكن المستشفيات التي زرتُها مجهّزة لمعالجة الأعداد الهائلة من الجرحى والمصابين جرّاء القصف الجوي للتحالف السعودي-الإماراتي. ما زلت أتذكّر مشهد المصابين الذين ملأت أجسادهم المداخل والردهات في مستشفى كان يعاني أصلاً من نقص الموارد البشرية المتخصصة. لن أنسى وجوه الأطباء والممرضين العاجزين عن الاستجابة الفعالة للحالات التي كانت تصلهم، وشعورهم بالضعف والحيرة الذي خلفه نقص المواد والمعدات الطبية.

المطلوب اليوم ببساطة، أن تتوقف أطراف النزاع كافة عن استهداف الطواقم الطبية والمنشآت الصحية في أنحاء البلاد كافة، والكف عن استخدامها كسلاح حرب وساحة معركة.

مع انقضاء عام 2016، أي بعد عام واحد من الحرب، كان أكثر من نصف المراكز الصحية في اليمن قد أقفل بالكامل، أما المراكز التي ظلت تعمل، فأثقلتها مشكلات وعراقيل عملية كثيرة، كغياب العدد الكافي من الاختصاصيين الصحيين، المعدات اللازمة لاستمرارها، والأدوية الأساسية. والقلّة القليلة التي استمرت في العمل، استخدمَتْها الجهات المسلحة كنطاق عسكري، واحتلتها، محولة تلك المراكز إلى أدوات حربية، ما أعاق وصول اليمنيين الآمن إليها واستفادتهم من خدماتها.

شكّلت هذه الأفعال خرقاً واضحاً لمبدأ الرعاية الصحية القائمة على عدم التمييز، وعرّضت الكثير من البنى والمراكز الصحية للخطر، وعرّتها، لدرجة أنها أفقدتها عملياً حقها في التحييد والحماية الذي نصّت عليه قوانين الحرب الدولية.

كل الأطراف من دون استثناء، شاركت في تهديد العاملين في مجال الرعاية الصحية، تخويفهم، حرمانهم من مستحقاتهم، إصابتهم بجروح، اعتقالهم، خطفهم وقتلهم. وفي المحصّلة، دفعت هذه البيئة المعادية للعاملين الصحيين والطبيين، بالاختصاصيين الأجانب إلى المغادرة، علماً أنهم كانوا يشكلون نسبة 25% من مجمل العاملين في القطاع الصحي قبل نشوب النزاع، الأمر الذي زاد من ضعف نظام الرعاية الصحية وعناصره.

يواجه اليمن أيضاً نقصاً حاداً في العتاد والعدد الصحيين، بوجود 10 عاملين في القطاع الصحي فقط لكل 10،000 مواطن يمني. ويوازي هذا الرقم أقل من نصف عدد العاملين الصحيين الذي توصي به منظمة الصحة العالمية، من أجل ضمان الحد الأدنى من التغطية الصحية لهذا الحجم من السكان.

وقد ساهم تدمير المنشآت الصحية وندرة الاختصاصيين الطبيين بتأزيم الحالة المأساوية التي يعيشها المدنيون في اليمن، وهذه العوامل لوحدها كفيلة بشرح سبب تفشّي وباء الكوليرا مثلاً، والذي يسهل عادة منعه والوقاية منه.

هو وباء جديد للعالم أجمع، لكنه لن يرحم أوطاناً مثل اليمن، وفي هذا السياق، يتبادر إلى ذهني ما قاله لي أحد الأصدقاء أخيراً: "إذا وصل كورونا إلى اليمن، سيكون علينا المباشرة فوراً بحفر قبورنا"

المطلوب اليوم ببساطة، أن تتوقف أطراف النزاع كافة عن استهداف الطواقم الطبية والمنشآت الصحية في أنحاء البلاد كافة، والكف عن استخدامها كسلاح حرب وساحة معركة. عليها أيضاً إجراء تحقيقات جدية في حالات الاعتداء وغيرها من أشكال التدخّل الذي يحرم اليمنيين من حقهم في الرعاية الصحية، وذلك لضمان محاسبة مرتكبي الاعتداءات وتقديم التعويضات لجميع الضحايا،

ونخشى ما نخشاه أن تستحيل مخاوفنا حقيقة وينتشر في البلاد وباء جديد.

هو وباء جديد للعالم أجمع، لكنه لن يرحم أوطاناً مثل اليمن، وفي هذا السياق، يتبادر إلى ذهني ما قاله لي أحد الأصدقاء أخيراً: "إذا وصل كورونا إلى اليمن، سيكون علينا المباشرة فوراً بحفر قبورنا".

إن انتشار فيروس كورونا في بقعة من العالم خطر على كل العالم. وبينما تُحضّر الدول قطاعها الصحي وتدعمه ليتمكن من الاستجابة لنتائج الجائحة، عليها ألا تهمل محنة اليمنيين الذين ما برحوا يتلقون الضربة تلو الأخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image