أثناء اجتماعنا عبر الإنترنت، سمعنا زميلتنا الهادئة جداً تصرخ وتتوعّد بعقاب شديد، ثم حدثتنا بصوت متحشرج، واعتذرت عن إكمال اجتماعنا. بعد أن انتهينا، هاتفتُها، لأجدها منهارة تماماً، تبكي وتصرخ قائلة إنها لا تستطيع تحمل المزيد من ضغط العمل والأطفال معاً خلال العزل في المنزل.
ما بين أزمة فيروس الكورونا والعزلة الإجبارية المفروضة علينا للحماية، تطفو هموم فئات مجتمعية مختلفة، لعلّ النساء من الفئات الأكثر تضرراً بينها، خاصة أمهات الأطفال في سن مبكر الذين يحتاجون لمزيد من الرعاية في ظل إقفال المدارس والحضانات.
تنظر مريم، وهي صحافية وأم لطفلين عمرهما 5 سنوات و3 سنوات، بعينين أنهكهما الإرهاق، وتقول إنها اتجهت لتناول المهدئات، لما تعانيه من ضغط عصبي، لم تعد قادرة على تحمله. مريم معتادة على العمل من المنزل أغلب الوقت، لكن ما جدّ هو عدم وجود مدرسة أو حضانة لطفليها، حيث لا وقت للعمل أو الراحة أو إنجاز أي أمر آخر.
بينما كانت مريم منهمكة بتلبية طلب لصغيرها، عادت إلى حيث تجلس لمتابعة عملها، بحثت كثيراً عن هاتفها المحمول، وسيلة عملها الوحيدة، هنا وهناك، دون جدوى، إلى أن قادتها ابنتها بضحكات ساخرة غير مُدرِكة للحمام. نظرت مريم في البانيو، لتجد هاتفها يسبح داخل المياه، فقدت أعصابها وهرعت للخارج محاولة إصلاحه وإنقاذ عملها.
طلبت مريم من والدتها أن تبقى معها للاعتناء بالطفلين، خاصة أن زوجها طبيب، وفي ظل تفاقم أزمة الكورونا لم يعد يستطيع زيارة المنزل إلا نادراً، وذلك بجانب فرضه للحجر الصحي على نفسه، حماية لأسرته. لم يكن وجود والدتها الحل المناسب، فالجدة لم تصمد كثيراً أمام فرط حركة الصغيرين، لتجد مريم نفسها مضطرة لمواجهة الواقع وحيدة.
في ختام حديثها، وجّهت مريم رسالة لمثيلاتها من الأمهات قائلة: "استشيروا طبيباً نفسياً… حتى لا تفقدوا عقولكن".
"دائماً، يفتعل الأطفال أموراً تجعلنا نتمنى أن تُشق الأرض وتبتلعنا على الفور، يقومون بأمور مخجلة يتوقف عندها الزمن لحظات"، هكذا بدأت سمية التي تعمل في مجال المحاسبة، وهي أم لطفل لم يكمل عامه الرابع، حديثها.
أثناء اجتماعها مع أفراد المكتب، عبر الإنترنت، كلاً منهم أمام كاميرا شاشته التي يراه من خلالها الآخرون، لمحت طفلها يلعب بقطعة قماش في ركن الغرفة، حمدت الله أنه سيتركها قليلاً كي تنهي اجتماعها، لم تمر لحظات حتى قفز طفلها فوق كتفيها، ووضع حمالة صدرها أمام كاميرا الحاسوب، وهو يتمتم فرحاً أنه وجد ضالة والدته التي بحثت عنها أمس.
تقول سمية: "عندها شعرت بغليان في رأسي، وتجمدت أطرافي، تمنيت لو لم أولد أبداً، فهناك ثلاثة رجال يحضرون اجتماعنا، أغلقت الشاشة سريعاً، وكان أمامي خيارين، إما أن أترك غضبي يقودني وأبرحه ضرباً، أو أنهار وأنا أصرخ. بفطرة الأمومة كان الحل الثاني هو الأمثل، وبالفعل بقيت أصرخ بينما ابتعد صغيري خائفاً"، مضيفة "بعد استيعابي لما حدث، أرسلت طلب إجازة لمديري، ومنذ ذلك الوقت لم أفتح هاتفي أو بريدي الإلكتروني".
بحثت مريم كثيراً عن هاتفها المحمول، وسيلة عملها الوحيدة، إلى أن أخبرتها ابنتها أنه يسبح في بانيو الحمام، وسمية فاجأها ابنها أثناء اجتماع عمل بحمالة صدرها، وهبة محا ابنها رسالة مهمة من المدير... قصص أمهات عاملات يعانين بوجود أبنائهن في الحجر المنزلي
هبة، مترجمة و أم لطفلين عمرهما 10 سنوات و12 سنة. تقول: "بسبب خوفي على أسرتي، تقدمت للشركة التي أعمل فيها بطلبٍ للعمل من المنزل، بالفعل حصلت على الموافقة".
بعد قرار وقف العمل بالمدارس، جلست بجوار هاتفها، تنتظر ورقة مهمة قال مديرها إنه سيرسلها عبر واتساب، تركت هاتفها لحظات، لكنها عادت لتجد ابنها الأكبر قد أعاد تهيئة الهاتف، ومسح كل البيانات منه، ولا مجال لاستعادة الورقة.
فقدت هبة أعصابها، ظلت تبكي و تصرخ، حتى أصيبت بانهيار عصبي، ساعدها زوجها كي تتماسك، ثم أدركت واقعها، وقامت لتواجهه.
مريم فضلت استمرار الفصل الدراسي من المنزل، وعدم إلغائه، لأنها لا تجد ما تشغل به فراغ ابنيها، لكن ذلك اضطرها لمواجهة الصراخ والنشاط المفرط والمشاجرات الدائمة.
تقول إن هذا الوضع يجبرها على العمل لساعات أطول من دوامها في مقر العمل، فهي تترك حاسوبها بين البرهة والأخرى، لتنشغل بالإرشادات والمراقبة وحل الشجار. هكذا، تتبدد ساعات يومها، ليُتابع منوال الحياة خلال أيام الحجر.
لم يختلف الوضع كثيراً مع تغريد، وهي صانعة محتوى وأم لطفلين عمرهما 7 سنوات و5 سنوات.
تقول تغريد إنها تتحمل طيلة اليوم ضغط العمل ومحاولة الالتزام بمواعيد التسليم، وطلبات طفليها، تصرخ وتنهرهما لمحاولتهما العبث بالكهرباء، تخشى أن يفتحا أنبوب الغاز، تهرول للمطبخ للتأكد من نضج الطعام، وتعود أمام شاشة حاسوبها لتكمل ما بدأته، ثم تنهمر دموعها، تسرع إلى الحمام، وتغلق الباب خلفها لتدخل في نوبة بكاء.
تُخبر تغريد أن أكثر ما يؤلمها هو نعتها بالضعيفة التي تريد التهرب من مسؤولياتها، لذلك امتنعت منذ مدة كبيرة عن مشاركة معاناتها مع نساء من المفترض أن يشكلن لها دائرة دعم، وأبرزهن والدتها أو حماتها، إذ لم يعد بإمكانها البوح لهما، وإلا بدأتا في معايرتها وعرض بطولات عملهما في المنزل ورعاية الأبناء.
تختم كلامها بالقول إن قدرتها العصبية "لم تعد تحمل هراء يزيد من شعورها بالذنب واتهامها بالتقصير تجاه أطفالها".
أما مروة فتعمل كمترجمة، وهي أم لطفلين عمرهما 10 سنوات و8 سنوات. تشكو، بدورها، أنه على الرغم من محاولاتها لتوفير بيئة عمل مناسبة في المنزل، بعد أن جهزت غرفة خاصة للمكتب، ووضعت بها كل مستلزماتها، لا يتوقف باب الغرفة عن الطرق، والأسئلة المتكررة عن كل شيء، ما يشتت تركيزها، وبسبب ذلك وقعت في خطأ مهني وتّر جو العمل بأكمله، وكاد أن يقضي على ما بنته خلال تسعة أعوام من مسيرتها العملية.
"قرار الحجر الصحي يضع النساء تحت ضغط كبير، خاصة مع الأزواج غير المعتادين على المشاركة في تربية الأبناء"... قصص عن معاناة الأمهات في التوفيق بين العمل من المنزل ورعاية الأطفال خلال الحجر المنزلي
تقول مروة إن من حق كل أم أن تجد من يُعينها في تحمل المسؤولية، أكان زوجها أو أمها أو أختها، ومن غير العدل أن يُثقَل كاهل النساء بكل تلك المسؤوليات.
قد تختصر هذه القصص أعلاه حال أمهات كثيرات حول العالم، وجدن أنفسهن ملزمات بالجمع بين العمل والعناية بالأطفال في المنزل خلال فترة الحجر، لكن حدة هذا العبء تختلف باختلاف الثقافة المحيطة بدور المرأة والأم في المنزل.
والسيدات في مصر، حتى العاملات منهن خارج المنرل، يقع عليهن بشكل عام ومن دون تعميم عبء مسؤوليات المنزل، إذ يوضعن في قالب رعاية الأطفال و خدمة الزوج وتدبير شؤون العائلة، ولا يُنتظر منهن أن يتأففن من هذا الدور الذي سبقتهن إليه أمهاتن وجداتهن، لذلك فإن أي شكوى أو طلب للمساعدة يُعرّض الأم، العاملة تحديداً، للمحاكمة.
تقول آيه منير، وهي ناشطة نسوية ومؤسسة مبادرة "سوبر وومن" إن تقسيم الأدوار في مصر بالذات فيه إجحاف للمرأة، فمنذ البداية تتربى على خدمة أخوتها الذكور، ثم تُفرض عليها الضغوط مع بداية الزواج، لتكون مُطالَبة بخدمة الزوج، وباختيار عمل بمواعيد مناسبة لا تتعارض مع شغل البيت، ومع وجود أطفال تتحول أولوياتها تلقائياً للصغار، ويتنحى كيانها للخلف.
"على الأم أن ترتب مواعيد يومها، تخصص وقتاً للعمل، ووقتاً لمهام المنزل ورعاية الصغار، كما عليها إشراكهم في المهام المنزلية، عن طريق المكافآت والمسابقات مثلاً".
تشير آية إلى التريند المنتشر على فيسبوك تحت هاشتاغ "#صورتك_في_الصالة"، والذي يتشارك فيه الذكور صورهم، بعد قرار الحجر الصحي، أثناء قيامهم بالأعمال المنزلية. وتُعتبر مشاركة الزوج في مسؤولية بيته وأولاده مادة للسخرية و الضحك، بسبب الفكرة الراسخة بأنها مهام نسائية حصراً.
تشير أستاذة الطب النفسي في جامعة عين شمس هبة العيسوي إلى أن قرار الحجر الصحي يضع النساء تحت ضغط كبير، لعدة أسباب، فلا أحد يعرف متى تنتهي الأزمة، بالإضافة إلى حالة الملل وعدم الخروج، وأخيراً ضغط الأزواج في المنزل، خاصة غير المعتادين على مشاركة الزوجات في تربية الأبناء.
بسبب ذلك، تعاني النساء الآن من توتر كبير، يضغط على أعصابهن، من دون أن يعرفن طرق النجاة من هذه الفترة المرهقة جداً.
تقول هبة إن هناك خطوات بسيطة يمكن اتباعها للخروج من هذه الفترة، بأقل خسائر نفسية ممكنة، فمثلاً على الأم أن ترتب مواعيد يومها، تخصص وقتاً للعمل، ووقتاً لمهام المنزل ورعاية الصغار، كما عليها إشراكهم في المهام المنزلية، عن طريق المكافآت والمسابقات مثلاً.
وتقترح هبة ممارسة تمارين رياضية بسيطة في المنزل، لتخفيف حدة التوتر، عن طريق تشبيك اليدين خلف الظهر، والتنفس بهدوء وملء الرئتين، ما يساعد في الضغط على العصب الحائر، المسبب للتوتر، ويخفف ذلك عن الأعصاب.
وتلفت أستاذة الطب النفسي إلى الجانب الإيجابي في هذه الفترة الاستثنائية من حياة الأسر، فهي توفر مزيداً من الوقت لأفراد الأسرة، بعيداً عن مسؤوليات الحياة، والمهام الدراسية، وعلى الوالدين سوياً استغلالها للتقرب من الأطفال، ومشاركة لحظات سعيدة معهم، وهي من أهم أساليب تخفيف الضغط عن كاهل الأم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...