اقتحم منذ بضعة أيام محتجون من مجموعة MoMA divest متحف MoMA PS1، وقاموا بتمزيق نسخ من لوحات الفنان العراقي المقيم في برلين، علي ياس، الذي كان مشاركاً في معرض "مسرح العمليات: حروب الخليج 1991-2011"، وذلك بعد التنسيق معه، احتجاجاً على ما يسمّى "الفلانثروبي السامة" التي "على المتحف أن يعترف بالنفاق حين يعرض أعمال أناس مستلبين ومحرومين -كحالة العراقيين هنا- لكنه في ذات الوقت يستمر بالتنفّع، ولو بصورة غير مباشرة، من إسالة الدماء والأسى الذي يقع على أولئك الناس أنفسهم".
قبل الوصول إلى لحظة تمزيق اللوحات، كان المتحف قد استلم رسالتين، الأولى من 37 فناناً وفنانة مشاركين بالمعرض، والثانية أرسلها 45 من المحاربين القدامى الذين شاركوا في حربي الخليج والحرب العالميّة ضد الإرهاب، وفي كليهما مطالب بالتخلي عن الروابط بين المتحف وعضوي مجلس الأمناء لاري فنك، صاحب شركة بلاك روك التي تستثمر في أكبر شركتي سجون خاصة في الولايات المتحدة، وليون بلاك، صاحب شركة كونستيلز هولدينج، التي كانت تسمى "بلاك ووتر وورد وايد"، والتي تقوم بعمليات حربية واستخباراتية في مختلف أنحاء العالم، بالتعاون مع وزارة الدفاع الأمريكية، والمسؤولة عن مجزرة ساحة النسور في بغداد، والتي راح ضحيتها 17 عراقياً وجرح 20 آخرون عام 2007.
لم يرد المتحف على أي من الرسالتين، وسبق ذلك ولذات الأسباب، انسحاب الفنان البريطاني فيل كولينز من المعرض، قبل افتتاحه في أكتوبر العام الماضي، كذلك رفض المتحف تعديل واحد من الأعمال الفنية التي أنجزها الفنان العراقي-الأمريكي مايكل راكوفيتز، ما دفع الأخير للقيام بذلك بنفسه، إذ قام بزيارة المتحف لتعديل العمل، لكن المتحف ألغى التعديل بمجرد مغادرته.
اقتحم منذ بضعة أيام محتجون من مجموعةMoMA divest متحف MoMA PS1، وقاموا بتمزيق نسخ من لوحات الفنان العراقي المقيم في برلين، علي ياس، الذي كان مشاركاً في معرض "مسرح العمليات: حروب الخليج 1991-2011"، وذلك بعد التنسيق معه
سلسلة لوحات ياس المشاركة في المعرض تحمل اسم "1992؛ الآن"، وهنا النص الذي ألقاه ياس على أسماع الموجودين قبل التمزيق مباشرة عبر فيديو مسجّل:
لن أتحدث عن الحرب لأنها من الماضي، بل عن المقاومة لأنها "الآن".
تلك عبارة كانت ضمن النص التقديمي الأصلي لسلسلة أعمالي المستمرة "1992؛ الآن"" والتي تشارك في معرض "مسرح العمليات: حروب الخليج 1991-2011" في متحف "موما بي إس 1".
لم تظهر العبارة في النص النهائي على الحائط، لكني أسترجع موقفي هنا من خلال هذه الكلمات وهذا الفعل، تماماً كما استرجعت رسومات طفولتي؛ تلك التي فقدتها أثناء تنقلي من مكان لآخر ومن منفى لآخر، وكما فُقدت كلمتي خلال "المیكانیكا المؤسساتية" لهذا المعرض.
أعتبر الرسم شكلاً من أشكال المقاومة: مقاومة بوجه التواطؤ على تدمير واستغلال الإنسان والتاريخ. أسترجع من خلال هذه الأعمال حقي في المقاومة في المتحف، كما يفعل أبناء جيلي من العراقيين الذين يقودون ثورتهم اليوم ضد الخراب والاستغلال.
وإنني إذ أقدّر كوني جزءاً من الحوار الذي جمعني مع فنانين من بلدي الأم، ورفاق آخرين من العاملين بالفن، إلا أنني في الوقت ذاته أرفض رفضاً مطلقاً دور عضو مجلس أمناء المتحف، في الاستفادة من الحروب والاستثمار في حروب لا تزال مستمرة كدوامات عنف تعصف بالعراق والعراقيين.
ما فاقم الموضوع هو تجاهل إدارة المتحف لكل محاولات الحوار السابقة التي بدأها فنانون وناشطون حول هذه القضية، والتي تجلت برسالة مفتوحة أرسلها 37 فناناً وفنانة من المشاركين في المعرض، وأخرى أرسلها مجموعة من المحاربين القدامى الذين شاركوا في حروب الخليج و"الحرب العالمية ضد الإرهاب".
ناقض سلوك المتحف رسالة المعرض الأساسية، فبدلاً من فتح حوار حول الحروب في العراق، تم إسكات الأصوات التي عبرت عن موقف مغاير.
ليس بعد هذه اللحظة! أطلب من المتطوعين تثبيت هذه اللحظة، من خلال تمزيق ثمانية من أعمالي، وتحديداً تلك التي تحتوي على مخلوقين اثنين في حالة حوار، مع إبقائها معلقة على الحائط. ذلك الصدع بين المخلوقين، دلالة على كل الدعوات التي ذهبت سدى، لأجل فتح حوار جادّ وشفاف مع المتحف حول هذه القضية، وبما أنّ الأعمال في قيد تشكل دائم، فإن هذا الفعل تطوير لشكل العمل وتفاعله مع ظرفه وسياقه المحيط به، والذي تحقق جماعياً من خلال شركاء ورفاق جعلوا من عبور الحدود ممكناً، في الوقت الذي تقيده قوانين الهجرة العنصرية.
على صعيد آخر، فإن هذا الفعل هو استعادة للسرد المحيط لعملي في هذا المعرض، وللسياق الذي سمح له بالوجود، إذ إن هذه الأعمال أنتجت بالأساس كمحاولة لاسترجاع ما تم تدميره في السابق، ذلك الدمار الذي لا تزال تداعياته حاضرة حتى يومنا هذا، سواء عليّ كفرد، أو على كل من يشاركني شروط الحياة نفسها، من الاقتلاع وعرقلة التحرّك، أو حتى على العراقيين الذين يقاتلون الآن من أجل مستقبل أفضل لبلادهم.
ختاماً، لم يكن هذا الفعل ممكناً لولا جهود الناشطين في "موما دايفست"، فمن خلال التزامهم بإنهاء الانتفاع من الحروب والسجون، والذي تحول إلى فعل عابر للحدود، ينطلق بالأساس من فكرة تضامن الناس في الهوامش من أجل خلق أفق للفعل الجماعي، وإيجاد خطاب بديل قائم على الحرية والمساواة والعدالة المطلقة".
علي ياس
برلين 29، شباط، 2020
التقينا في رصيف22 مع ياس، الذي أخبرنا أن المحتجين فوجئوا حين وصولهم إلى الصالة، بأن اللوحات قد أزيلت، وكُتب "أنها غير متوافرة للعرض" وحين سؤال الحراس، قالوا إن السبب هو "ضمان سلامة العمل الفني"، ولم تُشرح العبارات السابقة لـلـ70 محتجاً، فما هو الأمن الذي يُخشى عليه من محتجين سلميين؟ ولم اللوحات غير متوافرة؟ الأهم، حسب ياس، أن المتحف منع المحتجين من الوصول إلى الحائط الفارغ الذي كانت الأعمال معروضة عليه، كل ذلك تحت مراقبة حراس المتحف وعناصر أمنية إضافية وشرطة نيويورك التي كانت في المكان.
في تمزيق لوحاته في MoMA PS1، يطالب الفنان العراقي المقيم في برلين، علي ياس، المتحف المضيف أن يعترف بالنفاق حين يعرض أعمال العراقيين، لكنه في ذات الوقت يستمر بالتنفّع من إسالة الدماء والأسى الذي وقع عليهم
تجاهل المتحف للرسائل ولرغبات الفنانين، وسياساته أثناء المعرض، لعب دوراً قمعياً مزدوجاً، يتمثل الأول بالتغاضي عن كل دعوات الحوار، والتي كان من المفترض أن يمثلها المعرض، عبر منح الأعمال الفنية فرصة الظهور، والدور الثاني يتجلى في تجاهل المتحف لمحاولة ياس استعادة سرديته حول هذه الأعمال، ليبدو المتحف هنا أشبه بسلطة سردية، من المفترض أن تدعم الفنانين برسالتهم لا أن تمارس رقابة عليها، تتحكم بإظهار أو "إخفاء" وجهات النظر، كما حصل مع لوحات ياس، الذي تصادر حقه بإعادة تكوين أعماله تماشياً مع وجهة نظره وموقفه المتفاعل مع السياقات التي يؤول فيها عمله، وكأن المتحف جامع فيتيشي، يصطاد الأعمال ويستعرضها، ويخلق حكاياته الخاصة عنها، كونه صاحب "فضاء الظهور" وصاحب القوة ومولّد الحكاية التي تضمن تماسك موقفه أمام جمهوره.
يخبرنا ياس أنه اختار اليوم الأخير من المعرض لتمزيق اللوحات، كي يضمن وجود شهود أكثر- ولأسباب لوجستية تتعلق بجاهزية المتطوعين- ولترك الباب مفتوحاً أمام المتحف للحوار حتى اللحظة الأخيرة.
الأهم أن المتحف بفعلته هذه، وقبلها بتعديله لعمل الفنان راكوفيتز، يمكن أن يتهم بالتخريب، فماذا لو كان تمزيق اللوحات جزءاً من العمل الفني؟ بالتالي يمكن القول إن ما قام به المتحف هو استهداف مباشر لوحدة العمل الفني الخاص بياس، وتفاعله مع زمنه. يعلق هنا ياس على رأينا بقوله: "أعتقد أننا لسنا بحاجة للافتراض، فالحقيقة أن إدارة المتحف حالت دون حقي بممارسة عملي كفنان، وقمعت بشكل سلطوي تصوري للتعبير عن هذا الاحتجاج فنياً، فما حدث لم يكن غضباً فقط أو حاجة للتعبير السياسي، بل أيضاً جزءاً أصيلاً من دورة حياة العمل نفسه، القائمة بشكل جوهري على حرية التعبير في الممارسة الفنية".
كان هناك مخاطرة في تنظيم هذا الأداء، وكان المحتجون وياس على تواصل مع محام ليضبطوا أداءهم لضمان عدم اعتقال المحتجين، لكن اختفاء اللوحات الأصلية هدد الأداء نفسه، لكن المحتجين وياس كانوا مستعدين لكل الاحتمالات، لذلك كان لديهم خطة بديلة، إذ كانت معهم نسخ مطبوعة عن تلك المعلقة، وبعد إيقافهم من قبل الأمن والشرطة في القاعة الأولى من الطابق الثالث الذي يتواجد فيه العمل الأصلي، ومنعهم من دخول الصالة وتمزيق النسخ أمام الجدار الأبيض الخالي، قاموا بالتمزيق في مدخل الطابق أمام الكاميرات وأعين المارة.
يقول ياس إن ما قام به المتحف يعيدنا إلى نقطة جوهرية في خطاب المستعمر، وتظهر عادة حين الحديث عن الآثار المسروقة أو المنهوبة، والتي يتم التحجج عادة بأن أصحابها في حالة "عجز وقصور دائمين" عن حمايتها أو تقدير قيمتها، وما قام به المتحف هو مصادرة حق الفنان بالاحتجاج من خلال أعماله، وإقصاء لأي رؤية نقدية للمؤسسة وخطابها.
ملاحظة: المعلومات عن الأداء بأكمله وتفاصيله مأخوذة من لقاء مع الفنان علي ياس المقيم في برلين، ومقال لحكيم بشارة الذي كان حاضراً حينها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...