عُمره من عُمر العلاقات المصرية الصينية، أي 62 عاماً. ولد عام 1956 من أب صيني وأم مصرية، في نفس العام الذي اعترفت فيه مصرُ بجمهورية الصين الشعبية، بعد 7 سنوات من قيامها في أكتوبر 1949. هاني يان روي شيان، الملقب بين من يعرفونه بـ"التنين"، عميد الجالية الصينية في مصر مُنذ عام 2005. التقيناه في أحد فروع مجموعته، "بكين (PEKING) للمطاعم"، بحيّ المعادي، جنوب القاهرة.
بمجرّد اجتياز الباب، تشعُر وكأن آلة الزمن ألقت بك خلال ثوانٍ، داخل إحدى المطاعم العريقة بالعاصمة الصينية، حيث تصميمات وديكورات وزخارف موزعة بعناية في كلِّ ركن، تُجسد التقاليد الصينية الخالصة.
استقبلَنا بابتسامة، بدا منها هادئاً ورزيناً. وحينما تُحادثه تشعُر وكأنه امتزاج بين فيلسوف صينيّ وحكيم مصري. دائمًا ما يصف نفسه:" أنا جسر بين حضارتين عمرهما آلاف السنين".
"إذا أردت أن تعرف حكاياتي، فأنت في حاجة أولاً، لتعرف والدي". هكذا بدأ كلامه معنا، وطلب لي عصير برتقال ولنفسه قهوة، ثمّ أكمل: "في أحد أيام خريف 1937، رَست سفينة بخارية بميناء بورتوفيق بالسويس، ومن بين ركابها كان يان هونغ ياه، صاحب السابعة عشر عاماً، قادمًا من مقاطعة "شاندونغ"، شمال شرق الصين، إثر الحرب القائمة بين الصين واليابان (1937- 1945).
وكانت مصر آنذاك، جاذبة للأجانب، مليئة بالجاليات، وكان معظم أبناء الجالية الصينية من المسلمين الدارسين بالأزهر، وهناك 7 أو 8 عائلات صينية، يُسمَّوْن بـ"الجالية الصينية القديمة"، جاءوا إثر حروب الكومينتانغ والقوات الثورية، ثم حرب الصين مع اليابان.
يقول هاني: "في ذلك الوقت، نزل والدي من علي متن السفينة، وقد رأى في مصر شيئًا مُميزًا، دفعه لأن يبدأ حياته الجديدة فيها. لم يكن والدي يعرف لُغات، لكنه كان مثابراً وذكياً. بدأ يعمل في بيع التحف الصينية بعدما وجد منفذاً لها. كُنت محظوظاً لميلادي وسط تلك التحف التي قربتني من الصين. عمل والدي ونجح، وكان عليه أن يعلن استقراره".
كان من غير المألوف أن يتزوج الرجل الصيني من أجنبية، لكن يان هونغ ياه، وجد نفسه واقعاً في حبِّ فتاة قاهرية، جذورها تعود إلى مدينة طنطا، شمال القاهرة، ولها أصول شامية تعود إلى عام 1800.
يروي هاني: "كان بينهما فارق ثقافي واضح. والدتي متفتحة متحفظة، تحتلّ القيمُ المساحةَ الأكبر من حياتها. ووالدي لم يكن يمتلك تلك الثقافة، لكنه كان فطريًا. غير أن قصة الحب العظيمة التي ولدت بينهما، كسرت الحواجز وأذابت الفروق. ومؤخرًا نعكف على إنتاج فيلم من سيناريو ناصر عبدالرحمن وإخراج خيري بشارة يتناول قصة والدي ووالدتي، وهو من إنتاج مصري صيني مُشترك".
قصة اسم هاني
لاسم هاني قصة، تسببت في إزعاجة خلال الأعوام الأخيرة، وفي محاولة منه للتغلب عليها كَتَبَ صفحتين وطبعهما تحت عنوان "حكاية اسم".
عن تلك القصة، يقول: "حينما وُلدت، اتفق والدي مع بعض أصدقائه من الجالية الصينية على تسميتي (روي شان). والأسماء في الثقافة الصينية القديمة مرتبطة بالسَّنَة والشهر والبرج، ويُضاف إليها اسم العائلة قبل اسم المولود، فكان (يان روي شان).
ويواصل هاني: "لكن حينما أخبروا والدتي بالاسم نصحتها الممرضة المرافقة لها أثناء الولادة أن هذا الاسم قد يتسبب في عقدة لطفلها، ومن الأفضل تسميته بـ"هاني"، وقد كان. غير أنه سُجّل في دفاتر المواليد بطريقة خاطئة (هاني يان سوي شانغ)، ثم سُجّل في جواز السفر بطريقة خاطئة أيضًا، لاعتمادهم في السفارة على قاموس الحزب الشيوعي للغة آنذاك. ومع زيادة أعداد الصينيين خلال السنوات الأخيرة طفت مشكلة الاسم على السطح".
أنا مصريّ صينيّ، وصينيّ مصريّ. أشعُر دائماً أنني جسر بين حضارتين عمرهما آلاف السنين. كثير من الأشياء المُشتركة بين الحضارتين، حتى فى المأساة والحروب في التاريخ الحديث، يتشابهان كثيراً
ويُكمل: "أصحبتُ 3 أشخاص في نفس الوقت. اسمي في دفاتر المواليد غير جواز السفر، وغير سجلات السفارة بعض الشيء. كيف أثبت أني هاني يان روي شيان؟ هذا ما واجهته في بعض التعاملات الورقية الرسمية بين حين وآخر. وفي كُل مرّة استخدم (حكاية اسم) كطوق نجاة لأختصر الشرح، وتنجح الخطة".
كيف تأسّس المطعم؟
دَرَسَ هاني الطبّ في القصر العيني بجامعة القاهرة منذ 1973 حتى 1978، وتخرّج من أكاديمية الفنون المصرية، قسم الإخراج، ليُكرَّم كأول أجنبي متفوق في عيد الفن عام 1982. وفي النهاية، وجد نفسه، مسئولاً عن مطعم.
"إنه القدر، والقدر لا يصنعك، ولا يصنع سيرتك، لكنه يضعك في مكان ما، وعليك أن تستسلم له، أو تقاومه"؛ هكذا وصف هاني يان المسألة.
ثمّ واصل: "تركتُ دراسة الطب لأبتعد عن الأجواء السياسية المشحونة بجامعة القاهرة في ذلك الوقت، كاحتجاجات ومظاهرات الحركة الطلابية عام 1972. التحقتُ بعدها بأكاديمة الفنون، وتخرجت بتفوق، وأخرجت فيلماً ميلودرامياً عنوانه (عدوّ مكتوب). ثم وضعني القدر في المطاعم".
إذا لم نعلم كيف نأكل، وكيف نتذوق الطعام، لن نستطيع تذوّق الحياة
عام 1963، تأسّس مطعم "بكين"، لثلاث شركاء، والد هاني، وعمّه، وشريك صيني آخر. وقد اختاروا له اسم العاصمة الصينية (بيكين)، هادفين منه إلى لمّ شمل الصينيين في القاهرة. غير أنه بمرور السنوات، وتحديداً أواخر ثمانينيات القرن الماضي، واجه أقدم المطاعم الصينية في مصر مشاكلَ في سداد المديونيات التي تراكمت عليه والضرائب، فلجأ الشركاء الثلاثة إلى هاني، وأسندوا إليه إدارة المطعم.
يقول: "لكي تقومَ بشيء ناجح، لابدّ أن يكون لديك اهتمامٌ به. والحقيقة أنني لم أكن أهوى المطابخ، فكان عليّ أولاً أن أعرف هذا العالم؛ فبدأتُ القراءة عن الطهي، ووجدتُه عالماً مُتسعاً، لولاه لما استمرّت حياة الجنس البشري على الأرض".
ويستمرّ هاني في حديثه: "قد تبدو تلك المهنة للبعضِ غيرَ ذات قيمة، لكنكم إن فهمتموها جيداً لاستطعتم النجاح في كثير من أمور حياتكم. محطات التليفزيون والصحف العالمية، تناولت قبل أشهُر، حدث وفاة أشهر الطهاة الفرنسيين؛ جويل روبوشون (73 عاماً)، وفي هذا التناول دليل على أهمية الطبخ. دائمًا ما أقول: إذا لم نعلم كيف نأكل، وكيف نتذوّق الطعام، لن نستطيع تذوّق الحياة. ومن هُنا تحوّلت الحياة بالنسبة لي إلى مطبخ كبير؛ فبدأتُ في دراسة المكونات المُتاحة، ووسائل الطهي المناسبة، لكي أجعل الطعامَ الصينيَّ قريباً من المذاق المصري".
ولا يخفي هاني عشقَه للطعام المصري، حتى أنه حوّل أحد فروع مجموعته القاطن في (سرايّ الأزبكية) في القاهرة الخديوية إلى مطعم شرقي لتقريب الأكل المصري من العالمي.
لا يخفي هاني عشقَه للطعام المصري، حتى أنه حوّل أحد فروع مجموعته القاطن في (سراي الأزبكية) في القاهرة الخديوية إلى مطعم شرقي لتقريب الأكل المصري من العالمي
أسّس هاني شركةَ بكين للمطاعم، وكان الشريك الأكبر فيها. وخلال سنوات قليلة حقّق نجاحاً كبيراً بوصول عدد فروع بكين إلى 9 مطاعم. واحد في الساحل الشمالي، و8 أخرى في أنحاء متفرقة في القاهرة. ويُقدّم فيها طبق المُقبلات الخاص به والأكثر شُهرة (شاندونغ)، نسبة إلى مسقط رأس عائلته.
ولا يخفي هاني عشقَه للطعام المصري، حتى أنه حوّل أحد فروع مجموعته القاطن في (سراي الأزبكية) في القاهرة الخديوية إلى مطعم شرقي لتقريب الأكل المصري من العالمي. "أحب المطعم المصري لأنه يمتلك مزيجاً ثقافياً خاصاً. الأكل المصري متنوّع، لكنه يحتاج إلى تطوير. علينا أن نعلم في مصر أن بعض دول العالم، سياحتُها قائمة على الطعام، ولذلك يحتاج الأمر إلى نظرة مُعمّقة".
بين مصر والصّين
عام 1973، وعُمره 17 عاماً، أي في نفس سنّ والده حينما خطَتْ قدماه أرض مصر، زار هاني الصينَ لأوّل مرّة في حياته. حدث الأمر للمرّة الأولى عبر دعوة من أحد أصدقاء والده، ومُنذ أن زار بكين دخولًا من هونغ كونغ، لم تتوقف زياراته إلى الصّين.
أصبح هاني ممثلاً رسمياً للمغتربين المصريين في الصين فيما يُسمى بـ"المؤسسة المركزية للمغتربين الصينيين"، وكان أحد المدعوين رسمياً إلى الاحتفال بإقامة الصين الشعبية في 2009. ومؤخراً ترك مكانه للشباب الصيني، لتولّي أمر تمثيل المغتربين في بلدهم.
يتابع هاني: "العلاقة بين مصر والصين علاقة طيبة وقوية وقديمة؛ حين تأسست الصّين كجمهورية شعبية عام 1949، كانت مصر أوّل دولة عربية وأفريقية تعترف بها رسمياً في 1956. وخلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وخلال حرب مصر وإسرائيل عام 1967، كثيرٌ من الجاليات الأجنبية تركت مصر، إلا الجالية الصينية والجالية اليونانية، فتمسكا بالبقاء فيها".
يشرب فنجان قهوته الثاني: "أنا مصريّ صينيّ، وصينيّ مصريّ. أشعُر دائماً أنني جسر بين حضارتين عمرهما آلاف السنين. كثير من الأشياء المُشتركة بين الحضارتين، حتى فى المأساة والحروب في التاريخ الحديث، يتشابهان كثيراً. قد مرّت مصرُ بفترة استعمار وحرب، والصّين عاشت لسنوات في حروب أشد قسوة. أعتبر نفسي مزيجاً من حضارتين: المصرية القديمة التي دائماً ما تبحث في ما وراء الحياة، والصينية القديمة التى تبحث في كيفية أن تحيا الحياة".
يُشعل سيجارة جديدة والابتسامة تعلو وجهه: "أُدخّن بشراهة؛ هذه عادة مصرية فيّ". يتوقف حديثه قليلاً، قبل أن ينقله إلى زاوية أخرى: "مصر في حاجة جدية إلى فهم الطرف الآخر، أي الصين. لابدّ من إنشاء مراكز بحثية، ودعم القائمين عليها، لفهم العمق والبعد الصيني والعقلية الاقتصادية للصين، حتى نتمكن من الاستفادة، أقصى ما يُمكن، من مبادرة (الحزام والطريق) التي أطلقتها الصين في مايو 2017 باعتبارها أكثر سياسات الرئيس الصيني (شي جين بينغ) طموحاً". وينوّه بضرورة الاهتمام بالسياحة الصينية في مصر، خاصة وأن هناك نحو 100 مليون سائح صيني، موضحاً: "نحتاج إلى تنظيم السياحة لمنع المضاربات بالشكل الذي يُسهم في زيادة أعداد السائحين الصينيين. أن تقتربوا من الصين يعني أنكم اقتربتم من العالم كُلّه. هناك تطور في ما يخُصّ السياحة الصينية في مصر، ولكننا بحاجة إلى سرعة أكبر".
قبل أن يسير بسُرعة البرق، فيواكب الإيقاع السريع للمجتمع المتحضّر، اختتم هاني حديثاً تخطى الساعتين، قائلًا: "مصر دولة لها ثقل، وشعبها ذات تأثير كبير في المنطقة. بلدنا لديها خلطة سحرية تحتاج أن تفهمهما، وتعتاد عليها، لتنجح".
"أستاذ هاني، أنت مصري صيني، أم صيني مصري؟"، نسأله، فيشير باصبعيه مبتسماً: الاتنين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...