اهتم المؤرخؤن بالتأريخ لسير الحكام والخلفاء والأمراء، وذلك في الأغلبية الغالبة من مدوناتهم وحولياتهم التاريخية.
الباحث في تلك المدونات سيلمس الهوة الواسعة الفاصلة بين حال الحكام من جهة، وحال الشعوب من جهة أخرى، فبينما رسمت لنا الروايات صورة مشرقة لقصور الحكم وبيوت الأمراء، فإنها على الطرف الأخر قد نقلت لنا ملامح حزينة من معاناة الشعوب التي لا نهاية لها.
قصة الزواج الأسطوري لقطر الندى بنت خمارويه، ثاني حكام مصر من الطولونيين، بإمكانها أن تعبر بشكل واضح عن تلك الجدلية، وأن توضح كيف انعكس ترف السلطة على العامة في صورة بؤس وشقاء.
كيف وضعت المصاهرة حداً للصراع الطولوني العباسي؟
في 279هـ، توفي الخليفة العباسي المعتمد على الله، وبُويع لابن أخيه أبي العباس أحمد بن الموفق بالخلافة، والذي تلقب بالمعتضد بالله.
في تلك الفترة التاريخية الحرجة التي تزامنت مع حكم كل من المعتمد والمعتضد في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، حاولت الخلافة العباسية استعادة قوتها وحيويتها من خلال مناهضة نفوذ القادة الأتراك في بغداد، واستعادة سطوتها على الأقاليم الإسلامية، ومن هنا لم يكن من الغريب أن يدخل العباسيون في صدام مع الدولة الطولونية الحاكمة بمصر، وذلك في عهد كل من مؤسسها أحمد بن طولون، وابنه أبي الجيوش خمارويه.
أراد خمارويه، الذي تبادل النصر والهزيمة مع جيوش الخلافة في أكثر من معركة، أن يقيم علاقات هادئة مع الخليفة المعتضد، فأرسل له بالهدايا والتحف، وأعلن عن رغبته في السلم والمهادنة، فما كان من الخليفة إلا أن وافق على طلبه، وأقره على البلاد التي تحت يده، وأرسل له بسيف ذهبي يرمز لشرعية سلطته على أملاكه الواسعة في مصر والشام.
أراد حاكم مصر أن يهيئ الطريق لاعتلاء أحد أحفاده كرسي الخلافة يوماً ما، ومن هنا فقد عرض على الخليفة أن يتزوج ابنه، أبو محمد علي المكتفي بالله، من أسماء بنت خمارويه، والتي اشتهرت باسم قطر الندى، وكانت بحسب ما يصفها شمس الدين الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء، "بديعة الحسن، جيدة العقل".
"الحنة يا حنة يا قطر الندى": زواج أسطوري خلدته الأغاني الشعبية
لما كان الخليفة العباسي يفهم جيداً حقيقة نوايا خمارويه، فقد وافق على طلب المصاهرة، ولكنه خطب قطر الندى لنفسه، وأرسل مهراً عظيماً لها، وهو ما حددته المصادر التاريخية بألف ألف –مليون- درهم.
خمارويه الذي كان يريد أن يعبر جهاز ابنته -ذات الأربعة عشر ربيعاً- عن ثروة مصر وعظم مكانتها ومنافستها لعاصمة الخلافة، كلف أحد تجار بغداد ويُدعى ابن الجصاص، بإعداد جهاز قطر الندى، وأمره بأن ينفق على هذا الجهاز بسخاء ودون أن يهتم بالأموال، ومن هنا فقد صار هذا الجهاز مضرباً للأمثال، وأعجوبة من أعاجيب الزمان، إذ وصفه المؤرخون في مؤلفاتهم وأبدوا اندهاشهم وإعجابهم بمكوناته ومحتوياته ونفائسه.
"الحنة يا حنة يا قطر الندى": زواج أسطوري خلدته الأغاني الشعبية
على سبيل المثال، ذكر ابن تغري بردي في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، بعضاً من تفاصيل جهاز قطر الندى، فقال: "وكان من جملة جهازها أربع قطع من ذهب عليها قبة من ذهب مُشبّك، في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة من جوهر لا يعرف لها قيمة، ومائة هاون من الذهب"، أما المسعودي فقد ذكر في كتابه" مروج الذهب"، أنه كان من بين جهاز قطر الندى: "عشرون صينية ذهبية في عشرة منها مشام الصندل زنتها أربعة وثمانون رطلاً، وعشرون صينية من فضة في عشر منها مجامر وزنها نيف وثلاثون رطلاً، ومن الثياب ما ثمنه عشرة آلاف دينار ذهبي".
وقد أجمل تقي الدين المقريزي وصف هذا الجهاز بقوله: "جهاز ضاهى به نعم الخلافة، فلم يبق خطيرة ولا طرفة من كل لون وجنس إلا حمله معها..."، وذلك في كتابه الخطط المقريزية، في حين حدد الذهبي القيمة الإجمالية لجهاز قطر الندى، بألفي ألف –مليوني- دينار.
ترف السلطة وبؤس العامة: كيف ظهر وجها العملة في القصة الأسطورية لزواج قطر الندى؟
جهاز قطر الندى لم يكن الأمر الوحيد الذي يعبر عن ترف الطولونيين، بل مما فاق ذلك ما أوردته المصادر التاريخية، عندما ذكرت أن خمارويه قد أمر ببناء قصر في كل محطة ينزل بها موكب ابنته، على طول الطريق بين مصر وبغداد، وذلك حتى تنزل فيه قطر الندى، ولا تستوحش الرحلة الطويلة، والتي استغرقت ما يزيد عن عام كامل. ولذلك بُنيت القصور الفخمة في كل من سيناء والأردن وتخوم العراق، وجُهزت بالأثاث والمفروشات الباهظة الأثمان.
أيضاً كانت الولائم العظيمة والأسمطة الممتدة من الملامح المعبرة عن ترف الاحتفال بالأميرة الطولونية الجميلة، إذ احتفلت الفسطاط ومدن الشام التابعة للحكم الطولوني بتلك الزيجة السعيدة، وأقيمت الأفراح وعلقت الزينات في كل مكان، وذكر بعض المؤرخين أن خمارويه قد تكفل بسداد نفقات كل الفتيات المقبلات على الزواج في تلك الفترة، كما قد قيل إن ليالي الحنة التي سبقت خروج قطر الندى من قصر أبيها، قد امتدت على مدار أربعين ليلة كاملة، وأن تلك الحنة قد وزعت بعدها على بنات الفسطاط، فكفتهم جميعاً.
من هنا يمكن فهم السبب الذي خلد زواج قطر الندى في الثقافة الشعبية المصرية، إذ صار من المعتاد أن يُضرب المثل بتلك الزيجة، كما أضحى من الشائع أن تُنشد الأناشيد التي تذكر قطر الندى يوم الحنة، وهو اليوم الذي يسبق زفاف العروس مباشرة، ومن أشهر تلك الأناشيد، ذلك الذي يبدأ بالمقطع المشهور: "الحنة يا حنة يا حنة يا قطر الندى".
مقتل خمارويه، موت قطر الندى، ومعاناة المصريين: النهاية المأساوية للقصة الأسطورية
على الرغم من كل مظاهر الترف والأبهة التي احاطت بزفاف الأميرة الطولونية الجميلة، فأن الأحداث قد آلت في المنتهى إلى مصير مؤلم وقاس لكل من خمارويه وابنته، فضلاً عن دخول البلاد المصرية في وضع مأساوي ومزر، ما عرّض عامة المصريين لأوضاع اقتصادية صعبة.
فيما يخص خمارويه، فقد اكتشف بعد تزويج ابنته للخليفة، أنه قد وقع ضحية فخ مُحكم، وأن المعتضد بالله بقبوله لتلك الزيجة إنما أراد أن يستنزف من مصر القدر الأكبر من ثروتها، وقد أشار الذهبي إلى تلك المسألة بقوله: "قيل أراد أن يفقره بجهازها".
العواقب الوخيمة للإسراف على جهاز قطر الندى سرعان ما ظهرت بعد شهور قلائل من إتمام الزواج، ففي أثناء مقام خمارويه بدمشق، طالبه قادة جيشه بالنفقة والأعطيات، ولما كان عاجزاً عن تلبية مطالبهم لقلة الأموال، فأن هؤلاء القادة قاموا بقتله، وأشاعوا أنهم إنما قتلوه بسبب أخلاقي، وهو ممارسته الفاحشة مع أحد الغلمان في قصره.
أما العروس الجميلة، فقد تعرضت في بغداد لنهاية مؤسفة وحزينة هي الأخرى، إذ ناصبتها زوجات الخليفة المعتضد الأخريات العداء، بعدما رأين عظمة جهازها ولمسن رفعة مكانتها، وكانت أكثر تلك الزوجات عداءً لقطر الندى، السيدة شغب، التي استأثرت بحب الخليفة المعتضد بالله وعطفه، حتى أنها أقنعته بتنصيب ولدها المقتدر بالله كولي للعهد.
وهكذا، أنزوت قطر الندى في قصرها المنيف في بغداد، بعيداً عن صخب السياسة وشؤون الحكم والسلطة، لتموت وحيدة حزينة بعد مقتل أبيها بعدة أشهر، تاركةً ذكرى لا تنمحي لموكب زفاف أسطوري يتذكره الناس جيلاً بعد جيل.
أما إذا تركنا مصير الطولونيين جانباً، ونظرنا في مصير الشعب المصري، فسنجد أن الأوضاع الاقتصادية في مصر قد شهدت تراجعاً واضمحلالاً شديدين في السنوات الأخيرة من حكم خمارويه، وذلك بحسب ما يذكر سعد هجرس في كتابه "الزراعة المصرية"، وكان هذا أمراً طبيعياً في ظل تراجع نفقات الدولة على المرافق الزراعية، ومنها الكباري والسدود والترع والمصارف، وضعف الاهتمام بفلاحة الأرض الزراعية. ومما ضاعف من الآثار الكارثية لتلك الزيجة في عهد خلفاء خمارويه، أن الطرفين، خمارويه والمعتضد بالله، كانا قد اتفقا قُبيل اتمام الزواج على أداء الطولونيين لضريبة تقدر بـ 300 ألف دينار ذهبي سنوياً لخزانة الخلافة.
كل تلك الضربات الموجعة للاقتصاد المصري، تضافرت مع بعضها البعض لتحدث هزة عنيفة في البناء السياسي للدولة الطولونية، إذ لم يتمكن خلفاء خمارويه من السيطرة على مطالب الجند المستمرة بزيادة أعطياتهم، ولم يتمكنوا في الوقت ذاته من تحسين حالة الاقتصاد المتردي، وهكذا تسببت تلك الزيجة الأسطورية التي انعقدت في سبيل تدعيم أركان الدولة الطولونية، في هدم تلك الأركان واحداً بعد آخر، ولم يبق من آثارها سوى بعض الأوصاف الباهرة في كتب التاريخ، فضلاً عن موروث غنائي شعبي تناقله المصريون خلال ما يزيد عن الألف عام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...