شهدت الثقافة الإسلامية في القرون الأولى بعد الهجرة ظهور نوع من أنواع التنافس والصراع المحتدمين بين الاتجاهين النقلي والعقلي، ومرّ هذا التنافس بمجموعة أطوار متمايزة تبادل فيها الطرفان الغلبة بحسب الظروف والمستجدات السياسية والاجتماعية.
وفي بدايات القرن الرابع الهجري، ظهر اتجاه عقائدي جديد على يد أبي الحسن الأشعري، ومع مرور الوقت تمكن الأشاعرة المتحالفون مع السلطة من توسيع رقعة نفوذهم العقائدي بين غالبية المسلمين، حتى صاروا يشكلون الشطر الأعظم من جماهير أهل السنّة والجماعة.
ظهور المذهب الأشعري
الطور الأول من التنافس بين أهل العقل الداعين إلى تفسير النص الديني عقلياً وأهل النقل الداعين إلى تفسيره عبر ما يمكن جمعه من أحاديث، وقع منذ النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وكان التيار العقلي، ممثلاً في المعتزلة، يحظى بتأييد السلطة السياسية العباسية، وذلك في عهود ثلاثة من الخلفاء العباسيين، هم المأمون والمعتصم والواثق بالله.
واشتهر في تلك الفترة الإمام أحمد بن حنبل (ت. 241هـ)، بوصفه الفقيه الذي صمد في زمن محنة خلق القرآن، وتمكن من الثبات على موقفه رغم كل المتاعب التي تعرّض لها، ليضع بموقفه هذا الأساس لتيار أهل الحديث من الذين اعتمدوا في فهمهم للدين على القراءة الحرفية للنص الديني.
ولكن الطور الثاني من التنافس شهد انقلاباً في الأوضاع، بعدما غيّر الخليفة المتوكل على الله في سياسة الدولة، ومال إلى أهل الحديث، فأنهى المحنة ونصر أهل السنّة. وفي هذا السياق ظهرت شخصية أبي الحسن الأشعري الذي بدأ حياته العلمية كأحد أتباع المذهب العقلي، وكان تابعاً مخلصاً لأبي علي الجبائي، أشهر شيوخ المعتزلة في القرن الثالث الهجري، ولكن بعد بلوغه عمر الأربعين "انقلب على المعتزلة، وصار من أهل الحديث، واستخدم المناهج العقلية التي تتلمذ فيها على المعتزلة خدمة لأهل الحديث، لتنشأ بذلك وضعية مثالية قوت فيها شوكة العقيدة السنّية"، بحسب ما يذكر المستشرق الأمريكي جورج مقدسي في كتابه "الأشعري والأشاعرة في التاريخ الديني الإسلامي".
شاع منهج الأشعري وانتشر بسرعة بين العلماء والفقهاء، وخصوصاً الشافعية منهم. ويفسر القاضي عياض في كتابه "ترتيب المدارك وتقريب المسالك" هذا الانتشار بقوله: "لما كثرت تواليفه، وانتفع بقوله، وظهر لأهل العلم ذبها على الدين تعلق أهل السنّة بكتبه وكثرت أتباعه، فنسبوا إليه وسموا باسمه".
مع ذلك، يبقى الانتشار الهائل والسريع للمذهب الأشعري بحاجة إلى تفسير وشرح، وهو الأمر الذي قد تبيّنه علاقاته الوطيدة وتحالفه الدائم والمستمر مع السلطات السياسية الحاكمة المتعاقبة.
عصر البويهيين والسلاجقة... طور الظهور والانتشار
بدأ المنهج الأشعري في الانتشار بين المسلمين بعد فترة قصيرة من وفاة أبي الحسن الأشعري عام 324هـ، في بعض الروايات، أو عام 330هـ في روايات أخرى.
تزامنت بداية هذا الانتشار مع وصول البويهيين الفرس إلى السلطة، عندما تقاسموا الحكم مع الخلفاء العباسيين في بغداد في النصف الأول من القرن الرابع الهجري.
البويهيون، رغم تشيعهم، سمحوا بقدر كبير من الحرية الدينية والمذهبية، ولم يعملوا على فرض مذهبهم العقائدي على العامة، ومن هنا تهيأت السبل لبزوغ المذهب الأشعري، على يد مجموعة من المتكلمين والعلماء الذين تبنّوا منهج أبي الحسن من جهة، وحظوا برعاية الدولة البويهية من جهة أخرى، ومنهم على سبيل المثال القاضي أبو بكر الباقلاني (ت. 402هـ) الذي عيّنه عضد الدولة بن بويه سفيراً إلى الإمبراطورية البيزنطية، وأبو إسحاق الإسفراييني (ت. 418هـ) الذي حكى شمس الدين الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أنه قد "بُنيت له في نيسابور المدرسة التي لم يُبنَ في نيسابور مثلها قبلها"، وهو القول الذي يشهد على رعاية الدولة ودعمها له.
أثّرت الظروف والمتغيرات السياسية في العراق كثيراً في تطور انتشار العقيدة الأشعرية. فمع حلول السلاجقة الأتراك محل البويهيين الفرس في الحكم، في أواخر النصف الأول من القرن الخامس الهجري، تعرّض الأشاعرة لمحنة عظيمة، بسبب اعتناق كل من السلطان السلجوقي الأول طغرلبك ووزيره عميد الملك الكندري للمذهب الحنفي ومعاداتهما لعلم الكلام، وسخطهما على الفقهاء الشافعية والأشاعرة، إلى حد حدا بطغرلبك إلى أن يأمر بأن يتم لعن أبي الحسن الأشعري من فوق منابر مساجد نيسابور، بحسب ما يذكر الذهبي في أحداث عام 445هـ، في كتابه "تاريخ الإسلام".
ولكن الأوضاع تغيّرت سريعاً، فالسلاجقة الذين كادوا أن يقضوا تماماً على الأشعرية في عهد طغرلبك أصبحوا بدءاً من عهد السلطان السلجوقي الثاني ألب الدين أرسلان، سبباً في نشرها والترويج لها واعتبارها المذهب العقائدي الرسمي للدولة، وكان السبب في ذلك اعتناق الوزير السلجوقي نظام الملك الطوسي (ت. 485هـ) لها، وتحالفه مع أعلام الأشاعرة في سبيل ترسيخ شرعية الدولة السلجوقية من جهة والنيل من أعدائها من جهة أخرى.
في بدايات القرن الرابع الهجري، ظهر اتجاه عقائدي جديد على يد أبي الحسن الأشعري، ومع مرور الوقت تمكن الأشاعرة المتحالفون مع السلطة من توسيع رقعة نفوذهم العقائدي بين غالبية المسلمين
أسّس نظام الملك عدداً كبيراً من المدارس الوقفية التي خُصصت لها أموال من الدولة، وعُرفت بالمدارس النظامية، وأقيمت في المدن والحواضر الكبرى في العراق وإيران، وكان أبرزها مدارس بغداد ونيسابور والبصرة وأصفهان وبلخ وهراة ومرو والموصل وطوس.
ويبدو أن الوزير أغدق في الإنفاق في سبيل تحقيق هدفه، إلى درجة أنه كان ينفق على مدارسه كل سنة، ما يقارب الـ 700ألف دينار، بحسب ما يذكر الدكتور محمد أبو النصر في كتابه "السلاجقة: تاريخهم السياسي والعسكري".
من خلال تلك المدارس التي استوعبت الآلاف من التلاميذ وطلبة العلم، روّج الوزير السلجوقي الشافعي الأشعري للأشاعرة، إذ استقدم كبار علماء الأشعرية وقلّدهم أكبر وأهم المناصب، ما حدا بهم ليصبحوا السلطة العلمية الرسمية المُعترف بها من الدولة. فعلى سبيل المثال، تم تعيين أبي إسحاق الشيرازي (ت. 476هـ) في المدرسة النظامية في بغداد، وكذلك تولى أبو المعالي الجويني (ت. 478هـ) التدريس في المدرسة النظامية في نيسابور، وخلفه على كرسيه بعد وفاته حجة الإسلام أبي حامد الغزالي (ت. 505هـ).
وفي تلك الفترة تحديداً، ظهرت مجموعة من أهم المصنفات الأشعرية التي لاقت رواجاً كبيراً عبر القرون، والتي كُتبت بدعم أو بتوجيه مباشر من السلطة. فعلى سبيل المثال، كتب الجويني كتاب "غياث الأمم في التياث الظلم"، المشهور باسم الغياثي، والذي يعّد واحداً من أهم المدونات السياسية في الثقافة الإسلامية السنّية، ويظهر فيه التهميش الواضح لفكرة الخلافة والبحث عن حلول بديلة لمفهوم السلطة عند المسلمين، وهو الأمر الذي يتماشى مع حكم السلاجقة والغياب شبه الكامل للخليفة العباسي عن المشهد السياسي. كما كتب الجويني لنظام الملك كتابه الشهير "العقيدة النظامية"، والذي ابتغى أن يجمع فيه العقائد الأشعرية في المسائل الخلافية، ليصير بذلك بمثابة العقيدة الرسمية للدولة.
في سياق آخر، صنّف الغزالي كتابه "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية"، بناء على رغبة نظام الملك، ولعب هذا الكتاب دوراً فعالاً ومؤثراً في محاربة الإسماعيلية المنتشرة في إيران، والتي كانت تمثل العدو الأكثر خطورة على المشروع السلجوقي حينذاك، إذ أعلن الغزالي في كتابه هذا تكفيره للإسماعيلية وقال: "القول الوجيز فيهم أنه يُسلك لهم مسلك المرتدين في النظر في الدم والمال والنكاح والذبيحة..."، ثم حدد طريقة التعامل معهم وقال: "لا سبيل إلى استرقاقهم، ولا إلى قبول الجزية منهم، ولا إلى المن والفداء، وإنما الواجب قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم... وأما النسوان فإنا نقتلهم... أما صبيانهم، نعرض الإسلام عليهم، فإنْ قبلوا قُبل إسلامهم، وردت السيوف عن رقابهم إلى قربها، وإنْ أصروا على كفرهم متبعين آباءهم، مددنا سيوف الحق إلى رقابهم وسلكنا بهم مسلك المرتدين".
عصر الأيوبيين والمماليك... طور الترسيخ والقوة
إذا كانت الدولة الزنكية قد ورثت التقاليد العسكرية والسياسية للسلاجقة في بلاد الشام، فإنها قد ورثت منها أيضاً الميل إلى المنهج الأشعري واعتباره المنهج الرسمي لأهل السنّة والجماعة.
لعب نور الدين محمود بن زنكي (ت. 569هـ) دوراً مهماً في ذلك عندما أنشأ مدرستين وقفيتين في كل من حلب ودمشق، وعهد بالتدريس فيهما لاثنين من كبار علماء الأشاعرة في القرن السادس الهجري، وهما قطب الدين مسعود بن محمد النيسابوري (ت. 578هـ) الذي تولى التدريس في مدرسة حلب، وأبو القاسم الحافظ ابن عساكر (ت. 571هـ) الذي تولى التدريس في مدرسة دمشق.
وكان صلاح الدين يوسف بن أيوب، والذي سيصير في ما بعد سلطاناً على مصر والشام والحجاز، من بين تلاميذ قطب الدين مسعود. ويذكر المقريزي في خططه أنه طلب من شيخه أن يصنف له عقيدة مختصرة على المنهج الأشعري، فكان يحفظها، وأمر بعد سلطنته بأن تقرأ في المساجد يومياً قبل صلاة الفجر "وصار يحفظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب...".
يبقى الانتشار الهائل والسريع للمذهب الأشعري منذ العصر العباسي بحاجة إلى تفسير وشرح، وهو الأمر الذي قد تبيّنه علاقاته الوطيدة وتحالفه الدائم والمستمر مع السلطات السياسية الحاكمة المتعاقبة
ميل صلاح الدين للأشعرية لم يكن مجرد ميل أو اختيار شخصي، بل كان في حقيقته توجهاً واضحاً من السلطة الأيوبية، وهو ما يؤكد عليه المقريزي بقوله: "أما العقائد فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري… وشرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر كالمدرسة الناصرية بجوار قبر الإمام الشافعي من القرافة، والمدرسة الناصرية التي عُرفت بالشريفية".
ومما يؤكد على رعاية الدولة الأيوبية للتوجه الأشعري أن واحداً من أهم الكتب الأشعرية صُنّف بأمر أحد سلاطين بني أيوب، إذ يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء، أن المفسر الأشعري الشهير الفخر الرازي (ت. 606هـ) ألف كتابه المشهور "أساس التقديس" للملك العادل محمد بن أيوب بن شادي، وهو أخ صلاح الدين.
بعد انتهاء الدولة الأيوبية، ظلت الأشعرية على حالها من القوة والتمكين بفضل رعاية سلاطين المماليك الذين اعتنقوها وتشربوا حبها منذ تربوا في كنف الأيوبيين.
من أوضح الأدلة على ذلك، المرسوم الذي أصدره السلطان الظاهر بيبرس عام 665هـ بقصر التعامل في مجال الفتوى على أحد المذاهب السنّية الأربعة وفي مجال العقيدة على مذهب الأشعري وحده، بحسب ما يذكر الباحث المصري صالح الورداني في كتابه "مدافع الفقهاء".
تمتع العلماء الأشاعرة في دولة المماليك بقدر كبير من السلطة والنفوذ، وتهيأت لهم العديد من الفرص للاعتراض على بعض قرارات المماليك الظالمة، دون أن يخشوا على أنفسهم من مغبة المعارضة. من ذلك ما اشتهر عن العز بن عبد السلام (ت. 660هـ) من اعتراضه على السلطان المملوكي سيف الدين قطز عندما أراد أن يفرض ضريبة إضافية على العوام لتجهيز الجيش لملاقاة التتار، وما رُوي عن يحيى بن شرف النووي (ت. 676هـ) من موقف مشابه مع الظاهر بيبرس في دمشق.
أيضاً، تتحدث بعض المراجع عن التقدير الهائل الذي حظي به العلماء الأشاعرة في الدولة المملوكية. فعلى سبيل المثال، يذكر الدكتور سيد العفاني، في كتابه "صلاح الأمة في علو الهمة"، أن السلطان المملوكي كان إذا رأى الفقيه الأشعري ابن دقيق العيد (ت. 702هـ) "قام له، فإذا وصل عنده قبل السلطان يده، فيقول له شيخ الإسلام: هذا خير لك، هذا ينفعك".
أيضاً مما يدل على سيطرة الأشاعرة على السلطة الدينية الرسمية في الدولة المملوكية، أن بعض علمائهم من أمثال بدر الدين بن جماعة (ت. 733هـ) وكمال الدين ابن الزملكاني (ت. 727هـ) تمكنوا من إقناع السلطان الناصر محمد بن قلاوون بتنفيذ حكم بسجن الفقيه الحنبلي أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني (ت. 728هـ)، وذلك لعدة مرات في القاهرة والإسكندرية ودمشق، رغم أن ابن تيمية كان من أكبر الداعمين للسلطة المملوكية في حروبها وسياستها الداخلية، بحسب ما يذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية".
ورغم أن العثمانيين الذين فرضوا سيطرتهم على مصر والشام بعد المماليك، كانوا على العقيدة الماتريدية المنسوبة لأبي منصور الماتريدي المتوفي 333هـ، إلا أنهم لم يجدوا بأساً في اعتناق أغلبية الفقهاء العرب للعقيدة الأشعرية، وذلك بسبب التقارب والاتساق الكبيرين بين الأشعرية والماتردية، ومن هنا فقد هيأت الظروف السياسية الأمر مجدداً لانتشار العقيدة الأشعرية وتصدرها للمشهد، بحيث بقيت حتى يومنا هذا العقيدة المنتشرة بين الأغلبية الغالبة من المسلمين من أهل السنّة والجماعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه