شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
القصبجي الرومانسيُّ يموتُ باختياره... لا من ظُلم أم كلثوم

القصبجي الرومانسيُّ يموتُ باختياره... لا من ظُلم أم كلثوم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 26 مارس 201902:51 م

الرومانسية، باعتبارها ثورة على العقل ومبادئه وصرامته وثورة على قواعد الإغريق والرومان، وباعتبارها تحدد قوانينها الذاتية بنفسها، لا عن مثال سابق، أغرقت الموسيقى المصرية في التيه، وصار روادها في تلحين الأغنية أنبياء لهذا التيه الكبير، ولعل محمد القصبجي (15 نيسان/ أبريل 1892 - 25 آذار/ مارس 1966) كان بينهم "التائه الأكبر".

لم يقلد أحدًا.. لم يسِرْ في درب الملهم الشعبي سيد درويش، الذي وُلد معه في نفس العام، 1892، ولا التقليديين كامل الخلعي وداوود حسني، كان هو محمد القصبجي فقط، أحادي التوجه، طبعت نفسه على جبينه الصغير نهايته الحزينة الواقعية، لذا كان اهتمامه التلحيني بـ"المونولوج" أو غناء المناجاة والانكفاء على الذات.

أغانينا التي قتلتنا..

تلك التي حفرها الرومانسيون، الحالمون المتألمون صُناع السُّحُب الغادرة المغادرة، الضالّون في مشاعرهم، الذائبون في الأمل وكآبة اليأس، وجهان لعملة واحدة، إنهم أبناء الخسارة والضياع..

لقد ميّع هذا التوجه الفني مشاعر الجمهور المصري والعربي، وجعل عواطفه كقطعة زُبد ساحت تحت شمس الحب والفراديس المفقودة، ولم يعد ممكنًا أن يعود الزبد إلى صورته الأولى، ضللنا، كجمهور، وأحببنا هذا الضلال الفردي، وافترقنا عن المجموع، كلٌّ في واديه..

لم يقلد أحدًا... كان هو محمد القصبجي فقط، أحادي التوجه، طبعت نفسه على جبينه الصغير نهايته الحزينة الواقعية، لذا كان اهتمامه التلحيني بـ"المونولوج" أو غناء المناجاة والانكفاء على الذات.

 وقد فنى القصبجي منذ "رق الحبيب" وأدى دوره حتى ولو لحن بعدها درّته "قلبي دليلي" في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، تلك الأغنية التي قال عنها الموسيقار محمد فوزي إنها أتت من سنة 2000 إلى الأربعينيات.
"أنا اليوم عازف في فرقة أم كلثوم".. قالها القصبجي في حوار نسبه له الصحفي اللبناني عدنان مراد ونشرته مجلة الشبكة في عام 1958، وحين أضاف المحاور "وملحن أم كلثوم".. رد القصبجي بيأس: "لا.. ده كان زمان".

"لحّن يا قصبجي.. رق الحبيب"..

تقولها الست الخبيرة بصيد الرجال المتيّمين، فينكفئ العاشق الهائم في بحار عوده ونغماته السحرية: "رق الحبيييييب" يلحنها طويلة منسابة لأن هذا الحبيب مسيطر على معركة المشاعر بين الأمل وتحقيقه أو الأمل وخيبته، ثم يُتبعها بـ"وواعدني" مخطوفة قصيرة النفَس كصنارة تلقى ليفوز خطّافها بالسمكة، ضحية هذا الوعد العاطفي الذي يشبه المنحة الإلهية..

ينتهي اللحنُ فينتهي الملحّن..

يتبقى له كرسي صغير بين عازفين مهرة يجلسون وراء الست وهي تحصد الشهرة والمجد والبقاء والسلطة، يموت القصبجي باختياره، لا بظلم أم كلثوم واستغلالها، لعل هذا منتهى أمل الرومانسي الحالم، أن يموت على أعتاب باب الحبيب، وهو ناظر نحو النجوم، معلق بها في صحرائه، لا وصول ولا إقامة.

لا يحتاج الرومانسيون إلى مؤامرة أو مستغلين لينتهوا، نهايتهم كانت الغاية التي عاشوا من أجلها كالشموع، وهذا لا يقلل منهم، إنهم يؤدون دورهم ليفنوا، الفناء هو الغاية، وقد فنى القصبجي منذ "رق الحبيب" وأدى دوره حتى ولو لحن بعدها درّته "قلبي دليلي" في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، تلك الأغنية التي قال عنها الموسيقار محمد فوزي إنها أتت من سنة 2000 إلى الأربعينيات.

الرومانسي يؤثر الكلاسيكي على ذاته

كان رياض السنباطي كلاسيكيًا صرفًا، ذهني التلحين، محافظًا مطربشًا لا يبرح صومعته اللحنية، يعيش في أرض القصيدة طللا يلحّن طللا، وبعلاقته القديمة بالقصبجي تقدّم خطوات على حسابه بل احتل مكانه في عالم الست..

هل كان يعلم "القصبجي" أن "رياض" سيمحو وجوده؟

حتى لو كان يعلم، لم يكن ليغير ما فعله من تزكية السنباطي وفنه لدى "أم كلثوم"، فالرومانسي المنسحق لم يكن ليبدل نُبله، خاصة في حالة رجل كالسنباطي، سلس وأخلاقي ومنطوٍ، ولا منافسة تُذكر بينهما في التفكير الموسيقي المتطور.

"أنا اليوم عازف في فرقة أم كلثوم".. قالها القصبجي في حوار نسبه له الصحفي اللبناني عدنان مراد ونشرته مجلة الشبكة في عام 1958، وحين أضاف المحاور "وملحن أم كلثوم".. رد القصبجي بيأس: "لا.. ده كان زمان".

هذا يلخص باختصار حالة القصبجي، المهزوم، ويمكننا تحليل خطابه على نحو يليق بمن يبكي زمانه الضائع، يجتر ماضيه، الاجترار سمة رومانسية أصيلة وحيلة نفسية للهروب من الواقع، فالرجل لا يعيش الحاضر إلا ليأكل عيشه كعازف ماهر، أو عازف قديم، لكن أوجاعه تعود معه مساء إلى مخدّته ليخرج أحلامه من أمعائه ويعيد طهيها ومصمصة عظمها من جديد.

"حلم وانتهى، أنا هويت وانتهيت يا أستاذ".. يستدعي سيد درويش وولده عبد الوهاب معًا ولا يستدعي نفسه أبدا لأنها في نظره ماتت وشبعت موتًا.

"خلاص، لم يبقَ مني إلا أنامل جرداء... أفكر في عملي اليوم حتى آكل في الغد".

يموت الملحن ويحيا اللحن

حين تغزو الواقعية أرض الأحلام، لا تترك لها مساحة تستلقي فيها وتغمض.. الواقع آلة تحركها تقلصات المعدة وهموم المال الذي يزحف على الموهبة بسيف القهر.

"ولكن أم كلثوم أهانتني، وعندما تهينني فهذا يعني أحد أمرين، إما أني فاشل، وهذا رأيها، أو أنها رجعية في لونها، وهذا رأيي"..

لا بأس من انتصار وهمي في حوار يمكن تكذيبه لئلا تغضب الست أكثر، فهذا الكلام الذي انفلت منه على الأرجح في لحظة ضعف صادقة تهديد وجودي لآخر ما تبقى للرجل من قوت.

"أنا عبد في طاعة مولاته.. هكذا تحتم عليّ لقمة العيش".

تورط في الموت حيا ولا سبيل أمامه إلا استعادة الماضي المجيد.. القصبجي الذي كان، أما القصبجي الذي سيحيا فهو ذاك الذي

لحن "إن كنت أسامح" و"رق الحبيب" و"يا طيور" و"قلبي دليلي".

يموت الملحن ويحيا اللحن..

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard