مستشفى ميداني تديره طبيبة في أواخر العشرينات من عمرها، موجود تحت الأرض في منطقة محاصرة بالكامل وتُعَدّ من أخطر مناطق العالم. يُقصف السكان القاطنون حوله على مدار الساعة بأشرس أنواع الأسلحة المحرمة دولياً. حدوث المجازر في محيطه يكاد يكون يومياً. وبالرغم من قلة عدد كوادره وندرة المواد الطبية المتوفرة بقي قادراً على تقديم المساعدة الطبية للسكان حتى اللحظة الأخيرة.
هذا ملخّص قصة مستشفى "الكهف" الذي أدارته الدكتورة أماني بلور في الغوطة الشرقية في محافظة ريف دمشق. القصة ربما ما كانت لتكون قابلة للتصديق لولا الفيلم الذي أخرجه فراس فياض، وكتبه أليسار حسن، والذي حمل اسم المستشفى.
نقل الفيلم الذي وصل مؤخراً، مع أربعة أفلام أخرى، إلى القائمة المُختصرة لترشيحات جوائز "الأوسكار" عن فئة أفضل فيلم وثائقي، بمشاهد إنسانية مكثفة، تفاصيل حياة العاملين في المستشفى، ووثّق امتلاء المكان بضجيج قصف الطائرات وصراخ الجرحى تارة، ونظرات العيون الشاخصة إلى السماء وهي تتبع حركة طائرة حربية، مركزاً في كثير من مشاهده على غرفة العلميات الغارقة بالألم والأمل.
لهذه المشاهد بكل ما فيها من تناقض قائدة واحدة هي بطلة الفيلم وبطلة طاقم عمل المستشفى، مديرته أماني بلور التي لم تتحدَّ النظام السوري فقط بل تحدّت العادات والتقاليد.
كنا مقتنعين بأننا سنموت
تحكي الطبيبة أماني بلور لرصيف22 عن ولادة فيلم الكهف الذي تم تصويره عام 2016. اقترح المخرج فراس فياض تصوير فيلم تسجيلي عن المستشفى، و"جاء الاقتراح بعد مرور ثلاث سنوات على معاناة الغوطة من الحصار والقصف، وكان المجتمع الدولي غير مكترث لما يحدث لنا".
تقول: "في البداية رفضت المشاركة في الفيلم، خوفاً من الوضع الأمني الخطير، وحرصاً على عدم انزعاج المرضى من الكاميرا. ولكن بعد نقاشات مع فراس والشباب المصورين شعرت بأهمية هذه الفكرة ووافقت عليها، خاصة أننا جميعاً كنا مقتنعين بأننا سنموت في الغوطة، وبالتالي فإن هذا الفليم قد يكون بمثابة وثيقة أخيرة تحكي باسمنا".
خلال تصوير الفيلم، حدثت الكثير من المجازر ومات الكثير من الأبرياء. تقول: "بالنسبة إلي كنت أمارس عملي الاعتيادي الذي ألفت صعوباته، ولكن فريق التصوير كان مصدوماً، فليس من السهل التصوير في مكان يكتظ بالجثث".
"في البداية رفضت المشاركة في الفيلم، خوفاً من الوضع الأمني، وحرصاً على عدم انزعاج المرضى من الكاميرا. ولكن بعد نقاشات وافقت، خاصة أننا جميعاً كنا مقتنعين بأننا سنموت في الغوطة، وبالتالي هذا الفليم قد يكون بمثابة وثيقة أخيرة تحكي باسمنا"
الأوسكار ليس غاية الفيلم
لم تكن الطبيبة الشابة تتوقع أن يترشح الفيلم للأوسكار، ولم تكن قادرة على تخيّل العمل بشكله النهائي. الأمنية الوحيدة التي كانت تحلم بها هي أن يساهم الفيلم في إيصال صوت الغوطة إلى العالم، ولكنها تؤكد أن ترشح الفيلم لجائزة الأوسكار جعلها تشعر بالفخر والسعادة "لأن عدداً أكبر من الناس سيرون ما حدث في الغوطة".
بجانب ترشح الفيلم للأوسكار، حصلت أماني بلور على جائزة راوول وولنبيرغ تقديراً لـ"شجاعتها وجرأتها وحرصها على إنقاذ حياة مئات الأشخاص أثناء الحرب السورية"، كما جاء في بيان مجلس أوروبا الذي منحها الجائزة عن عام 2020، في 15 كانون الثاني/ يناير.
هذه الجائزة وكذلك ترشح الفيلم للأوسكار "ليستا غاية الفيلم"، برأيها، "إنما أداة لتحقيق غايته".
تقول: "ما أتمناه حقاً أن يكون الفيلم أداة ضغط على الرأي العام والمجتمع الدولي للتحرك وإنقاذ المدنيين، وأن يساهم في تحريك المنظمات الحقوقية والإنسانية في تقديم المساعدة لملايين المدنيين"، معتبرة أن "أغلب السوريين يشعرون باليأس وفقدان الأمل بالمجتمع الدولي القادر على مساعدة السوريين ولكنه لا يرغب في ذلك".
ترى بلور أن النظام السوري نجح في تشويه الكثير من الحقائق وفي طمس العديد من المجازر، منها مجزرة الثمانينيات في حماة على سبيل المثال، وكان من الممكن أن يقوم بذات الشيء في الغوطة و"لذلك أرى أن فيلم الكهف بمثابة شهادة حية تروي ما حدث دون زيادة أو نقصان".
"كثيرون رفضوا إدارتي للمستشفى"
بجانب عرض الفيلم معاناة المدنيين والفريق الطبي، يتطرق إلى مسألة محاولة تغييب دور المرأة، من خلال عرض بعض رسمات الغرافيتي المعادية لقيادة المرأة، ورفض العديد من الرجال لعمل المرأة.
ولكن بطلات الفيلم الأساسيات هنّ مديرة المستشفى أماني بلور والطبيبة آلاء والممرضة منى. وهنا تكمن المفارقة التي أظهرتها كاميرا فياض بحرفية، مؤكدةً على أهمية الدور الذي قامت به المرأة السورية ولا تزال، رغم محاولات البعض تجريدها من حقوقها.
"الكهف أثبت دور وأهمية المرأة السورية على الأرض"، تقول بلور مضيفةً أنه "لم يحقق غايته في تغيير واقع المرأة، لأن التغيير بحاجة إلى تراكم جهد ووقت وهذه الجهود يجب أن تكون من النساء أنفسهن". تعتبر أن الفيلم خطوة جيدة على طريق التغيير.
كثيرون عارضوا فكرة إدارة بلوّر للمستشفى الذي تطوّعت للعمل فيه منذ نهاية عام 2012، بعد تخرجها من كلية الطب البشري في جامعة دمشق، انطلاقاً من رفضهم "أن تكون مديرة المستشفى امرأة"، ولكنها نجحت في إدارته طوال سنتين وهذا برأيها "يؤكد أننا قادرون على التغيير ولكن طريقنا طويل.
لا تخفي سعادتها عندما تراجع بعض الرجال عن موقفهم. "شعرت بأنني قادرة على إحداث ثقب ولو صغير جداً في جدار الثقافة الذكورية"، تقول.
آلاف الجثث والكثير من العجز
أصعب اللحظات التي واجهت الدكتورة بلور خلال إدارتها للمستشفى كانت عند حدوث مجزرة الكيماوي في 21 آب/ أغسطس 2013. تقول: "لحظات وتفاصيل المجزرة لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي. مئات الجثث تكومت في المستشفى. مئات الأطفال سقطوا أمام أعيننا. لم نستطع أن نفعل لهم شيئاً. المستشفى كان في بدايته والكوادر عددها قليل كما أننا لم نكن مهيئين لاستقبال هذه الأعداد من الضحايا".
أما أكثر القصص المؤلمة التي تعيش في ذاكرة الطبيبة الشابة، فهي عن طفل كان في السابعة من عمره، جاء به والداه إلى المستشفى وهو يعاني من خروج جزء من دماغه خارج رأسه مع نزف شديد من أذنيه نتيجة للقصف.
تروي أنه لم يكن لدى الطفل أية فرصة للنجاة، ولكنه رغم ذلك بقي حياً لساعات طويلة، وكان والداه ينتظران موته بقلب مفطور، و"بعدما استمرت معاناته عدة ساعات طلبت مني والدته أن أعطيه إبرة موت رحيم. قالت لي: ‘فيكي تعطيه شي يقتلو؟’. كانت الجملة صادمة ومؤلمة جداً جداً خاصة أن الأم كانت تحترق، لكنني طبيبة مهمتي مساعدة الأرواح وليس إنهاء حياة أحدهم مهما كانت الظروف. لم أجد جواباً لطلب الأم. اكتفيت بالرحيل وتركها تودع ابنها. أعتقد أن ذلك اليوم كان من أكثر الأيام التي بكيت فيها في حياتي".
"بعدما استمرت معاناة الطفل عدة ساعات طلبت مني والدته أن أعطيه إبرة موت رحيم. قالت لي ‘فيكي تعطيه شي يقتلو؟’. كانت الجملة صادمة ومؤلمة. أعتقد أن ذلك اليوم كان من أكثر الأيام التي بكيت فيها في حياتي"
كل الأيام حزينة في الغوطة
في فيلم "الكهف"، يتخذ الطبيب سليم من الموسيقى الكلاسيكية مساعداً يرافقه خلال إجرائه للعمليات. حتى عندما كان أحد الجرحى يصرخ من الألم كان يحاول إقناعه بالاستماع إلى الموسيقى، محاولاً التخفيف عنه، وكأنه يريد تغطية وجه الواقع القبيح بأنغام قد تحمل معها بصيصاً من السلام.
ليس الطبيب سليم وحده من رفض الاستسلام لأصوات قصف الطائرات الحربية الروسية بل كذلك الممرضة منى التي كانت تهتم بالأمور اللوجستية في المستشفى وتكاد الابتسامة لا تفارقها في جميع مشاهدها، والطبيبة آلاء التي نراها تحرص في أكثر من مشهد على دفع الطبيبة أماني نحو الأمل والتفاؤل.
"كل الأيام كانت حزينة في الغوطة، لكن رغم مأساوية الوضع كنا نحاول خلق مساحة فرح تذكرنا بأننا ما زلنا قادرين على الفرح"، تقول بلور.
الآن، تقيم أماني في تركيا التي تهجّرت إليها بعد تهجير أهل الغوطة الشرقية بالباصات الخضراء الشهيرة. تقول: "رغم كل المشاهد والمجازر، كنت أشعر بداخلي بالرضا لأنني أساهم بقدر إمكانياتي في التخفيف من معاناة البعض، لكنّي اليوم بعد أن تم تهجيرنا من الغوطة أشعر بمسؤولية أكبر لأنني خارج سوريا، وفي ذات الوقت من واجبي المتابعة في دعم ومساعدة أهلي في الداخل. أعتقد أن أغلب السوريين يشاركونني هذا الشعور، ويبقى الأمل بالعودة إلى وطننا بعد رحيل المجرم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...