يسعى جيش الدفاع الإسرائيلي إلى خلق جندي مفاهيمي، لا يقتل فقط، بل يشلّ الحركة ويجعل القتل مستمراً في الزمن، هو يعطب، يشوه، يمنع الاستقرار، يخلق ساحة المعركة ويفتتها ويمنع عودة الحياة لها، كما يهجّر ويعيق العودة، مدمراً الأرض ومحافظاً على خطورتها، هذه المقاربة الوحشية والمفاهيمية، تتضح أكثر في حصار غزة، التي تقدم الصحفية الأمريكية آبي مارتن، صورة عن كيفية إنتاجه، مادياً وعسكرياً، وذلك في شريطها: "ملفات إمبريالية: غزة تناضل لأجل الحرية"، الذي توجهه للـ"غرب"، لفضح البروباغندا الإسرائيلية أثناء "مسيرة العودة"، للإضاءة على التناقض بين الخطاب الإسرائيلي وحقيقة ما يحصل على الأرض.
يبدأ الفيلم برسم صورة عن طبيعة الحصار في غزة، البحر الذي يلعب عنده الأطفال في البداية، هو الحد الأقصى الذي يمكن لهم الحركة ضمنه، فغزة محاطة بجدار الفصل العنصري المليء بالقناصين المباح لهم القتل الارتجالي، أما عبور البحر فمستحيل بسبب القوارب العسكرية، كما أن المعابر مغلقة، ومن الصعب جداً الحصول على تصريح بالمغادرة.
مشاهد الدمار والموت، والقرار العسكري والسياسي بحصار غزة، تترافق مع تاريخ التهجير والاستيطان، وكيفية رفض إسرائيل لحل الدولتين، واتهام كل الغزاويين بأنهم من حماس، وذلك كي يتم قتلهم بوصفهم إرهابيين، أثناء ذلك نتعرف على حكايات السكان، أشباه الأحياء، المناضلين بأعدادهم وبقائهم فقط على قيد الحياة، هم في مساحة استثناء، لا "حياة" فيها، يبذلون جهداً يومياً للنجاة بسبب الشرط السياسي، فالاحتلال يتحكم بكمية الطعام التي تدخل بحيث يبقى الموجودون في الداخل على آخر رمق، دون إمكانية الاستمرار أو العمل.
قاسية ومأساوية الصورة التي ينقلها الشريط، ليعرفنا بعدها كيف بدأت مسيرة العودة، وكيف تستهدف اسرائيل بالأسلحة الكيماوية والنارية المحرمة دولياً المسعفين والصحفيين والمتظاهرين العزل، لننتقل بعدها إلى حكاية المسعفة الفلسطينية الميدانية رزان النجار، أول امرأة على الخطوط الأولى للاحتجاجات، لتسعف ضحايا الردود الإسرائيلية الإجرامية على الاحتجاجات السلمية غير المسلحة. كما نشاهد مقابلات مع أفراد من عائلتها وزملاء لها، لينتهي الفيلم بمشهد مؤثر عن رغبة والدة رزان بالذهاب للمحاكم الدولية للادعاء على دولة إسرائيل، واستعادة حق ابنتها التي قتلت ظلماً وعدواناً، فقط لأنها تساعد المصابين.
قاسية ومأساوية الصورة التي ينقلها فيلم"ملفات إمبريالية: غزة تناضل لأجل الحرية"، ليعرفنا كيف بدأت مسيرة العودة، وكيف تستهدف اسرائيل بالأسلحة الكيماوية والنارية المحرمة دولياً المسعفين والصحفيين والمتظاهرين العزل
تذكر أبي مارتن في فيلمها أنه برغم من عدم وجود صراع مسلح متكافئ بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي (وهو حق شرعي للفلسطينيين بحسب الأمم المتحدة)، سجلت الحكومة الإسرائيلية جرائم حرب فاضحة ضد آلاف المدنيين. وتنقل عن تغريدة على حساب تويتر الخاص بقوى الدفاع الإسرائيلية، تصريحاً يفيد بأن "لا شيء خرج عن السيطرة، لقد جرى كل شيء بدقة وبحسب المعايير المحددة، ورصاصنا كان محدد الهدف"، وهذا ما أكد عليه الجنرال الإسرائيلي زافيك فوجيل، كما يوضح الفيلم، فهو يعلم كيف يقوم القناص بعمله قبل أن يتلقى الأمر بإطلاق النار: "لا يتم قنص الأطفال عشوائياً أو عن طريق الخطأ، بل يتم تحديد الهدف بدقة والتهديد الذي يشكله"، وبالنسبة له لا يمانع أن يتم إيقاف الطفل بالإطلاق على ذراعه أو ساقه، ولكن إذا كان ذلك غير ممكن: "فهل تظن أن دمهم أغلى من دمنا؟"، على حد تعبير فوجيل.
"كلهم دروع بشرية"
تروي والدة رزان النجار تأثرها بمقتل أحد المحتجين من الصم: "عندما أصيب تهاوى بين ذراعيها فحملته ليخرج دماغه من رأسه على يديها". ويبدو أنه لا حدود لوحشية آلة القتل الإسرائيلية، فرزان نفسها كانت تقترب من السد الفاصل رافعة ذراعيها برغم تهديدات العسكريين الإسرائيليين بإطلاق النار عليها، وهذا ما قاموا به بالفعل، ولم تتراجع إلا بعد أن رميت بقنابل غازية أفقدتها وعيها، ثم أجهزوا عليها تماماً برصاصهم. تروي مارتن في إحدى مقابلاتها قصة رزان التي أسمتها "عملاً بطولياً سلمياً"، وتشير إلى أنها ألهمت العديد من النسوة الفلسطينيات للانضمام إلى صفوف المحتجين. ولكن القصة لم تنته عند هذا الحد، فبدلاً من تقديم اعتذارها عن جريمتها اللاإنسانية استكملت الحكومة الإسرائيلية البروباغندا الإعلامية، لتبرير حادثة القتل بإطلاق فيديو افترائي، وصفت فيه رزان "بالدرع البشري وباعترافها". وبحسب مارتن فإن العبارة تم اجتزاؤها من مقابلة لرزان قالت فيها: "أنا درع بشري في الصفوف الأولى لإنقاذ الجرحى والمصابين"، لدعم الادعاءات الإسرائيلية بأن حماس تستخدم المسعفين كدروع بشرية.
"أضرار جانبية"، "إرهابيون" أو "دروع بشرية"، هذه هي العبارات التي تستخدمها سلطات الاحتلال الإسرائيلي لتبرير جرائمها وخرقها لكل الأعراف والقوانين الدولية بحق الضحايا الفلسطينيين، هي ترى في الفلسطينيين "أعداء" محتملين، وقتلهم واجب كونهم خطراً على "الشعب الإسرائيلي الآمن"، حتى لو كان هؤلاء الفلسطينيون يتظاهرون سلمياً، لنرى أنفسنا أمام ماكينة بروباغاندا هائلة تحكم على شعب بأكمله بأنه جماعة إرهابية.
تقول الصحفية الأمريكية آبي مارتن في فيلمها "ملفات إمبريالية: غزة تناضل لأجل الحرية"، إن ما هو أخطر من تسمية مظاهرات الفلسطينين "مذابح متعمدة" من الفلسطينيين أنفسهم، هو تصديق العالم لما تروج له الحكومة الإسرائيلية، من أن الأهالي يرسلون أطفالهم للموت، ليلعب الفلسطينيون دور الضحية
أين هو "غاندي الفلسطيني"؟
تقول مارتن: "لقد كان هناك مئتا غاندي، وقد قنصهم كلهم الرصاص الإسرائيلي بلا رحمة"، وبرأيها لا مثيل لهذه البطولة في أي من أنحاء العالم فأن يذهب الفلسطيني لاحتجاج غير مسلح يعني أن يخاطر بحياته بشجاعة، فقط لينفذ فعلاً رمزياً، مثل رفع العلم الفلسطيني. وهذا ما تعتقد أنه وضع حداً للأكاذيب التي اختلقتها الحكومة الإسرائيلية حول وعيد حماس بمجازر جماعية والقضاء على إسرائيل، فالاحتجاج نظمه ناشطون ليست لهم انتماءات حزبية، بل شمل كل شرائح المجتمع الفلسطيني. "ما الخطر الذي يشكله الحجر على أية حال؟" تسأل مارتن، "إنه ليس تهديداً، وخاصة أن من يرميه يعرف أنه ربما ذاهب ليلقى حتفه".
"دفاع عن النفس"
يروج الإعلام الغربي أن حوادث القتل التي حدثت ليست إلا دفاعاً مشروعاً عن النفس، كما ينص القانون الدولي ضد الفلسطينيين المسلحين، "لكن ما رأيناه كان مختلفاً تماماً"، تذكر مارتن. لم يكن هناك عسكريون فلسطينيون، لم تستخدم المواد المتفجرة ولا الصواريخ ولا المدفعيات: "كل ما رأيناه كان حراكاً مسالماً تماماً، لم يمنع القوات الإسرائيلية من تنفيذ مذابحها في عدد كبير من المدنيين العزل". وبرغم عدم تسجيل إصابات في صفوف القوات الإسرائيلية، قُتل الفلسطينيون لدفاعهم السلمي عن قضيتهم.
أين هو الجانب الإسرائيلي في فيلم آبي مارتن؟
حقيقة أن عشرات الملايين من الدولارات تخصص سنوياً في الإعلام الغربي لدعم البروباغندا الإسرائيلية، تشويه الحقائق وتزوير سجلات أرقام الضحايا الفلسطينيين، جعلت مارتن تغفل الجانب الإسرائيلي في فيلمها، وخاصة "بوجود أشخاص مثلي ومثل زملائي يتكلمون الإنكليزية ويتوجهون للجمهور الغربي بكل تلك الافتراءات المحرجة، ويشيطنون 2.2 مليون فلسطيني نصفهم من الأطفال"، تقول مارتن، مؤكدة على أن هذه الحرب هي ضد الأطفال. إن ما هو أخطر من تسمية هذه الاحتجاجات "انتحارات" أو مذابح متعمدة من الفلسطينيين أنفسهم، هو تصديق العالم لما تروج له الحكومة الإسرائيلية، من أن الأهالي يرسلون أطفالهم للموت، ليلعب الفلسطينيون دور الضحية، وحتى لو افترضنا صحة هذه الادعاءات: "فإن قتل الأطفال هو جريمة لا مبرر لها"، تضيف مارتن، وتخاطب المشاهدين نهاية، بأنه حان دورنا لنجلب العدالة للفلسطينيين، وأن نستمع لنداء الفلسطينيين عوض نشرات الأخبار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون