على سبيل التجريب، قررت خوض غمار التصوير العاري Nude photography. لم لا وأنا أمتهن التصوير الفوتوغرافي منذ ما يزيد عن الست سنوات، مررت فيها بالتجريب في مجالات عدة منه. فما المانع إذن؟
بدأت بالبحث عن عارضة متطوعة Volunteer Model لتنفيذ وتجريب الأفكار التي استقريت عليها. كان أمراً شاقاً فعلاً، بسبب النظرة المتحفظة عند العامة بمختلف شرائحهم حيال هذا اللون الفني.
وعندما طرحت الموضوع أمام إحدى صديقاتي، قررَت بكل جرأة وبحكم صداقتنا الطويلة المشاركة والمساعدة في خروج المشروع إلى النور. في نقاشات مطوّلة ومقابلات متباعدة، شرحت لها أبعاد كل شيء، ووثقت بي. ما عرفته منها أن الأمر ليس هيّناً على أيّة شابة، فمن الصعب وضع الثقة في أحدهم في أمور كهذه.
لمَ هذا العداء؟
لا أعرف لماذا العداء لهذا الفن. ففي كلية الفنون الجميلة، التابعة لجامعة حلوان، في منطقة الزمالك، أذكر أنه كانت هناك مادة تدرَّس للطلبة مع تطبيق لها عنوانها "الطبيعة الحية أو رسم الموديل العاري".
هذه المادة انتهى تدريسها بالفعل في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بحسب الدكتورة هبة عزت الهواري، الكاتبة والناقدة التشكيلية التي شرحت لرصيف22 أنه وتحت وطأة التشدد وانعدام الوعي الذي اجتاح المجتمع المصري في تلك الفترة كنتيجة لتوغل الفكر الرجعي وصعود التيارات الإسلامية في اتحادات طلاب جامعتي حلوان والقاهرة ذهبت المادة في مهب الريح.
لم تُلغَ المادة بقرار حكومي أو إداري، واستُعيض عنها بتماثيل من مادة الجبس ومستنسخات من الفن الإغريقي، أو برسم موديل يرتدي ملابسه الطبيعية دون أن يتعري ويكون عادةً من العاملين والعاملات في الكلية، هذا إلى جانب الميل بالفن نحو الاتجاه التجريدي لا التصويري.
تصوير الموديل العاري منذ نشأة الكلية، عام 1908، كانت له فلسفته الخاصة به، من الخطوط الانسيابية والتفاصيل التي لن تظهر مع الملابس التي قد يرتديها الموديل.
فترة تدريس المادة كانت حافلة بالقصص الخاصة بطبيعة الحال، منها ما رواه الدكتور حازم فتح الله، عميد الكلية السابق، في حوار مع جريدة الصباح بتاريخ 2012-11-14 عن أن اثنين من عمال البناء الذين شاركوا في بناء وتأسيس مباني الكلية، وهما عبد العزيز وعبد الوهاب هيكل، كانا أول مَن عملوا كموديلات، لزيادة دخليهما، كما أشرك عبد الوهاب ابنته أمينة في هذا الأمر لتصبح أول موديل عار في تاريخ الكلية.
وبعدها توالت مشاركة العارضات العاريات في الأربعينيات، ومن القصص ذات الصلة أن إحداهن تزوّجت في أواخر الستينيات من أحد الطلاب الذين كانوا يرسمونها عارية.
ولم تكن العارضات فقط من الطبقات الفقيرة، بل كانت بعضهن من عائلات أرستقراطية، ولكن الأمر انتهى في السبعينيات وكانت "نعمات وابنتها" آخر من أدين هذه الوظيفة.
"قررت خوض غمار التصوير العاري. تطوّعت صديقة لي لتكون الموديل. وعندما نشرت الصور على فيسبوك، ظهرت ردود أفعال سلبية جداً وعنيفة من جانب البعض العالق في ازدواجية المعايير والكبت الجنسي والهوس بمقاييس الجمال الغربية"
ليس فناً جديداً في مصر
إذا عدنا إلى الوراء قليلاً، سنجد أن فن التصوير العاري Nude photography ليس جديداً في مصر، فقد دخلها في أواخر القرن التاسع عشر على يد مصورين أجانب كانوا مقيمين فيها أشهرهم: رودلف فرانز لينرت Rudolf Franz Lehnert (1878-1948)، وإرنست هاينريش لاندروك Ernst Heinrich Landrock (1878-1966).
أعمال الفنانين موجودة في مكتبة لينرت ولاندروكLehnert & Landrock bookshop، وهي مكتبة تأسست في وسط البلد عام 1924، لكنها انتقلت عام 2016 إلى حي عابدين، ناقلة إلى مقرها الجديد أكبر تراث فوتوغرافي في مصر، وتستخدم تقنية النيغاتيف الزجاجي لإعادة طبع بعض الأعمال الشهيرة بحال طُلبت.
التقط الفنانان صوراً كثيرة، وكانت أعمالهما المرجع الرئيسي للرسامين المستشرقين الذين كانوا مفتونين بالشرق وقتذاك.
ولعل أشهر أعمالهما هي Types d'Orient (شرقيات)، وهو عمل أُنجز بين مصر وتونس وسلّط الضوء على الجمال النادر لأهالي الصحراء، الذين نادراً ما قبلوا بتصويرهم فوتوغرافياً، خاصة إذا كانوا عراة.
من عمل Types d'Orient
ومارس هذا الفن فنانون مصريون من أصول أرمنية مثل: غابرييل ليكيجن، صاحب ستوديو ليكيجن، والذي بدأ حياته كرسام ثم قرر بدء رحلة العمل في التصوير في مصر فأنشأ استوديوهان أحدهما في القاهرة في فندق شبرد الشهير والآخر في الإسكندرية، وجال في نواحي شتى في مصر خرج منها بصور ساهمت في شهرته ليصبح مصوراً للملوك والأمراء والسائحين القادمين إلى مصر.
وهنالك أيضاً إرم ألبان الذي يُعَدّ واحداً من أكثر المصورين تأثيراً في فن الفوتوغرافيا، واختير من ضمن أفضل المصورين في العالم خلال ثلاثينيات القرن الماضي، ووضع مدرسة القاهرة للتصوير الفوتوغرافي على خريطة هذا الفن عالمياً، بعد رحلة عمل استمرت أكثر من خمسين عاماً.
وألبان هو أول من أدخل فن التصوير العاري Nude photography بمفهومه الحديث إلي مصر، إذ مارسه، هو وليكيجن، من خلال رؤية استشراقية كانت القاعدة فيها توظيف الجسد البشري العاري وشبه العاري متجرداً بوضعية الجماد Still ، كما في الرسم والنحت، حيث توظَّف الملامح من ناحية الخطوط والأشكال كعناصر أساسية لخدمة العمل.
ومن المصريين الأرمن الذين مارسوا فن التصوير العاري فان ليو Van leo (1921-2002) الذي كان من أكثر المصورين تجريبية واستخدماً للطرق جديدة في ضبط الإضاءة والكادر، حتى كان من أهم المصورين في مصر حتى نهاية السبعينيات، ولكن مع تزايد التطرف اضطر إلى حرق معظم الصور العارية التي صورها طوال تاريخه ولم يبقَ منها إلا الجزء الضئيل للغاية الذي احتفظ به زبائنه.
خفوت ضوء فن التصوير
في السنوات المنصرمة، خفت ضوء فن التصوير العاري في مصر، نظراً إلى أمور عدة لعل أبرزها زحف التطرف والتشدد في أواخر السبعينيات وتصدّره المشهد، لكنه عاد من جديد مع الانفتاح على العالم واستخدام تقنيات الاتصال والتواصل الحديثة والمتجددة، ومع مطالبة الشباب بالحريات والحقوق والتحرر من قيود المجتمع المحكوم من ثالوث الدين/ الجنس/ السياسة.
وترددت أسماء عدة على استحياء في هذا المجال الفني، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: حسن أمين، مصطفى رضوان الكاشف، سلمى الكاشف، وآخرين أولوا اهتماماً بالجسد ككيان جمالي مستقل.
فمن الطبيعي بل والمنطقي أن يمرّ ممارس فن التصوير الفوتوغرافي التصوير العاري كأحد مجالات التصوير، حتى يعمّق خبرته ويوسّع مدارك معرفته لتكون له مع الوقت بصمته التي تميّزه في هذا العالم.
عودة إلى تجربتي
شرعنا في التنفيذ في أحد الأماكن الآمنة، فلا يوجد مكان مخصص لهذا النوع من التصوير، ويفضَّل أن يبعث المكان الراحة للعارضة لتغيير ملابسها، وهو أمر بديهي ومنطقي.
فن التصوير العاري ليس جديداً في مصر. دخلها في أواخر القرن التاسع عشر على يد مصورين أجانب كانوا مقيمين فيها. وفي كلية الفنون الجميلة، في جامعة حلوان، كانت هناك مادة تدرَّس للطلبة مع تطبيق لها، ولكن موجة التطرّف غيّرت كل شيء
نفّذنا المشروع. وبعدما انتهينا أطلعت صديقتي على كامل تفاصيل العمل وفضّلَت أن يخرج بشكل يحافظ على عدم كشف هويتها، وحماية لها من أية عواقب مستقبلية قد تتداعى عليها نتيجة لجلسة التصوير تلك.
في 18 كانون الثاني/ ديسمبر الماضي، نشرت على صفحة أعمالي على فيسبوك المشروع تحت مسمى Behind the light - nude art، احتفاءً بالجسد وتفاصيله أياً كانت حتى وإنْ كان البعض يراها عيوباً وكسراً للمقاييس الغربية للجمال وما يقع تحت مظلتها.
كما توقعت، لاقت الصور ردود أفعال سلبية جداً وعنيفة من جانب البعض العالق في ازدواجية المعايير والكبت الجنسي والهوس بمقاييس الجمال الغربية. وظهر في التعليقات فضول كبير لكشف تفاصيل وهوية العارضة، للتشهير بها، بعدما تنمّرت تعليقات على جسدها.
وكان ملفتاً أن تعليقات سلبية كثيرة أتت من شابات وهو أمر يستحق التفكيك للوصول إلى إجابة عن سؤال هام هو: لماذا تساهم المرأة في قهر المرأة؟
بجانب ذلك، ظهرت تعليقات الطعن في الشرف والخوض في الأعراض، وبعض المعلّقين هم من مدّعي الإيمان والالتزام الديني، ويجدون في وسائل التواصل الاجتماعي مكاناً يفرغون فيه آراءً اجترّوها من مسلمات جعلت عقولهم عرضة لأتربة التسليم وانعدام التفكير.
الثابت أن هذه التجربة بكل أبعادها كانت مفيدة جداً على الصعيد الإنساني والعملي. جعلتني أراجع أشياء عدة في طبائع الأمور والأحوال، وأبحث في ما قد يساعدني على فهم نواحي فن التصوير الفوتوغرافي وتأثيرات مجالاته المتعددة في مجتمعات طحنتها المشاكل والأزمات التي خلقتها أنظمة الاستبداد المتعاقبة.
ورغم كل شيء، سيظل فن التصوير العاري حاضراً، ومتمرداً على كل الظروف التي تسبب الرفض له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...