عام 2004، وقع طالب الماجستير الإسرائيلي بوريس دولين في مكتبة جامعته "بار إيلان" على حوار كانت قد أجرته إحدى الصحف المحلية مع جندي سوفياتي متقاعد يعيش في سيبيريا، قاتل الإسرائيليين في الأرض المصرية صيف عام 1970، في ما عُرف بـ"حرب الاستنزاف".
"صواريخ سوفياتية انطلقت من عاصفة دخان ورمال صوب مقاتلات الفانتوم الإسرائيلية المنتشرة في السماء. والطيران الإسرائيلي ضرب بكل قوة الوحدات السوفياتية على الأرض"، كانت هذه العبارة التي فاجأت دولين تماماً.
يقول دولين في حديث له مع الكاتب في صحيفة "هآرتس" عوفر أديريت: "كنت أجلس هناك قبالة الشاشة، عندما قرأت أن إسرائيل قاتلت ضد الاتحاد السوفياتي. كان ذلك بالنسبة إلي كما لو سمعت أن إسرائيل حاربت كائنات فضائية. لم أسمع عن ذلك من قبل، وكانت القصة بأكملها غير معقولة إطلاقاً".
بمواجهة قوة عظمى… للمرة الأولى
16 عاماً مرّت على قراءته تلك الشهادة، كان فيها الشاب الإسرائيلي يبحث عن خيوط تدعمها من خلال شهادات محاربين روس سابقين شاركوا في قتال إسرائيل ذلك الصيف، التقاهم في "نادي المقاتلين السوفيات القدامى" في ضواحي العاصمة الروسية، موسكو، وزوّدوه بمذكرات مكتوبة وبشهادات شفهية.
وعلى الهامش، يقول دولين إنه فوجىء عندما اتضح له أن هؤلاء الجنود السابقين يعقدون اجتماعاً سنوياً بمشاركة ممثلين عن السفارة المصرية في موسكو ووزارة الدفاع الروسية، وحين حاول المشاركة في ذلك الاجتماع أدرك أنه سيكون ضيفاً غير مرحب به.
يقدم الكتاب الجديد تفاصيل جديدة عن حقبة وجدت فيها إسرائيل للمرة الأولى نفسها أمام قوة عظمى، في مواجهة كادت تشعل حرباً عالمية مدمرة.
الشهادات الروسية من جهة، وما وجده في الأرشيف الإسرائيلي ولدى "مصادر إسرائيلية واكبت الحرب السرية" من جهة أخرى، أوصلا دولين ليصدر كتاباً اليوم بعنوان "جدار السويس - حكاية الحرب السرية بين إسرائيل والاتحاد السوفياتي".
مشاركة السوفيات في "حرب الاستنزاف" ووجود خبراء الاتحاد على الأرض المصرية بناء على طلب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ليسا اكتشافاً جديداً في الواقع، فقد كُتب الكثير عن تلك المشاركة وأثرها في مسار الأحداث.
حتى أن الباحثيْن الإسرائيليين البارزين ديما آدامسكي ويوري بار جوزف كتبا عام 2006 ورقة بحثية عالجا فيها ما وصفاه بالفشل الاستخباراتي الإسرائيلي أمام تدخل السوفيات في "حرب الاستنزاف"، وهي للمناسبة ورقة مهمة تشرح كيف تعززت الدعاية حول تجنب السوفيات المشاركة في النزاع العربي، وكيف وصلت في صيف 1969 معلومات إلى الجانب الإسرائيلي عن القرار السوفياتي التدخل، فتم تجاهلها، وصولاً للحديث عن نتائج الفشل الاستخباري الإسرائيلي وأسبابه.
لكن، حسب زعم أديريت وأقوال دولين، يقدم الكتاب الجديد تفاصيل جديدة عن حقبة وجدت فيها إسرائيل للمرة الأولى نفسها أمام قوة عظمى، في مواجهة كادت تشعل حرباً عالمية مدمرة، ولا تزال آثارها ظاهرة فيما يجهل إسرائيليون كثر أي شيء عنها.
رسالة تهديد سوفياتية لإسرائيل
ما الذي كان يفعله الجنود السوفيات على الأراضي المصرية ذلك الصيف؟ يبدأ الكاتب بحثه من هذا السؤال ليجيب: "نُشرت القوة الروسية هناك لحماية مصالح موسكو في الشرق الأوسط خلال الحرب الباردة. وبشكل أدق، سعى السوفيات لمراقبة دقيقة للغواصات الأمريكية وحاملات الطائرات التي كانت تجوب المتوسط".
ويعقّب: "كان هدف موسكو النهائي تدمير قاذفات الصواريخ الأمريكية قبل أن تجد موسكو نفسها مدمرة بالصواريخ النووية التي سيطلقها الأمريكيون من البحر، ما إذا وصل يوم القيامة".
عام 1970، في ذروة الحرب بين إسرائيل ومصر، انتاب الروس القلق من أن تتمكن إسرائيل من محو الوجود العسكري الروسي في مصر، وإيذاء قدرتهم على تحييد التهديد النووي الأمريكي.
وتمثّل الحل الروسي، حسب الوارد في "هآرتس" نقلاً عن الكتاب المنتظر، بمنع القوات الجوية الإسرائيلية من التحليق في السماء المصرية عن طريق نشر بطاريات صواريخ أرض-جو على طول قناة السويس.
بحسب الكاتب، جرّت حرب الاستنزاف رد فعل إسرائيلي شكّل خطراً على الموقع السوفياتي في مصر، وكان تهديد قوة أجنبية (إسرائيل) مقربة من القوة الكبرى المعادية (الولايات المتحدة) قد بدأ يحوم حول منشآتهم ويعرّض إلى حد ما بقاء الاتحاد نفسه للخطر.
بداية، حاول السوفيات دفع عبد الناصر للتهدئة، وعندما لم يستجب بعث الكرملين برسالة تهديد لإسرائيل تطلب وقف هجمات طيرانها في مصر. كانت الرسالة السوفياتية واضحة: "كل تداعيات الأعمال الخطيرة على مصر… تقع على عاتق الحكومة الإسرائيلية".
أبلغ وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك موشيه دايان لجنة الأمن والشؤون الخارجية في الكنيست بمضمون الرسالة، قائلاً: "الروس… في طليعة القوات المصرية التي تقاتلنا. الروس لديهم خسائر أيضاً لأنهم في مواقع تبعد عنا 200 متر فقط. هذا الوضع يجعلني حزيناً. لن أقدم تعازي... لكن إذا تعرضوا للضرب، يجب أن يكون هناك رد فعل". في المقابل، توقع دايان أن يكون هناك رد فعل من الجانب السوفياتي.
"تحقق سيناريو الرعب"
لم يتأخر رد السوفيات، ففي حزيران/ يونيو 1970، سقطت للمرة الأولى طائرتا فانتوم إسرائيليتان كانتا تُعتبران وقتذاك من أكثر المقاتلات تطوراً في العالم. ووقع ثلاثة من طاقمي الطائرتين في الأسر.
ما يوضحه دولين في كتابه هو أن المسؤول عن العملية لم يكن الجانب المصري بل السوفيات الذين تم نشرهم بشكل مسبق في المنطقة مع بطاريات مضادة للطائرات، هكذا، وفق الكاتب، "تحقق سيناريو الرعب، ولم يكن الإسرائيليون قادرين على مواجهة التهديد، بعدما فشلت الفانتوم في مواجهة الصواريخ السوفياتية".
كما أشار الكتاب إلى الضابط السوفياتي فاليريانوس ماليوكا الذي تحول إلى بطل لكونه أول من أسقط طائرة فانتوم في العالم، وقد انتشرت صورة له في ذلك الوقت وهو يقف قرب حطام الطائرة، ويضع رجله فوق إحدى قطعها المعدنية.
تجددت المواجهات بين الطرفين بعد شهر تقريباً، في نهاية تموز/ يوليو، وهذه المرة سجل الإسرائيليون نقطة على السوفيات، إذ تحطمت خمس مقاتلات "ميغس" وقُتل ثلاثة طيارين سوفيات وفرّ اثنان آخران قبل أن تتحوّل طائرتهما إلى كومة معدن محترقة في الصحراء المصرية، وفق كتاب دولين.
بعد أيام على ذلك، تحديداً في 3 آب/ أغسطس، واجه طيارو سلاح الجو الإسرائيلي العدو السوفياتي مرة أخرى، إذ قام قائد إحدى بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات المدعو قسطنطين بوبوف بضرب طائرة يقودها إيغال شوحاط بمساعدة موشيه غولدواسر. فقدت الطائرة السيطرة، وعندما اقتربت من الأرض انهالت عليها النيران.
"الإعلان لم يكن كما سُوّق له نصراً لإسرائيل على مصر، بل هو على العكس تماماً، كان هزيمة لإسرائيل في وجه قوة سوفياتية فعالة وحازمة"... تفاصيل "حرب سرية" دارت بين إسرائيل والسوفيات عبر مصر
"الاعتراف الرسمي بأن القوات الإسرائيلية والسوفياتية تشارك في القتال، كان من شأنه أن يجبر الاتحاد السوفياتي على استخدام قدراته الكاملة ضد إسرائيل، والتي كانت ستُلزم بدورها الولايات المتحدة بالرد... فتتطور إلى حرب شاملة بين القوى العظمى"
هل كانت مصر أم السوفيات وراء ذلك؟ يقول ديلون إن الجواب لا يزال مجهولاً بالنسبة إلى إسرائيل، لكن الأكيد أن شوحاط وقع في الأسر، وعُذّب غولدواسر حتى الموت.
ومباشرة بعد إسقاط الطائرة الأولى، انفجر صاروخ بالقرب من طائرة رانان نعمان ويوروام روميم، لكن الاثنين تمكنا من العودة بسلام إلى إسرائيل.
"ليس نصراً لإسرائيل"
في 7 آب/ أغسطس، تمّ الإعلان عن وقف إطلاق نار بين الطرفين الإسرائيلي والسوفياتي، وما يقدمه الكتاب يشرح أن الإعلان لم يكن كما سُوّق له "نصراً لإسرائيل على مصر"، بل "على العكس تماماً، كان هزيمة لإسرائيل في وجه قوة سوفياتية فعالة وحازمة".
ويشرح دولين: "في مواجهة القوة الساحقة للاتحاد السوفياتي، أظهرت إسرائيل قدرات محدودة نسبياً"، مضيفاً "وجدنا أنفسنا بمواجهة عملاق حقيقي من دون حل عسكري فعلي".
وخلاصة القول هنا، يعتبر دولين أن الروس تمكنوا من إبعاد القوات الجوية الإسرائيلية وإيجاد الظروف المناسبة لإطلاق حرب "يوم الغفران" بعد ثلاث سنوات، لكن "لحسن الحظ بالنسبة لإسرائيل (وربما للعالم بأسره)، حرص الجانبان الإسرائيلي والسوفياتي عام 1970 على الحد من نطاق المواجهة. لقد كانت في الأساس حرباً سرية".
تجنب المواجهة مع الولايات المتحدة
لماذا كانت مصلحة الطرفين تقتضي إبقاء "الحرب سرية"؟ يجيب دولين أن "الاعتراف الرسمي بأن القوات المسلحة الإسرائيلية والسوفياتية تشارك في القتال، كان من شأنه أن يجبر الاتحاد السوفياتي على استخدام قدراته الكاملة ضد إسرائيل، والتي كانت ستُلزم بدورها الولايات المتحدة بالرد. وهكذا كانت الاشتباكات المحدودة ستتطور بسرعة إلى حرب شاملة بين القوى العظمى".
لذلك، وفق دولين، طالما بقيت الأزمة في طي الكتمان وبعيدة عن العناوين الرئيسية، كان يمكن للأمريكيين التظاهر بأن لا شيء يحدث، والبقاء خارج حسابات المعركة. وهكذا هو الحال بالنسبة لإسرائيل التي عرفت أن خوضها معركة ضد الاتحاد السوفياتي سيكون فعلاً خاسراً، في حين أن مواجهتها قوة سوفياتية صغيرة في مصر سيجنبها تصاعد أزمة قد يكون لها تداعيات وجودية.
ما علاقة الكتاب بالدور الروسي حالياً؟
"لهذه الحرب، بالطبع، جانب وثيق الصلة بإسرائيل عام 2020"، بحسب ما يلفت الكاتب في "هآرتس"، قائلاً إن "الساحة الجغرافية مختلفة هذه المرة - الشمال بدلاً من الجنوب، سوريا بدلاً من مصر، ولكن مرة أخرى تتخذ موسكو مكاناً إلى جانب خصوم إسرائيل وتؤسس قوة عسكرية بالقرب من الحدود الإسرائيلية".
"ما حدود مواجهة إسرائيل لقوة عظمى؟ ما الذي يجعلها تختار استخدام القوة ضدها؟ كيف تضمن ألا توظف قوتها الكاملة ضدها؟"، يتساءل الكاتب ليقول إنه يؤمن بأن على إسرائيل تعزيز فهمها للعقلية الروسية.
في هذا السياق، يقول صاحب الكتاب إن "الروس هنا كجزء من لعبة أكبر، بينما يجدون أنفسهم في الوقت نفسه متورطين في مستنقع محلي". كما هو الحال في "حرب الاستنزاف"، نشرت روسيا اليوم نظام دفاع جوي متقدم يحد من حرية تشغيل سلاح الجو الإسرائيلي.
في المقابل، هناك فرق في المرحلتين، بين السبعينيات واليوم. موسكو حالياً، تحت حكم فلاديمير بوتين، على اتصال مباشر بالجانب الإسرائيلي، حيث يوجد تنسيق بين الطرفين، بينما لم يكن لموسكو السبعينيات علاقات دبلوماسية بإسرائيل، ومع ذلك، حسب الكاتب، لا تزال تداعيات تلك الحرب حاضرة من خلال المعضلات التي أثارتها وقتذاك، والتي يُفترض التوقف عندها حالياً.
"ما حدود مواجهة إسرائيل لقوة عظمى؟ ما الذي يجعلها تختار استخدام القوة ضدها؟ كيف تضمن ألا توظف قوتها الكاملة ضدها؟"، يتساءل الكاتب ليقول إنه يؤمن بأن على إسرائيل تعزيز فهمها للعقلية الروسية في هذا السياق.
ويردف: "على إسرائيل أن تفهم مصدر العداء الروسي تجاهها، وما الأسباب التي تدفع موسكو للتنسيق مع أعداء إسرائيل ودعمهم؟"، شارحاً أن ما يدفعه لقول ذلك هو اعتقاده بأن القيادات الإسرائيلية تفتقر للفهم الجيد للدوافع الروسية.
ويقول: "إسرائيل التي كانت مشغولة في ذلك الوقت بالصراع المستمر مع جميع جيرانها، لم تدرك أن الروس كانوا يفكرون ويتصرفون بعبارات عالمية تشمل الأمم والقارات، بدلاً من حصر أتفسهم في إطار محلي. بعبارة أخرى، فإن موقف روسيا من مصر آنذاك، ومن سوريا الآن ، يرجع إلى مصالح أكثر تعقيداً في سياق أوسع بكثير ولا علاقة له بالصراع العربي اليهودي".
وحسب ما ذكر الكاتب، فإن الكتاب الجديد سيكون الجزء الأول من ثلاثية، يتبعه بحث عن مشاركة الروس في حرب لبنان الأولى، وبعد ذلك سيغطي الجزء الثالث الحرب الروسية-الجورجية حتى ضم شبه جزيرة القرم مروراً بالعمليات العسكرية الروسية في سوريا.
ويصل الجزء الثالث إلى حدث مقرر الشهر الجاري في القدس، وهو وضع نصب تذكاري تكريماً لضحايا حصار لينينغراد في الحرب العالمية الثانية بحضور بوتين. حدث قال عنه رئيس بلدية القدس موشيه ليون إنه "يعبّر عن التقارب الكبير والاتصال الوثيق بين الشعبين الإسرائيلي والروسي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ 3 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ اسبوعينتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه