"ليست نوستالجيا ولكنها خطوة إلى الأمام. هي مستقبل وليست ماضٍ. هناك من يحاول أن يشدنا من على الأرض التي نقف عليها، وعلى جثتنا البعد عن أرضنا، التي تعطينا دفعة للأمام"، هكذا قالت الفنانة والإعلامية إسعاد يونس، عن المشروعات الموسيقية التي تقدمها في برنامجها "صاحبة السعادة".
طالب الموسيقار هاني شنودة بإقامة مهرجان موسيقي سنوي برعاية البرنامج، لتُعرض خلاله هذه الأعمال الكثيرة والمتقنة، والمعزوفة على أوركسترا فيلهارموني ضخمة في مسارح كبيرة، حسبما ذكر خلال حواره مع إسعاد يونس.
ما سبق قد يبدو مبالغاً فيه أو دعائياً، إلا أن الواقع يقول إن "صاحبة السعادة" الذي بدأ عرضه في مصر منذ عام 2014 على قناة CBC، قبل أن ينتقل إلى DMC في نهايات 2018، صار منذ موسم 2016/2017 تقريباً، بمثابة منصة لإنتاج مشاريع موسيقية ضخمة، تعيد تقديم أعمال سبق إنتاجها، ولكن بجودة أعلى وبصياغة جديدة تماماً، مثلت إضافة واضحة للمكتبة الموسيقية العربية، رغم أنه برنامج منوعات بالأساس.
فما أبرز ما قدم البرنامج من مشروعات موسيقية حتى الآن؟ والأهم، ما القيمة الفنية والثقافية للصياغة الجديدة لتلك الموسيقى؟
من أبرز ما قدمه البرنامج
مشروعي"121 سنة سينما":
و"123 سنة سينما":
وهما مشروعان عُرضا على أربعة أجزاء، وتناولا عشرات من مقاطع الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات المصرية، وأدتهما أوركسترا اتحاد الفيلهارموني، بقيادة المايسترو العالمي نادر عباسي، وكتب النوتات وأجرى إعادة صياغة وتلوين الموسيقي الخاصة بهما الموزع أحمد الموجي.
من المشروعات البارزة "عالم عيال عيال"، والذي تناول موسيقى وأغنيات أفلام الكارتون والألعاب الإلكترونية، وكل ما ارتبط بالأطفال في العالم العربي كله، والذي عرض في أكثر من جزء خلال عامين.
ومشروع "نادي السينما"، الذي تناول الموسيقى التصويرية والأغنيات الخاصة بكلاسيكيات السينما العالمية، التي ارتبطت بالمصريين.
والمشروعان الأخيران نفذهما المايسترو جورج قلتة، ومعه أوركسترا "سنكوب".
ومن المشروعات البارزة التي قدمها البرنامج، توثيق لأعمال بعض المؤلفين الموسيقيين المصريين المهمين، مثل مودي الإمام، وهاني شنودة، وراجح داوود، وغيرهم. إضافة إلى تترات وموسيقى البرامج التلفزيونية القديمة والإعلانات، وغيرها من مشروعات.
ما الجديد؟
بالتأكيد ما سبق ليس جديداً كعناوين موسيقية، فمن لا يعرف أن هناك موسيقى تصويرية لأفلام مثل "الهروب"، أو "المصير" أو "المهاجر" أو "حليم"، أو لا يعرف أن كارتون "مازنجر" كانت له موسيقى وأغنيات، أو أن الـGames بداية من "الأتاري" وحتى الموبايل والكومبيوتر لها موسيقى، ولكن الجديد يتضح فيما يلي:
تحويل الفسيفساء إلى جسد متماسك
الموسيقى التصويرية للدراما أو الـGames أو الكارتون، هي في الغالب فسيفساء متناثرة، تظهر كقطع صغيرة بصوت منخفض غالباً في خلفية المشهد التمثيلي، أو اللعبة الإلكترونية؛ وليست مقطوعات موسيقية كاملة لها جسد واضح، ولكن في "صاحبة السعادة" اختلف الأمر.
يقول الموزع أحمد الموجي لـ"رصيف22"، إنه كان يستمع للفيلم مرات، ليجمع ويكتب المقاطع الموسيقية المتناثرة "من السمع"، ثم يختصر منها ويوفق بعضها على الأخرى حتى يصل إلى جسد، وهذا واحد من أهم تحديات تلك المشروعات.
ما ذكره الموجي فيما يتعلق بالأفلام لا يقل صعوبة مع الـGames، فمن الصعب العثور على جهاز "أتاري" يعود إلى ثمانينيات القرن العشرين، كي ينقل منه جورج قلتة أصوات الألعاب، والأصعب إعادة صياغتها لتبدو كمقطوعة موسيقية، كما يقول قلتة، لأنها رغم ما تبدو عليه من بساطة، إلا أنها بالغة التعقيد كمحتوى إلكتروني لا يشبه الموسيقى التي تعتاد الأذن البشرية سماعها بكامل أنواعها، فهي ببساطة ألعاب وليست مقطوعات موسيقية!
الأصعب من صياغة هذا النوع، هو ارتباطه بنفسية من كانوا أو مازالوا يلعبون على الموبايل أو الكمبيوتر، من توتر لخوف لسعادة، وفقاً لمراحل وخطوات اللعبة، فكل حركة موسيقية مرتبطة بموقف في اللعبة، يتغير بضغطة زر من اللاعب، ولذلك كان التحدي هو الحفاظ على هذه الحالة النفسية في النسخة الأوركسترالية من الموسيقى، بحسب قلتة.
تحويل موسيقي إلكترونية إلى أوركسترالية
بعض المقطوعات التي عرضت في "صاحبة السعادة" كانت بالأساس مكتوبة لأوركسترا، وبالتالي كان الإنجاز الجديد -بجانب تجميعها- هو أداؤها بجودة أفضل، استفادةً من تقنيات هندسة الصوت الحديثة، ومن الأوركسترا الذي ينفق عليه البرنامج بسخاء، ليتسق مع القواعد الكلاسيكية العالمية، فمثلا لا يُكتفى بـثلاث آلات تشيللو كأغلب الفرق الموسيقية العربية التقليدية، بل نجد 6 تشيللو، ولا يُكتفى بآلة كونترباص واحدة بل نجد 3 كونترباص، وهكذا نقيس على باقي الآلات، لتبدو الأوركسترا متسقة مع القواعد العالمية.
ولكن بجانب تلك الأعمال، هناك أخرى أعدت بشكل إلكتروني من الأساس، وكان إنجاز البرنامج هو تحويلها إلى أعمال أوركسترالية كلاسيكية.
قبل أن نشرح ذلك لابد من توضيح أن إنتاج الصوت الواحد في الموسيقى الكلاسيكية يحتاج لآلة أو أكثر لأدائه، وهذا سبب من أسباب ضخامة حجم فرق الأوركسترا التي قد تتعدى المائة عازف، على خلاف الموسيقى الإلكترونية، التي قد تنتجها أحياناً آلة واحدة كـ"سانتيزر" التي تستطيع إخراج آلاف الأصوات. كذلك فإن تكنيكات الموسيقى الإلكترونية تختلف عن الكلاسيكية، على الأقل من حيث كتابة النوتة والتوزيع، وبالتأكيد ينعكس ذلك على طبيعة الصوت الناتج عن هذه أو تلك، حسبما يتفق المتخصصون.
ولتحويل الأعمال الإلكترونية إلى أوركسترالية كان هناك تحدٍ في كيفية فهم وجهة نظر المؤلف الذي صنع النسخة الإلكترونية، لنقلها بنفس روحها عبر آلات حية، حسبما يشير أحمد الموجي، موضحاً أن المؤلفين الموسيقيين، خاصة في الثمانينيات والتسعينيات، تسابقوا على استعراض مهاراتهم في استخدام الإلكترونيات، رغم أن طبيعة الكثير من الجمل الموسيقية التي وضعها بعضهم، كمودي الإمام، تصلح كموسيقى كلاسيكية.
حجم الجهد في تطويع الأصوات لأدائها على الأوركسترا، قد يبدو واضحاً في موسيقى Quiet Village التي استخدمت كتتر لبرنامج "عالم الحيوان" على التلفزيون المصري:
في هذه النسخة التي عزفتها أوركسترا سينكوب يؤدي العازفون أصوات الحيوانات والطيور، بآلاتهم الكلاسيكية وأصواتهم البشرية، بدلا من إدخال مؤثرات صوتية إلكترونية كما في النسخة الأصلية.
ويعلق جورج قلتة على ذلك في حديث لرصيف22، بأن أداء الأصوات بشكل حي مقروءاً من النوتة، دون مؤثرات، مبدأ لدى سنكوب، لافتاً إلى أنه فعل ذلك في أكثر من مشروع، كأوبرا "مصر الطريق" التي ألفها جورج، حيث استخدم سيفاً حديدياً حقيقياً في العزف، للتعبير عن مشهد ذبح طفل، ليبدو الصوت واقعياً، وكذلك حاكى جورج أصوات الرعد، باستخدام دبيب أقدام مجاميع بشرية، دربها على أداء نوتة لصوت الرعد، كما استخدم أصوات أصابع الكورال لمحاكاة صوت المطر في نفس الأوبرا.
موسيقى وأغنيات جديدة من رحم القديمة
"الميدليهات" من الإنجازات الموسيقية لـ"صاحبة السعادة". والميدلي هو مقتطفات من أعمال مختلفة "في اللون والميزان والسرعة والسلم الموسيقي"، تندمج فيما بينها لتبدو شيئاً جديداً. والأمر ليس اختراعاً، ولكن الأعمال التي قدمها البرنامج بجودة عالية كانت جديدة.
منها ميدلي كلاسيكيات الأفلام العالمية لجورج قلتة:
وميدلي مسلسلات الكارتون لقلتة أيضاً، وهو مكون من مجموعة أعمال لطارق العربي طرقان.
وميدلي بين "دمي ودموعي وابتسامتي" و"حبيبتي" للموسيقار إلياس الرحباني، ولكن نادر عباسي وأحمد الموجي خلقا منهما عملاً واحداً متجانساً، أخطأ الكثيرون -حتى إعداد البرنامج نفسه- واعتقدوا أنه عمل واحد.
نقاط التحدي غالباً في نجاح الميدلي تقف عند مفاصله؛ فالانتقال من موسيقى لأخرى لابد أن يحدث بنعومة ومنطقية، وهنا لابد من خبرة في التأليف الموسيقي، لترتيب الميدلي وتنعيم نقاط الوصل الخشنة بين أجزائه لتبدو كياناً واحداً، يقول جورج قلتة، موضحاً إنه كان يحاول تطويع نهايات المقاطع لتكون ملائمة لبدايات المقاطع التالية لها، فمثلاً إذا كان المقطع ينتهي بوَتَريات وسيؤدي إلى آخر يبدأ بنُحَاسِيات، لابد من إيجاد طريقة لإدخال النحاسيات على نهاية المقطع السابق، وإدخال الوتريات على اللاحق، وهكذا في كل المقتطفات المكونة للميدلي.
"ليست نوستالجيا ولكنها خطوة إلى الأمام، هي مستقبل وليست ماض"، هكذا قالت الفنانة والإعلامية إسعاد يونس عن برنامجها "صاحبة السعادة"، فهل تحقق ما وعدت به؟
رسائل ثقافية
قد يجوز الاعتقاد بأن لمشروعات "صاحبة السعادة" الموسيقية ثلاث رسائل ثقافية رئيسية:
الأولى: حوار الثقافات من خلال الأنواع الموسيقية التي تمتزج في بعضها بشكل علمي، يصلح للعزف بأي دولة بالعالم، وهو أمر ألمح إليه نادر عباسي وإسعاد يونس أكثر من مرة.
ويوضح جورج قلتة أن لديه نفس الرؤيا، لافتا إلى أن تسمية "SYNCOPE" للأوركسترا الخاص به تحمل هذا المعنى، وهو الخروج عن المألوف في النطق، بدمج أصوات من ثقافات موسيقية مختلفة لتبدو شيئاً واحداً.
الرسالة الثانية: اختراق أذن المستمع والمشاهد غير الكلاسيكي، من خلال مقطوعات شعبية مألوفة له، فحين يستمع هذا الجمهور لهذه المقطوعات بشكلها الجديد سيعرف ما هي الموسيقى الكلاسيكية، أو على الأقل سيعرف "الأبوا، الكرنو، الترومبون، التوبا، الفلوت، الفاجوت، الكلارينيت"، وغيرها من آلات لا يعرفها إلا جمهور متخصص، حسبما يؤكد قلتة. ويساعد على ذلك طبيعة البرنامج الشعبية، وردود أفعال إسعاد يونس العفوية، التي تعكس إحساسها بالموسيقى الذي يصل بالتبعية للجمهور، بالإضافة إلى النقاشات التي تبدو ودية وبسيطة بين إسعاد وبين قادة الأوركسترا أو مؤلفي الموسيقى أو النقاد الذين تستضيفهم، وهو أمر يبسط الموسيقى للجمهور العادي.
أما الرسالة الثالثة والتي أكدت عليها إسعاد أكثر من مرة، فهي رغبتها أن تُعزف هذه الأعمال خارج مصر، بل وخارج العالم العربي، وهو أمر بدأ يتحقق جزئياً، فقد أدى قلتة مشروع "نادي السينما" في أكثر من دولة، ومازال مطلوباً داخل وخارج العالم العربي– حسبما كشف لرصيف22- كما قدم قلتة في أربع دول عربية مع طارق العربي طرقان، موسيقى وأغنيات الكارتون. كذلك قدم نادر عباسي بعض من المقطوعات التي قدمها في البرنامج في الكويت، حسبما أكد الموجي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين