"غير أن الكتب، في نهاية المطاف لا تعدّ ترفاً بقدر ما هي ضرورة، والقراءة إدمان لستُ راغباً في الشِفاء منه". هكذا اعتقد "العم أبو طلال" الذي كان يجلس تحت جسر الرئيس في دمشق حاملاً من الهدوء والثقافة ما يكفي العالم أجمع. كلّما كنا نمرّ من هناك نراه منعزلاً عن كلّ شيء مع كتاب وكأنه في حضرة طيفٍ يحبّه. وجوده مبهج، ورؤيته تسرّ القلوب وهو يقرأ بشغف وسط الفوضى من حوله مُنعشة.
بعض الأشخاص يصبحون جزءاً من روتيننا اليومي كرؤية أوجهنا في المرآة كلّ يوم؛ هكذا كان قد أصبح وجود العم أبو طلال للمارّة طيلة هذه السنوات حتى فقدناه قبل ما يقارب شهرين.
بنى أبو طلال مملكة من الكتب على الرصيف فلُقبَ بـ"صديق الكتب القديمة"، "العم"، "الورّاق"، "أبن السلمية"، "شيخ الورّاقين"، "أكرم كلثوم" أو “أبو طلال” كما يعرفه الزبائن وأبناء المنطقة. قضى معظم حياته بين الروايات والكتب، وللمفاجأة كلّ الشهادات التي يملكها كانت الابتدائية فقط. وبعد تقاعده في نهاية التسعينيات، اتّجه للعمل في بيع الكتب المستعملة، على اعتبار أنها المهنة التي يحبّها، والتي يمكن أن تؤمّن له لقمة عيشِه، بحسب تصريحاته لموقع “تلفزيون الخبر” المحلي، في شهر آذار الماضي. يجلس العم أبو طلال وكأنه أرشيف فكري خلف بسطته التي، تذخر بالنفائس دون رفوف ولا واجهات راقية.
يسمي رواده "القرّاء" وليس "زبائن"
لمَ كلّ هذا الحنين والغزل؟ لم يكن العمّ شخصاً يبيع الكتب فقط، فكان بإمكاننا نقاشه والبحث عن حلًّ لمشاكلنا معه. والنقاش معه كانت متعة ما بعدها متعة. كان واقعياً جداً في بيئة تفيض بكلّ أنواع الأسى، فكان يعطينا الكتاب الذي يغني عقولنا وأرواحنا معاً، مؤمناً بأن الفكرة والكلمة هي الحلّ والخلاص.
أكد "أبو طلال" في عدة مقابلات مرئية وصحفية أُجريت معه "أن الغاية من بيع الكتاب المستعمل ليست المال أبداً، ففي معظم الأحيان يعود السبب إلى ضيق المكان، لذا يلجأ أصحاب الكتب لبيعها
كنت أظنّ بأنني الوحيدة التي تأثرت لغيابه، ولكن كانت المفاجأة حين تصفحت واجهته على الفيسبوك، وكتب العديد ممّن هم في مثل عمري أو أقلّ عن مدى تواضع هذا الرجل الطيب، وعن الحوارات الغنية التي بدأوها معه وتمنّوا ألا تنتهي.
أذكر في إحدى المرّات طلبتُ منه ديواناً لـ"أحمد مطر"، وبعد نقاش طويل أخبرني واعداً إياي "سأعيرك نسختي من ديوانه الشعري"، وكان هذا ما صنع يومي آنذاك.
نعى الكثير من السوريين “ابو طلال” عبر صفحاتهم الشخصية على “فيسبوك” معبّرين عن حزنهم وأسفهم على الشخص الذي أجبرهم على تجاهل زحام المدينة ومنطقة تحت الجسر، بكتبه الملوّنة الجذابة، وحديثه الذي لا يملّون سماعه؛ كتب خليل موسى: “ليك عمي .. الشهادات بعمرها ما ساوت الإنسان، الإنسان بقيمة شو بيقرأ وبيتعلم. لهيك بظل أقرأ حتى لو ما معي شهادة جامعية.”
هذا ما تردد بذهني أمام زاوية جلوسه، حين ذهبتُ لأتأكد من ذلك الخبر الحزين. قاله العم أبو طلال ذات مرة حين جلسنا متفيئين بظلّ جسر الرئيس بدمشق، مع "كاسة المتّة” والسجائر الحمراء القديمة، طبعاً ما من طالب كتاب مرّ هناك إلا وصادف العم أبو طلال، أو قاطعه وهو يقرأ واحداً من الكتب التي يعرضها ضمن زاويته الثَرية تحت فيء ذاك المكان.
ورَاق دمشق، كما كان يحبّ أن يُدعى، كان دائماً ما ينجدنا بالكتاب المفقود المحرم والممنوع. ورواده كانوا الطلاب الجامعيين الشباب والباحثين عن نوادر الكتب. كتب علي عاقل (أحد رواد بسطته) عن آخر لقاء له مع العم أبو طلال: "كنت (مخبّالي) قصص دوستويفسكي التي طالما بحثتُ عنها. وقلت لي بعد أن أخرجتها (عمو هدول بخبيهن ما بعرضن، بشيلن لناس بتعرف قيمتن ما ببيعن لمين ما كان) .. قيمتهم كبيرة يا عم لكن قيمة روحك التي تحمل الطيبة والثقافة أكبر بكثير".
نظرته للحياة كانت كمن امتلكها حيث قال: “إن هذه الحياة جميلة بالرّغم من صعوبتها، ولكن الأصعب هو عدم معرفتنا كيف نحياها”. وقد تحول إلى جزء ثابت من المنطقة بمرور الأعوام لوجوده اليومي هناك
قرأت يوماً ما في مقالٍ كُتب عنه: "لن تجد على بسطة أبو طلال كتاباً طُبع حديثاً. جميع النّسخ هنا قديمة ومستعملة، لكن معظمها من (النسخ النظيفة)".
لم يتعامل أبو طلال مع الطبعات التجاريّة. فكان يقول: هنا نبيع كلّ ما هو أصلي ولا يقدّر بثمن. أنا أنتقي كتبي لأنني بذلك أنتقي زبائني.". كما قال: "الكتاب لدينا موضوع على الأرصفة في حين توضع بضائع استهلاكية أقلّ شأناً وفائدة على الرفوف، لتلقى العناية والاهتمام من أصحابها، هذا انعكاس للحالة الثقافية عموماً ولما وصلت إليه من إهمال وتراجع في وقت يُفترض أن نشجع الناس على القراءة لتشكيل وعي حقيقي والنهوض بمجتمعنا". ومن اللافت أن ما يراه الرجل من الكتب الجديدة تفتقد برأيه إلى مزايا عدة أهمها أنها لا تلبي حاجة القارئ المثابر والمثقف الباحث عن أسلوب أفضل للعيش والواعي لما يحدث حوله.
أكد "أبو طلال" في عدة مقابلات مرئية وصحفية أُجريت معه "أن الغاية من بيع الكتاب المستعمل ليست المال أبداً، ففي معظم الأحيان يعود السبب إلى ضيق المكان، لذا يلجأ أصحاب الكتب لبيعها، ويقوم البعض بتبديل كتبهم بأخرى ذات مواضيع مختلفة، من دون أن ننسى ما آلت إليه المكتبات الحكومية وخاصة في الحرب، فبعضها أُحرق وأتلفت محتوياته، وكان التهريب والسرقة مصير عدد كبير منها".
باع أبو طلال الكتب لأكثر من20 سنة، وقرأ عدد كبير منها. لم يكن يقول عن حاله مثقف، وإنما تصرّف كواحد منهم، لبق الحديث، لطيف المعشر، يعطي زواره أشعة من الضوء والأمل في عصر سرقت الشاشة الصغيرة عقول الكثيرين. رسالته بسيطة للغاية فليس عليكم أن تكونوا أبطالاً خارقين أو ذوي سلطة ومال لتملكوا الغنى الثقافي.
نظرته للحياة كانت كمن امتلكها حيث قال: “إن هذه الحياة جميلة بالرّغم من صعوبتها، ولكن الأصعب هو عدم معرفتنا كيف نحياها”. وبسطته كانت مقصد القرّاء من كلّ الأماكن، حتى من المدن السورية الأخرى. وقد تحول إلى جزء ثابت من المنطقة بمرور الأعوام لوجوده اليومي هناك. لروحك السلام عمي أبو طلال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com