يكبرُ فينا المكان، ويكبرُ معنا. أن تعيش أكثر يعني أن ترى أكثر، في مخيم نهر البارد، حيث لجأ الأجدادُ إلى هذا المكان عام 1948، عام النكبة، كان المكان هو الشاهد الأول على هذه الهجرة القسريّة إليه.
لم يكن في هذا المكان سوى الخيام، فلا مطاعم ولا محلّات ولا مقاه، وربّما، لا حياة في المكان سوى أثر الخطى، فأقاموا على أرضٍ جرداء، ومن الأرض الجرداء أسّسوا لحياةٍ مؤقتة، فانتقلوا من الخيمة إلى البيت، ومن "الدكّان" الصغير إلى المطعم الكبير. وعلى مرَّ هذا التاريخ المشرّد، على الطريق المؤدّي إلى الحي "الفوقاني" الذي يحتوي على حارة صفوري الكبرى في المخيم، هناك من جهة اليمين، يقع مطعم "أبو سليمان بهار".
في المطعم صالة واسعة تمتدّ إلى الحديقة من الجانب الآخر، وأمامهُ ساحة واسعة مقابل الشارع. كان هناك رجل نحيل، قصير، منحني الظهر، مازلنا نتذكرهُ وهو يَقلي "الفلافل" على النار، وتفوح ملء المكان رائحتها الشهية. كنتُ صغيراً أمرُّ من جانبهِ، وتسحبني الرائحة، فتتجّه أمّي نحوه وأتبعها.
كان سقف المطعم من زينكو حتى أصبح من حجر بعد ذلك، وحين وقعت الحرب عام 2007، حولتهُ إلى ركامٍ، واستشهد أبو سليمان على باب المطعم إثر قذيفة سقطت على رأسهِ من الأعلى.
مطعم العم أبو سليمان بهار، هو من المطاعم المشهورة جدّاً في المخيم، وقد ترك أثراً طيّباً، وصورةً حضاريّةً لتراثٍ أصيل. إنّهُ تاريخ المنفى بعينهِ، دمّرتهُ الحرب مراراً، ثمّ عاد إلى الحياة مثل عنقاء الرمادِ الناهضة من تحت الدّمار
حين انتهت الحرب بعد سنةٍ تقريباً، عاد ابنه سليمان إلى المخيم، وعمل على إعادة بناء المطعم من جديد، بناءً مختلفاً، لأنّهُ يحمل ذكريات والده والمكان؛ ذكريات لا تنسى مع هذا المطعم الذي يقصدهُ الصغير والكبير في المخيم. فهذا المطعم، شهد على حياة رجلٍ مكافح كان يقضي أكثر وقته في المطعم. لا يذهب إلى مكانٍ آخر أبداً، لا نعرفهُ ولا نجدهُ إلا في المطعم.
يحكي لي والدي دائماً بأنَّ هذا المطعم، لهُ رمزية خاصة عنده، ليس فقط لأنّ أبا سليمان كان صديقاً قريباً له، بل، لأنّهُ الدّليل على أنّ الأمكنة تحفظ رائحة سكّانها؛ فحتى يوم سقط المطعم في زمن الحرب، كنّا نمرُّ على آثارهِ الأخيرة، نشعر بتلك الرائحة، رائحة" الفلافل" والحمص، والمسبحة، والفول.
حين تحدّثنا مع ابن "أبو سليمان" (أبو سليم) حول تاريخ هذا المطعم قال: “المطعم عاصر ثلاثة أجيال، والدي المؤسس، وأنا، والآن ولدي يعمل به أيضاً. منذ تأسيسه في الثمانينيات إلى التسعينيات حتى تاريخ حرب البارد، وما زلنا نقف جنباً إلى جنب حتى يستمرّ المطعم، لأنُّهُ يحفظ الذاكرة. ذاكرة التّراث الذي يحاول العدوّ الصهيوني سرقتها منّا، وهذا احتلال من نوع آخر. أكلة الفلافلِ فلسطينيةٌ أصيلة وستبقى، فمنذ أن أنهى والدي عملهُ في العمل الفدائي الفلسطيني، قرّر أن يفتتح هذا المطعم الذي يعتبره ليس فقط مكسباً ماديّاً، بل، أيضاً، مقاومة من نوع آخر؛ مقاومة ثقافية بامتياز."
قضية التّراث تلك، هي قضية ثقافية في عاداتنا ومأكولاتنا الفلسطينية التي أحضرها الأجداد من فلسطين معهم إلى مخيمات لبنان؛ الزيّ الفلسطيني، والأغنية الفلسطينية، كما اللهجة الفلسطينية الأصيلة، وحتى الطبخات الفلسطينية؛ فمطعم أبو سليمان بهار، هو جزء لا يتجزأ من تلك الفكرة التي لم تنكسر في وجدان اللاجئين من أبناء المخيم، كما أنّ الجوار اللبناني المحاذي للمخيم، كان يعرف هذا المطعم ويتردّد عليه، لأنّ رائحتهُ كانت تغوي أيّ عابرٍ من أمامهِ.
كان هناك رجل نحيل، قصير، منحني الظهر، مازلنا نتذكرهُ وهو يَقلي "الفلافل" على النار، فتفوح ملء المكان رائحتها الشهية. كنتُ صغيراً أمرُّ من جانبهِ، وتسحبني الرائحة، فتتجّه أمّي نحوه وأتبعها
رائحة المذاق الممزوج بعرق الجبين، واليد المناضلة، والإرادة الصلبة التي تواصل عملها في سبيل تحقيق لقمة العيش. فلولا الأمل لكنّا فقدنا كلَّ شيءٍ. كنتُ أسمع كثيراً هذه الكلمات حين كنت أجلس في مطعم العم أبو سليمان. كان وجهه يبعث الأمل، يشحن القلب والروح بالطمأنينة، ولا يكفَّ عن الكلام والسّلام الذي يرسلهُ معي إلى والدي والعائلة، كما كان أيضاً، حين أشتري سندويشة من عندهِ، يمنحني ثلاثة أقراص فلافل مجاناً، ويقول لي: " سلّمْ على الوالد".
المطعم ما زال ينبضُ بالحياة حتى يومنا هذا، كما أصحابهُ، لكنَّ الزمن تغيّر، وتغيّرت معهُ أشياء كثيرة، وأماكن كثيرة. الاسم ما زال حيّاً، رغم أن الأجيال تعددت كما الأمكنة. هل كان واجباً على أبنائهِ حمل المسؤولية كاملة عنهُ كما الاسم؟ هل كان من حقِّ الرائحة أن تغوي العابر الجائع إلى المطعم؟ يقول الشاعر العربي: "الحنينُ هو الرائحة"، والرائحة هي الذاكرة، والذاكرة هي فلسطين، والمطعم صورة مصغّرة عن مخيمٍ حالم، أمّا هذا الفدائي، العم أبو سليمان، صاحب المطعم، الذي بدّل البندقية من يدٍ إلى اليدِ الأخرى، قال: "تغيّرت وسيلة القتال، لكنّ المعركة واحدة. أن نبقى يعني أنّنا سننتصر يوماً ما".
وقد تحدّث رصيف22 مع ابنه الثاني الدكتور أمين بهار الذي يعمل هو الآخر في المطعم، فقال: "العمل في المطعم يمنحُني أشياء كثيرة، مع أنّني تخرجت دكتوراً في طبِّ الأسنان؛ لكنَّ مطعم والدي بالنسبة لنا شيء آخر، هو ليس فقط عملاً، إنّهُ جزء من مسيرة حياة في المخيم، وهذه المسيرة مستمرةّ من جيلٍ إلى جيل، حتى العودة الموعودة إلى فلسطين، وسنبادر بفتح المطعم ذاتهُ هناك، في قريتنا المحتلة عام 1948؛ هذا هو حلم والدي، وسيتحقق إن شاء الله".
مطعم العم أبو سليمان بهار، هو من المطاعم المشهورة جدّاً في المخيم، وقد ترك أثراً طيّباً، وصورةً حضاريّةً لتراثٍ أصيل. لا تجدون في المخيم أحداً لا يعرف هذا المطعم تماماً؛ إنّهُ تاريخ المنفى بعينهِ، دمّرتهُ الحرب مراراً، ثمّ عاد إلى الحياة مثل عنقاء الرمادِ الناهضة من تحت الدّمار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...