أكثر من عشرين عاماً مرت على آخر مرة كنت فيها هنا، في مدينة "أنصنا" بين الجدران العتيقة، أذكر كيف كنا صغاراً نتسابق لتسلقها، غير مدركين أن عمرها أكثر من ألفي عام، وكنا نبادر بالحفر بطريقة عشوائية، عل أحدنا يكتشف كنزاً أثرياً، لا يقدر بثمن.
مدينة "أنصنا" أو أنتينوبوليس، أسسها الإمبراطور الروماني هادريان عام 130م، لإحياء ذكرى محبوبه الغلام أنتينوس الذي مات غرقاً في النيل في نفس العام. وكما جرى العرف بمصر القديمة، حيث يتم تأليه من مات غرقاً في النيل، تم دمج أنتينوس مع معبود الموتى المصري أوزوريس، ومن ثم تم بناء هذه المدينة لتكون مركزاً لعبادة هذا المعبود الجديد.
لكن هذه الحقيقة وسيرتها تزعج أغلب سكان المكان في العصر الحالي، ومعظمهم محافظين، في قرية دير أبو حنس، جنوب شرق مدينة ملوي بمحافظة المنيا بصعيد مصر، الذين يرون أن أهمية "أنصنا" أسمى وأغلى لهم من مجرد مدينة بناها إمبراطور روماني لـ"غلامه"، ما يشير إلى علاقة مثلية يستنكرها ويرفضها الدين والعرف في الصعيد، ويرى بعضهم في تلك الرواية غبناً تاريخياً تخص ثقافتهم، ومكانتهم التاريخية.
"أرض مقدسة مات فيها آلاف الشهداء"
يضحك سمسم فايز (37 عاماً) مزارع، وهو يعتدل في جلسته أمام منزله الفسيح، ويقول: "بقى الأرض المقدسة يذكرها التاريخ بالكلام الفاضي ده، وينسوا إنها أرض طاهرة مات عليها آلاف الشهداء المسيحيين أيام ديوكلتيانوس".
يصمت فايز، ويسخر ثانية: "يا خوي هو التاريخ ده بيتقر دايماً لما يجيب سيرة المسيحيين"، "يتقر" باللهجة الصعيدية تعني يصيبه الجنون.
يشارك فايز الرأي صديقه ملاك (30 عاماً) من أبناء قرية دير أبو حنس، يقول لرصيف22: "لاسيما عندما تعرف كمّ الإهمال الذي لحق بتلك المنطقة الهامة في التاريخ، وكيف صارت مرتعاً للصوص التنقيب عن الآثار في وضح النهار، ولكن لا حياة لمن تنادي".
الحقيقة أن سمسم، ورغم إحساسه كقبطي مصري بالاضطهاد، إلا أنه بطريقته الساخرة يشير إلى الأهمية الحقيقية للمكان الذي يعد نقطة البداية للتقويم القبطي المصري، أو قل بعودة التقويم المصري القديم الذي يرتبط بالزراعة والنيل.
بحسب الرواية التي يتداولها الأقباط في مصر، وقع اضطهاد قاس على المسيحيين في أيام الإمبراطور الروماني ديوكلتيانوس، فقد أصدر الإمبراطور، بالاتفاق مع معاونيه، في 23 فبراير سنة 303م، منشوراً يقضى بهدم الكنائس، وحرق الكتب المقدسة، وطرد جميع ذوي المناصب الرفيعة من المسيحيين وحرمانهم من الحقوق المدنية، وحرمان العبيد من الحرية إن أصروا على الاعتراف بالمسيحية. أيضاً أصدر ديوكلتيانوس منشورين متلاحقين في مارس سنة 303م، يقضي أولهما بسجن جميع رؤساء الكنائس، ويقضى ثانيهما بتعذيبهم، بقصد قسرهم على جحد الإيمان. فاستشهد من الأقباط مئات الآلاف جراء الاضطهادات. ورغم أن ديوكلتيانوس لم يبدأ اضطهاده للمسيحيين إلا سنة 303م، إلا أنه لفظاعة هذا الاضطهاد، اتخذت الكنيسة القبطية بداية حكم هذا الطاغية وهى سنة 284م، بداية لتقويمها المعروف باسم تاريخ الشهداء، وهو ذاته "تقويم تحوت"، التقويم الشمسي للمصري القديم، الذي كان مرتبطاً بالزراعة والنيل والفيضان.
لكن أبشع مذابح الأقباط في كل الإمبراطورية، كانت على يد الوالي الدموي أريانوس، حاكم مدينة "أنصنا"، الذي قدر عدد شهداء الأقباط على يديه بأكثر من 600 ألف شهيد، حتى امتلأت شوارع أنصنا بالدماء، وكانت رؤوس الأقباط تملأ تلة كبيرة في موقع إعدامهم، حتى أطلق عليها "جبل الشهداء"، ويتبرك أهالي القرى المجاورة لـ"أنصنا" بسبب هذا الجبل.
"بقى الأرض المقدسة "أنصنا" يذكرها التاريخ بالكلام الفاضي ده، وينسوا إنها أرض طاهرة مات عليها آلاف الشهداء المسيحيين أيام ديوكلتيانوس"
يتبرك السكان هناك أيضا بـ"بئر قديم"، شربت منه "العائلة المقدسة"، وجاءت سحابة، وظللتهم فوق البئر، فصار اسمها "بئر السحابة"، وتقع جنوب مدينة أنصنا
ويتبرك السكان هناك أيضا بـ"بئر قديم"، شربت منه "العائلة المقدسة"، وجاءت سحابة، وظللتهم فوق البئر، فصار اسمها "بئر السحابة"، وتقع جنوب المدينة، ويقام احتفال أسطوري كل عام يحضره أسقف الأبرشية على ضفاف النيل، ويقومون بتجسيد زيارة "العائلة المقدسة" للمنطقة ووصولها بقارب في النيل، وصعودها، ووصولها لمقر البئر.
وتذكر "موسوعة تاريخ أقباط مصر" أنه تم تخريب المدينة مع مرور الزمن، ولم يتبق منها سوى بقايا مبان وأعمدة، وبعض الأكوام من الأتربة التي تملأ المكان، فقد أمر صلاح الدين الأيوبي بهدم أسوارها، وحمل أحجارها، وأعمدتها إلى القاهرة بمراكب عبر النيل، فنقلت بأسرها، وبنى بها صلاح الدين ما أحدثه من المباني في مدينة القاهرة.
أرض "سحرة فرعون"
أورد كتاب "خطط المقريزي" ذكر "أنصنا"، وربطها بما هو مذكور في القرآن، وقال إنها هي أرض "سحرة فرعون" التي منها جاؤوا لمواجهة موسى.
لكن الباحث الشاب بيجول أنسى إسحق، عضو جمعية الآثار القبطية، وباحث في التراث العربي المسيحي، يحاول إلقاء الضوء على أهمية المدينة، ولديه خطة لتطويرها بمشاركة باحثين آخرين.
يقول أنسى إسحق لرصيف22: "قامت مجموعتنا البحثية بتحقيق كتابي عن تاريخ المنطقة، وقد قمنا بتقديم بحث باسم مدرسة الرهبان بجبل أنصنا، وأيضاً منطقة دير البرشا التي تضم كنيسة الأنبا بيشوي الأثرية".
ويضيف الباحث: "كما نقوم بجمع كل الأبحاث الأكاديمية التي درست هذه المنطقة، سواء من الناحية التاريخية أو الأثرية والجغرافية، و بعد دراسة موضوعات هذه الأبحاث سيتم وضع خطة تطوير على مدى زمنى معين، بحسب الإمكانيات والتحديات التي تواجه العمل على ذلك".
ويلفت الباحث النظر لأهمية منطقة المنيا شرق نهر النيل، والتي تضم أكثر من 15 منطقة أثرية متنوعة العصور، ما بين عصر ما قبل التاريخ حتى القرن الماضي، ويشدد على أهمية تهيئة المناطق واستعدادها لقبول عدد كبير للزوار، وتقديم أقصى سبل الراحة وأقصر الطرق الموصلة للمناطق، والعمل على ربط هذه المناطق بعدة طرق، سواء الطريق البري أو النهري، من جبل الطير "بسمالوط" لمنطقة "تل العمارنة" مروراً بـ"شيبه" إلى أنصنا وحدود دير أبوحنس.
وينهي الباحث حديثه قائلاً: "إن زيارة الأماكن والأطلال الأثرية يؤجل القضاء عليها يوماً إذ يجعل اللصوص وناهبي الآثار يهربون من المنطقة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...