في كل مرة تتلقى فيها نوال (اسم مستعار) اتصالاً من حبيبها، أو أصدقائها، للخروج معهم إلى العشاء، تقف لساعات أمام خزانتها وعلامات الحيرة بادية على وجهها: أترتدي الفستان الأحمر الطويل أم التنورة السوداء القصيرة، أم تختار ببساطة "اللوك الكاجوال"؟ وحين تقصد المطعم، تتأمل مطولاً قائمة الطعام، عاجزة عن اختيار طبق ما، بخاصة وأن هناك خيارات كثيرة مطروحة أمامها، بدءاً من السلطة الخضراء وصولاً إلى اللحوم والأسماك، وفور عودتها إلى المنزل، تقلّب المحطات التلفزيونية وتجد نفسها عاجزة عن اختيار برنامج محدد لمشاهدته...
لم تكن هذه الشابة تعلم أنها تعاني من مشكلة نفسية ما، حتى لاحظت أنها تقوم بإضاعة الكثير من الفرص في حياتها المهنية خاصة، لمجرد أنها مترددة وعاجزة عن اتخاذ أي قرار مهما كان بسيطاً، فقصدت طبيبتها النفسية والتي اكتشفت على الفور أنها مصابة بمرض "رهاب الخوف من تفويت الخيار الأفضل".
رهاب الاختيار
"ليس من السهل أن نكون شيئاً في الوقت الحاضر. هناك الكثير من المنافسة الوحشية"، هذا ما قاله أوسكار وايلد في العام 1895، ومنذ ذلك الحين، يمكن القول إن المنافسة قد أصبحت أسوأ وأشرس، بحيث أننا نُعرّف أنفسنا بأننا خبراء في كل شيء، ونعتقد بأننا أفضل من الآخرين.
فقد اعتبر موقع سيكولوجي توداي أننا نبالغ بتقدير أنفسنا في كل ما نقوم به، وكلما ازداد اهتمامنا بشيء ما كلما ازداد اعتقادنا بأننا نبرع فيه أكثر من بقية الناس، الأمر الذي يجعلنا نعيش مع صورة ذاتية مزيّفة ولا تشبه الواقع، وتتفاقم المشكلة عندما نخشى من تفويت الخيار الأفضل، فنظل نبحث عن كل ما نعتقد أنه "الأفضل" بالنسبة لنا، حتى نخسر كل شيء في نهاية المطاف.
وبالرغم من أن حرية الاختيار تعزز مشاعر الاستقلالية والحرية وإحساس الفرد بالسيطرة الشخصية، إلا أن زيادة الخيارات قد تتحول إلى مسألة شاقة بالنسبة لبعض الأشخاص الذين يجدون أنفسهم غير قادرين على اتخاذ أي قرار مهما كان سهلاً وبسيطاً، في سياق ظاهرة تعرف بالفوبو FOBO أو (Fear of better options) أي الخوف من تفويت الخيارات الأفضل، ما يؤدي إلى شعور المصابين بالحيرة الدائمة والإحباط والتوتر والتعاسة، وفق ما كشفته دراسة أجراها كل من إينغير وليبير، والتي خلصت إلى القول إنه كلما واجهنا العديد من الخيارات الجذابة، كلما شعرنا بالقلق إزاء تفويتها.
نبالغ بتقدير أنفسنا في كل ما نقوم به، وكلما ازداد اهتمامنا بشيء ما كلما ازداد اعتقادنا بأننا نبرع فيه أكثر من بقية الناس، الأمر الذي يجعلنا نعيش مع صورة ذاتية مزيّفة ولا تشبه الواقع، وتتفاقم المشكلة عندما نخشى من تفويت الخيار الأفضل، فنظل نبحث عن كل ما نعتقد أنه "الأفضل" بالنسبة لنا، حتى نخسر كل شيء
واللافت أن الفوبو لا يتعلق فقط بالقرارات المصيرية، إنما قد يحدث عندما يكون القرار بسيطاً، أو عندما تكون الخيارات كلها مقبولة: بدءاً من البرنامج الذي نود مشاهدته على التلفاز، أو الطعام الذي نريده على العشاء، وصولاً إلى قراراتٍ أكثر أهمية، مثل قبول الوظيفة الجديدة أم لا...
فبغض النظر عن الخيار المطروح، يجد الشخص المصاب بهذا النوع من الرهاب نفسه محاطاً بالعديد من الخيارات، الأمر الذي يقوده إلى "شلل التحليل"، حتى عندما لا تكون هناك نتائج مضمونة، وحتى عندما لا تكون الخيارات مطروحة على الطاولة، وقد يكون المثال الشائع على ذلك محاولة اتخاذ قرار بشأن ما تفعله في الإجازة الأسبوعية: لا شك أن الدعوة للخروج مع الأصدقاء سوف تكون مريحة ومضمونة المتعة، لكن هناك حفلة أخرى في الطرف الآخر من المدينة قد تكون أكثر إمتاعاً... وهكذا قد يقرر الشخص المعني ببساطة البقاء في المنزل، خشية من اتخاذ أي خطوة خاطئة قد يندم عليها في وقت لاحق.
من هنا، من المحتمل أن يمتنع الشخص المصاب بالفوبو عن الالتزام، أو أنه يلتزم بموعد ثم يعمد إلى إلغائه.
الرغبة في الأفضل
إن الحياة هي عبارة عن مجموعة من الخيارات، وفي حين أن البعض يجيد حسم أمره واتخاذ قراراته بشكل فوري، فإن البعض الآخر يجد صعوبة في التعامل مع هذا الكمّ الزائد من الخيارات المطروحة أمامه، فيصاب بنوع من "الشلل الفكري"، الأمر الذي يجعله يتخبط في حيرة دائمة.
والحقيقة أنه يمكن تشبيه رهاب الفوبو بالحلقة المفرغة التي يقع فيها المرء، عندما يبحث بشكل هاجسي عن كل خيار ممكن، خوفاً من أن يخسر "الخيار الأفضل"، فيسأل نفسه باستمرار: ماذا لو اخترت الشيء الخطأ؟ ماذا لو برز خيار أفضل في وقت لاحق؟
اعتبر باتريك ماكغينيس، وهو مقدم برنامج Fomo Sapiens وباحث درس تأثيرات رهاب الفوبو لسنوات عديدة، أن الفوبو ليس بالضرورة أن يكون سلوكاً بشرياً جديداً، شارحاً ذلك بالقول: "هذه المشاعر هي جزء بيولوجي مما نحن عليه. أنا أسميها بيولوجيا الرغبة في الأفضل. تمت برمجة أسلافنا لانتظار الأفضل لأن ذلك يعني أنهم كانوا أكثر نجاحاً".
وأوضح باتريك أنه لطالما احتار الناس أمام خيارات الحياة الرئيسية، مثل الزواج أو العمل أو شراء منزل جديد، على أمل العثور على خيار أفضل، مضيفاً بأنه اليوم، وعندما يكون لدينا الكثير من الخيارات، فإننا لا نحاول فقط تحسين مسألة من سنتزوج وأين نريد أن نعمل أو نعيش، بل نحاول تحسين تقريباً كل جانب من جوانب حياتنا، ونبذل وقتاً إضافياً وطاقة جبارة في هذه العملية.
واعتبر ماكغينيس أن دخول التكنولوجيا المتطورة وانتشارها على نطاق واسع، بالإضافة إلى الإنترنت، كلها عوامل ساهمت في جعل الفوبو سلوكاً اجتماعياً شائعاً، ضارباً المثل التالي: عندما يدخل المرء إلى موقع Amazon لشراء زوج من الأحذية البيضاء، فإنه سيجد أمامه أكثر من 200 خيار، وهو أمر لم يكن موجود في السابق.
هذه النقطة تحدث عنها بدوره باري شوارتز في كتابه The Paradox of Choice: Why More Is Less حين أظهر أن المتسوقين الذين كانوا عليهم الاختيار بين 20 نوعاً من المربى أو 6 أزواج من الجينز، واجهوا صراعاً داخلياً وكانوا أقل ارتياحاً لاختيارهم النهائي.
وبالعودة إلى ماكغينيس، فقد كشف عن عامل آخر أكثر عاطفية يساهم في تأجيج رهاب التردد، بالقول: "رهاب تفويت الخيار الأفضل مدفوع بالنرجسية، لأنه عندما تصابون بالفوبو، هذا يعني بأنكم تضعون مصالحكم الشخصية قبل مصالح أي شخص آخر، الأمر الذي يجعل كل الناس من حولكم في حالة انتظار".
واللافت أن ماكغينيس قد عانى شخصياً من رهابي فومو وفوبو، حين صاغ المصطلحين في ورقته البحثية التي قدمها بكلية إدارة الأعمال في جامعة هارفارد منذ 15 عاماً، معتبراً أن هذه البيئة الغنية بالاختيار (أي الجامعة) هي التي ولدت لديه رهاب تفويت الخيار الأفضل، شارحاً ذلك بالقول: "الفوبو يعني أن يكون لديكم الكثير من الخيارات. كلما كنتم أكثر ثراء، كلما ازدادت قوتكم وكثرت خياراتكم".
لا شك أن اتخاذ القرار هو إجراء ذهني معقد يشمل العديد من الوظائف التنفيذية للمخ، أي العمليات المعرفية الرئيسية التي يستخدمها العقل للتحكم في السلوك، من التخطيط إلى إدارة الدوافع، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: من أين يأتي الفوبو؟
الخوف من التخلي
في الحقيقة، يأتي الفوبو من الخوف من التخلي، بحسب ما أكده ماكغينيس، بالقول: "من أجل اختيار شيء ما، يجب عليكم أن تتخلوا عن شيء آخر، وبالتالي يتولد لديكم شعور الخوف من الندم على الطريق غير المسلوك، لذلك تفضلون ألا تختاروا من الأساس، تاركين كل الخيارات متاحة".
وفسر العلماء الأساس النفسي لهذه الحالة، بأنه حين يتعلق الأمر باتخاذ القرارات فيمكن تقسيم الناس إلى مجموعتين: المبالغين والمكتفين.
ففي حين أن المبالغين يتخذون الخيارات بناءً على أقصى استفادة مترتبة لاحقاً، فإن المكتفين يقومون بالاختيار وفق معايير متواضعة، فعلى سبيل المثال سوف يختار الشخص المبالغ سيارة أكبر مما يحتاج إليه فعلياً، تحسباً لاحتياجه سيارة أكبر في المستقبل، بينما يختار المكتفي سيارةً مناسبة له في الوقت الراهن، بمعنى آخر يضع المبالغون لأنفسهم معايير عالية ويخيب أملهم عندما يفشلون في تحقيقها، متحسرين على ما خسروه بدلاً من التركيز على ما لديهم.
"من أجل اختيار شيء ما، يجب عليكم أن تتخلوا عن شيء آخر، وبالتالي يتولد لديكم شعور الخوف من الندم على الطريق غير المسلوك، لذلك تفضلون ألا تختاروا من الأساس، تاركين كل الخيارات متاحة"
وبالتالي اعتبرت صحيفة الغارديان البريطانية، أن أولئك الذين يعانون من رهاب تفويت الخيار الأفضل قد يكونون أشخاصاً مبالغين أغرتهم التكنولوجيا المعاصرة، أو ربما قد تكون التكنولوجيا المعاصرة هي التي قامت بتحويل المزيد من البشر إلى مبالغين، أو ببساطة قد لا يرغب الناس في فعل نصف ما يقولون إنهم يرغبون بفعله.
في الختام، وبغض النظر عن الأسباب التي تدفع المرء للوقوع في دوامة الفوبو، من المهم أن نعيش وفق قناعة محددة، فالكمال هو من أسوأ الأمراض التي تصيب العقل البشري، وعلى الجميع أن يعي أننا "لسنا كاملين ولم نخلق للبحث عن الكمال، خلقنا بشراً نخطئ ونصيب ونجرب ونتعلم"، وفق ما قاله شكسبير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...