شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
لا نسافر لِنصلَ، بل لنكتُب… عن علاقة الكتّاب والكتابة بالطّيران

لا نسافر لِنصلَ، بل لنكتُب… عن علاقة الكتّاب والكتابة بالطّيران

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 20 ديسمبر 201904:29 م

عندما تولد فينا الرغبة للكتابة، نكتبُ، ولا ننتبه للمكانِ الذي نكتبُ فيه. لا ننتبه إن كنّا في البيتِ أم خارج البيت، على مقعدٍ في الحديقة أم على رصيف الشارع، لكنَّ الكتابة من الفضاء مختلفة، تجعلُنا ننتبه ونبصر المكان من أعلى أوضح، لأنّ الكتابة من الطائرة، تجعلنا أكثر انتباهاً لسيناريو الحياة التي تدور تحتنا، هي كتابة السّفر بإمتياز.

في الطائرة، نرسمُ بالمخيلة شكل الأرض الكروي، لأنّنا لسنا عليهِ ولسنا فيهِ، وشيءٌ ما يقودُنا إلى ترجمة المشاعر المزدحمة فينا، أنّنا الآن أعلى من العالم الذي نكرهُ ما يحدثُ فيه، من حربٍ ودمٍ ودمار؛ نكون في حالة الهدوء النسبي ممّا تركنا هناكَ على الأرض، نغلق الهاتف المحمول، نجلس على الكرسي الضيق، ننظر من النافذة التي تتسع لحجم الوجه فقط، وأمامنا طاولة متحركة للطعام والجريدة. نفتح كتاباً ونغلقهُ، لكنّنا حين نحاولُ الكتابة سنكتب، لأنَّ الحواس تستعدُّ لاستقبال الوحي المتربّص في هذا اللامكان.

سبق وقلت في قصيدةٍ كتبتُها في الطائرة، أثناء رحلتي من لبنان إلى أبوظبي، قبل عامين، بعنوان: "في الطائرة"، ونُشرت في ديوان "لا شيء فيكِ سواي":

الرّاحلونَ يُودّعون بيوتهِم/ مِن فوق غيمٍ سَابحٍ/ إلّا أنا، وَحدي أُصلّي/ يَا إلهي: كيفَ يحمِلُني الهواء؟/ وَلا أرى إلّا بياضي/ كيف يَرفعُني إلى المرّيخِ فولاذي؟/ وَلا أدري متى أدري؟/ هيَ الساعاتُ تمضي فوق أجنحةِ الفضا/ والأمسُ غابْ/ وَأنا على سفرٍ يَسيرُ الوقتُ بي/ وعلى ذهابٍ كالإياب.

إنّ استلهام الأفكار لعب دوراً كبيراً هنا، وليس من الضروري أن تقفز الفكرة على ورقٍ أبيض لكي نقول بأنّها كُتبت في الطائرة؛ فربّما تُكتب في الذهن والمخيلة وتترك أثراً كبيراً في ثنايا المبدع، فيستعيد تلك الحالة عندما يصل، أو بعد هنيهة

كنتُ أجلس على الكرسي الأوسط بين امرأتين، واحدة على يميني وفي حضنِها طفلها، والأخرى على شمالي، وتبدو جميلة. كنتُ أنظرُ وأفكّرُ بالمسافرين الجالسين بهدوءٍ وتخوّفٍ، يودِّعون بلادِهم، وشيءٌ ما كان يثير الأسئلة داخلي، لماذا كلُّ هذا السفر؟ أسألُ وأصمتُ، وكأنّني أكتب في المخيلة وفي الهواء.

وأنا على متن هذا الهواء، شيءٌ ما دفعني إلى أن أفتح حقيبة اليد، وأخرج منها قلماً وورقة لكي أكتب هذه الأبيات مباشرةً من على متن الطائرة.

الحالة النفسية تلعب دوراً كبيراً في شحن الروح بالإبداع، ومن مبدعٍ لمبدعٍ يختلف الأمر، هناك من يرى نفسهُ قلقاً من التحليق، فلا يجد نفسهُ مهيّئاً لكتابةِ حتى المُذكّرات العادية منها. يهرب من قلقهِ مستسلماً للنوم، وهناكَ من تجدونهُ يقرأ روايةً، ويبدو جاهزاً لاستقبال الفكرة التي تدور في رأسهِ. ويتّضح ذلك من وجوهِ الناس المثقفين والكتّاب منهم.

"كلُّ إنسانٍ تعجزون عن تعليمهِ الطيران، علّموهُ على الأقل أن يُسرع بالسقوط". ربّما كان نيتشه يفكّر بهذا القول وهو على متن الطائرة، ما دفعهُ لقول ذلك

وهناك الكثير من العظماء الذين ذكروا عن حالتهم في الطائرة والطيران، ويبدو أنّهم قد تأثّروا بهذه الحالة أثناء سفرهم، وقد تلمّسوا حقيقة التجربة، منهم فريدريك نيتشه الذي قال أقوالاً مشهورةً عن الطيران، منها: "كلُّ إنسانٍ تعجزون عن تعليمهِ الطيران، علّموهُ على الأقل أن يُسرع بالسقوط".

ربّما كان نيتشه يفكّر بهذا القول وهو على متن الطائرة، ما دفعهُ لقول ذلك، وما استدعاهُ إلى قولٍ آخرٍ عن الحالة ذاتها، حين قال أيضاً: "كُلّما ارتفعنا أكثر، كُلّما بدونا أصغر حجماً لأولئك الذين لا يجيدون الطيران".

إنّ استلهام الأفكار لعب دوراً كبيراً هنا، وليس من الضروري أن تقفز الفكرة على ورقٍ أبيض لكي نقول بأنّها كُتبت في الطائرة؛ فربّما تُكتب في الذهن والمخيلة وتترك أثراً كبيراً في ثنايا المبدع، فيستعيد تلك الحالة عندما يصل، أو بعد هنيهةٍ. لكنّ هذا الشعور دائماً، يحاول المبدع القبض عليه، خوفاً عليه من التلاشي في غياهب النسيان، وتلك الحالة الفريدة هي حالة ثمينة في الوقت ذاته، وعلى حدِّ قول غوته أيضاً عندما قال عن الطيران: "لا يسافر المرء لكي يصل، بل لكي يسافر"، ربّما هذا المرء هو غوته ذاته، وهو مجرّد خطاب لنفسهِ ولتجربتهِ مع السفر والطائرة.

وتلك المقولة توحي لنا بلا شكٍّ، بأنّها كانت تسيطر على ذهنية قائلها، وهو في الطائرة، أعلى وأبعد، أي أنّهُ لا يفكّر بالوصول بقدرِ ما يُفكّرُ بالسفر. ويذكّرنا ذلك بقولِ محمود درويش حين عاد إلى فلسطين أوّل مرة، وقال: "الطريق إلى البيت أجمل من البيت". طبعاً، الشبه بين القولين ليس كبيراً ربّما، لكنّنا نتلمس عند درويش بأنه حين وصل إلى البيت وجد أن الطريق إليه كان أجمل.

فالسفر هو مغامرة، وقوّة، وتحدٍّ، وصراع، وعبور من حالةٍ إلى حالةٍ أخرى، ومن بلدٍ إلى بلد، ومثلما أسلفنا تختلف بين شخصٍ وآخر، وكلُّ مبدعٍ يصنع لها معنىً خاص، وتستمر هذه الكتابة المختلفة حتى الوصول إلى المبتغى، والمبتغى هو السفر الدائم إلى حقيقة الإبداع في اللامكان أو خارج المكان؛ كما نجد حريةً خاصة في هذه الحالة؛ مثلما تقول الطيّارة المصرية، لطيفة النّادي: "السبب الحقيقي الذي دفعني إلى الطيران هو أن أكون حرّة".

السبب الحقيقي الذي دفعني إلى الطيران هو أن أكون حرّة

لم تكن لطيفة كاتبة، بل كانت قائدة طيّارة، لكنّنا نجد تلك العفوية التي دفعتها إلى البوح بإحساسها الحرّ وشعورها اللطيف بالحرية أثناء الطيران. وصدقية مقولتها تنطبق أيضاً على الكتّاب بمعنى أن يكونوا أحراراً ويختارون تحليقهم الحرّ إلى حيث يريدون، ولا نقصد هنا التحليق مجازيّاً فقط، بل أيضاً، واقعيّاً، كما أنّ التحليق الإبداعي أتى من التحليق الطيراني، في مفهوم معنى الارتقاء والسموّ إلى العلوّ، كتحليق الطير وهو يفتح جناحيهِ للرّيح.

فكذلك الكاتب يحلّق على متن الطائرة، ويفتح فكرتهُ لفضاء الكتابة الفسيح، والحرية تكمل مسارها في العلو. نجد الكاتب التشيلي العالمي إليخاندرو جودوروسكي، يقول: "الطيور التي تولد في القفص تعتقد أن الطيران جريمة". وكما هو معروف، السماء مفتوحة للصاعدين إليها، والمقصود من مقولة كاتبنا هي: مَن لم يجرّب ركوب الطائرة، لا يمكن أن يكتشف الحرية الحقيقية، وقد يعتبرها جريمة صعبة، لأنّهُ باختصار، مولود في القيد، فكيف لهُ أن يكون كاتباً محلّقاً أعلى من عالمهِ السفلي الضيق؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image