في ظلّ سكوت رسمي عن انتهاكات إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، يخرج صوت من قاع مصر ليطلق "مانفيستو شعبي"، معبراً عن روح المقاومة ورافضاً وجود هذا الكيان بين العرب... كان ذلك في عام 2000، وإبان الانتفاضة الثانية.
لم يخرج الموقف من الحكومات بقدر ما خرج من مكوجي مصري، كتب له أن يصبح مطرباً شعبياً يكسر كل قاعدة للشهرة وكل مألوف للنجومية. إنه شعبان عبد الرحيم، من ردّد المصريون أغنياته التي تشبه "أناشيد مدرسية" لم تدع شيئاً في الحياة إلا طرقته، في شكل ثابت لحناً وكلاماً.
المحلل لتجربة شعبان عبد الرحيم، الذي توفي فجر يوم الثالث من كانون الأول/ ديسمبر 2019، بمستشفى المعادي العسكري بالقاهرة، بعد صراع مع المرض، عن عمر يناهز 62 عاماً، يجد فيها مشتركات مع ملامح الشخصية المصرية، لذلك أحبه المصريون، أو لنقل ذابوا فيه حتى لو لم يُفتنوا به.
صار شعبان نجماً بين ليلة وضحاها... كل شيء في مصر يمكن تنجيمه بسرعة الصاروخ دون أسباب منطقية، لكن شعبان كان يملك من تلك الأسباب الكثير.
الأولى في المحبة
يحب المصريون كل ظريف وابن نكتة... عفوي... يعرف كيف يسخر، وهو نفسه قابل للسخرية... كل خائف يحترم "الباشاوات".
في لقائه بالسياسي المصري البارز، عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، خلال حفل توقيع كتاب له، التقطت الكاميرات صورة لشعبان مع "موسى"، وبدا المطرب الشعبي في الصورة وهو يتسلم نسخة الكتاب التي أهداه إياها المرشح السابق لرئاسة مصر، كأنه يقبّل مصحفاً.. شعبان الذي اعترف بعد تلك الصورة أنه لا يقرأ ولا يكتب، تصرف كأي مصري يخشع أمام هيبة "البدل"، علاوة على أن فكرة وجود كتاب في يديه لم تكن تعني له إلا أنه يمسك بالمقدس... لذا انحنى ووضع على غلاف الكتاب المجهول قبلة.
يحترم المصريون أولئك الذين يرتدون "البدل" كما يحترمون السادة الذين يظهرون على شاشات التليفزيون ويصدقونهم، ويعاملونهم أحياناً على أنهم سفراء سماويون... لذا أحب المصريون شعبان لأنه مثّلهم في البساطة والخوف معاً.
إبان الانتفاضة الثانية، لم يخرج الموقف من الحكومات بقدر ما خرج من مكوجي مصري، كتب له أن يصبح مطرباً شعبياً يكسر كل قاعدة للشهرة وكل مألوف للنجومية
المكوجي والتوحيد
في وادي النيل نشأ المصري القديم، على زراعة أرضه عاش، لا يبرحها... هو المقيم الذي لا يسافر كجيرانه الفينيقيين... تعلّم الثبات في أرضه ومال إلى الجمود، فأقام حضارته على التوحيد في واد ذي زرع خصيب، وكان له نصيب من فكرة الإله الواحد على يد إخناتون... وألهمه الثبات حب الوحدانية والدوران في المكان وتكرار النشيد.
ألا يذكركم التكرار بألحان/ بلحن كل أغاني شعبان عبد الرحيم؟!
لقد صبَّ مكوجي مصر ومطربها ما أراد أن يغنيه في قالب ثابت، لا يصل إليه التنوع اللحني ولا "فورم" بنية الأغنية، هو لحن واحد لأي كلمات، حتى أنه لم يغير تقريباً مؤلفه الخصوصي الملاكي، إسلام خليل.
لم يندهش المصريون كثيراً من صعود ظاهرة مطرب اللحن الواحد والأداء الواحد، بالعكس رددوا وراءه ما يقوله ذاك الذي كانت مهنته كي الملابس في منطقة شعبية... تتحرك يده وقدمه مع حركة "المكواة الرجل"، حديدية الصنع ثقيلة الحركة، تماماً كرجع المواويل، وبات شعبان جزءاً من دوران الجمهور حول محوره ليتعاقب في نفوسهم، ليل واحد ونهار واحد لا يغيره مرور الزمن... لذا أحبوه لأنه يمثّلهم في ركودهم وروتينهم الحياتي، بين لقمة العيش والوظيفة الحكومية.
الملامح المقهورة التي سلختها السنين والتي ميزت وجه شعبان، لا تفرق بينها وبين التعب لفوات الأوان وعدم تحقيق الذات، ولا ترى فيها تغييراً بعدما توفّر المال وأتت الشهرة على كبر... هو هو، نفس الوجه الذي بقي عليه صدأ الزمن وإجهاد اللف في الأفراح الشعبية وراء جنيهات "النقطة"
لا أظن أحداً في مصر لن يحزن اليوم على وفاة شعبان عبد الرحيم... فالكل قد وجد في هذا الشخص نسخة منه. سيترحم عليه الجميع- لا كمطرب شعبي فحسب- بل كزميل مواطنة تضرب بجذور سماتها في قلب أبناء النيل... النيل الذي تنهمر عليه الابتهالات والدعوات كل صباح بألا يجف ماؤه، لئلا تجف حياتنا على ضفتيه
العادي... مطرباً
الملامح المقهورة التي سلختها السنين والتي ميزت وجه شعبان، لا تفرق بينها وبين التعب لفوات الأوان وعدم تحقيق الذات، ولا ترى فيها تغييراً بعدما توفّر المال وأتت الشهرة على كبر... هو هو، نفس الوجه الذي بقي عليه صدأ الزمن وإجهاد اللف في الأفراح الشعبية وراء جنيهات "النقطة".
تلك الملامح والملابس التي تشبه فرش الصالونات في بيوت مصر، جعلت من شعبان عبد الرحيم قطعة أثاث تتماهى مع حيطان المنازل المصرية، إنه يشبه رسومات الحج على الجدران، يشبه "غُلب" المصريين وفرحتهم الصاخبة بالفوز في مباراة كرة قدم: إنه وجه الحزن المصري واللامبالاة المصرية والعفوية التي تلقي بكلمات في غير موضعها، فيسمي المصريون صاحبها بأنه "رجل طيب" و"بتاع ربنا"... إنه "الأرزُقي"، أي الذي يكسب رزقه مصادفة، مثلما تجني شبكة صيد مليئة بالخروم مردوداً وفيراً من سمك الحظ... هذه مصر... ضربة حظ لمن يعيش مصادفة ويموت مصادفة.
لا أظن أحداً في مصر لن يحزن اليوم على وفاة شعبان عبد الرحيم... فالكل قد وجد في هذا الشخص نسخة منه. سيترحم عليه الجميع- لا كمطرب شعبي فحسب- بل كزميل مواطنة تضرب بجذور سماتها في قلب أبناء النيل... النيل الذي تنهمر عليه الابتهالات والدعوات كل صباح بألا يجف ماؤه، لئلا تجف حياتنا على ضفتيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...