كنت أعاني في السابق من فوبيا الفقدان، وربما غزاني هذا المرض بعد وفاة والدي منذ خمسة أعوام، لا سيما أنه توفي بشكل مفاجئ. بت أشعر أنني مسؤولة عن حماية حياة من أحبهم، وكلفت نفسي مهمة "الملاك الحارس حياة الأحبة" وأطلقت شعار: "ممنوع حدا بحبه يموت قبلي".
سرت على هذا الدرب لمدة خمسة أعوام، وأعلنت راية الهزيمة قبل أربعة شهور، عندما تفوق قضاء الله وقدره وحكمته أيضاً، على كل محاولاتي تجاه الحفاظ على حياة روحي (أمي التي وعدت نفسي أنني لن أكتب عنها)، والتي ارتقت عند خالقها وحارس كرامتها الذي يفوقني عدالة... الله جل جلاله.
عندما تفقد أغلى البشر على قلبك، على الأقل بالنسبة لي، لا تعود تعلم معنى الشعور بالقلق على أي أحد أو أي شيء، حتى على نفسك بكل تفاصيلها: صحتك، مظهرك، وحتى اهتماماتك. تصبح كائناً أقرب إلى البلادة منك للاحتفاظ بشعور لا يستحقه إلا أصحابه الذين غابوا، فبعد فقدان الغالي لا يبقى عندك غال تقلق لأجله وترسم أحلامك بما يكفل رسم ابتسامة على وجهه، لأجله فقط، لا لأجل أحد، حتى أنت!
ما يزال في القلب طاقة تقف إلى جانب الآخر، ليس أي آخر، بل المظلوم والمريض والفقير، وأي أحد في خارطة المسحوقين في بلادنا… وما أكثرهم!
كنت من بين الشباب والصبايا الأردنيين الذين غردوا لمدة شهرين بـ #عالجوا_محمد، ومشاركتي في هذه الحملة، وإن كانت متواضعة بما توفره له أدواتي كصحفية، نبهتني إلى شيء لم أكن قد انتبهت له بعد تجربتي القاسية بالفقدان، أنني وإن لم أعد أكترث لأي شيء أو لأي أحد، إلا أنه ما يزال في القلب طاقة (القلب الذي كان يتعرض للسخرية من شدة حساسيته لكل شي)، طاقة تقف إلى جانب الآخر، ليس أي آخر، بل المظلوم والمريض والفقير، وأي أحد في خارطة المسحوقين في بلادنا… وما أكثرهم!
إن حملة #عالجوا_محمد، التي لم يتبق كلمة ولا نداء استغاثة ولا حتى تهديد للحكومة الأردنية إلا واستخدمناها، تعود لقضية شاب أردني اسمه محمد الغنيمين، يعيش في محافظة معان جنوب الأردن، يعاني منذ العام 1998 من تليف في الرئتين، وبسبب تردي أوضاعه الصحية مؤخراً، أصبحت أنبوبة الأكسجين تلازمه طوال الوقت، وبسبب أخطاء طبية سابقة أصبحت حالته خطرة جداً، أدت إلى الضغط الشرياني الرئوي… ولا يوجد علاج لحالته في الأردن.
الأمر الذي جعله يناشد الحكومة عبر صفحته الخاصة على فيسبوك، للتكفل بتكاليف علاجه الذي سمع، بعد البحث والتقصي، أنه متوفر في الهند، تلك المناشدة خلقت حالة من الفزعة الشعبية الأردنية، تكاد تسمع أصوات تغريدات الأردنيين وهم يصرخون ويطالبون الحكومة بالاستجابة لنداء محمد، تغريدات جعلت من وسم #عالجوا_محمد على مدار أسبوعين، جعلت الحكومة تستجيب وترد على النداءات، وتمارس دوراً احترافياً جداً بتمثيلية أنها ستتكفل بعلاجه، عندما تنقلت به بين مستشفى وآخر، وبين لجنة طبية وأخرى، لمدة شهرين، "قال يعني" تجهيزاً لتأمين علاجه.
لن أدخل في تفاصيل تمثيلية الحكومة، ولن أدخل في زوبعة #بدنا_حق_محمد، فلدي واجب أخلاقي ومهني أن أروي تجربتي الشخصية معه، عبر أيضاً ما تتيحه لي أدواتي كصحفية، عبر شاشة وكيبورد ينعون محمد الغنيمين بطريقتي الخاصة.
مات محمد يوم الجمعة الماضي. علمت بالخبر عند الساعة السادسة مساء، عندما قرأت تغريدة أحد أصدقائه المقربين وهو يحتسب الحكومة التي حرقت قلبه عند الله، خرجت من شاشة تويتر بعد أن قرأت الخبر، وبقيت شاردة عاجزة لا أعلم ماذا أفعل.
أرسلت رسالة صوتية إلى جروب على الواتساب يجمعني بصديقتين اثنتين أسميهما "حراس ذاكرتي"، وأخبرتهما، مع العلم أنهم لا تعرفان محمد، لكنني شعرت أنني بحاجة إلى قلوب دافئة كقلوبهما لأشاركهما الخبر، بعدها لم أشعر أنني فقدت شعور العجز تلك اللحظة، بل أضيف إليه شعور أن هناك طاقة اضافية اجتاحت جسدي لفعل أي شيء يحتاج الى مجهود.
قمت ولملمت الغسيل الذي غسلته ظهر ذات اليوم من المنشر وأعدت غسله (حتى الآن لا أعلم ماذا استفدت من هذه الخطوة)، رغم ذلك استمرت الطاقة عندي بل شعرت أنها ازدادت، ولم أجد أمامي خياراً سوى ارتداء لباس الرياضة ولف وجهي بالشماغ الأردني والخروج للركض، ركضت أكثر من ساعة وربع، ولا أعلم أيضاً سبب ارتدائي للشماغ الذي لا أرتديه إلّا بمناسبات معينة، وأكيد الركض ليس منها، لكن يبدو بارتدائي له كنت أشعر أنني قريبة من محمد.
لا يوجد علاج لحالة محمد الغنيمين في الأردن، الأمر الذي جعله يناشد الحكومة للتكمل بتكاليف علاجه في الخارج. تلك المناشدة خلقت حالة من الفزعة الشعبية الأردنية، مرفقة بتغريدات الأردنيين وهم يصرخون ويطالبون الحكومة بالاستجابة لنداء محمد
المقربون من محمد الغنيمين كانوا يعلمون أنه موقن أن موته قادم لا محالة، حتى أنه كرر أكثر من مرة: "أنا موافق إني أموت تحت مقص الدكاترة، المهم الحكومة تعمل واجبها وتتكفل بعلاجي لأني متمسك بالواحد بالمية من الأمل وهي مجبورة تعالجني"
لم يسبق لي أن قابلت محمد الغنيمين أو محمد الشوبكي أو شامان، كما كانت أسماء حساباته على تويتر، التي أرهقتنا وهي تتعرض إلى الإغلاق بسبب تغريداته التي لا تعجب المسؤولين، سوى مرة واحدة قبل 16 يوماً من وفاته، حيث زرته وهو يرقد على سرير المرض في مدينة الحسين الطبية.
كان ذلك مساء يوم خميس، وأثناء ذهابي إلى المستشفى احترت ماذا أجلب معي كهدية زائر للمريض، واستبعدت فكرة إحضار ورد خوفاً على صحته وخصوصاً رئتيه، واخترت بدلاً من الورد بالون هيليوم بلون أزرق فاقع، حيث افترضت جزماً أنه يشجع النادي الفيصلي، وجلبت معي كيس بزر الكوسا "سريع التقشير"، لأنني توقعت أن تلك الزيارة ستحتوي على كثير من الأحاديث السياسية طبعاً، والتي بلا شك، تحتاج إلى البزر لدواعي التسلية على قصص الخيبات.
"أهلاً أهلاً شيخة"، قال لي محمد بعد أن فتحت باب غرفته في المستشفى، ولم أفاجئ من مظهره فتقريباً كان قريب إلى الصورة التي تخيلتها عنه: نحيل يبدو أصغر من عمره، وصوته رخيم كصوت مزارع يزرع بذور التفاح في الشوبك، وهو يغني بصوت عال "لأزرعلك بستان ورود وشجرة صغيرة صغيرة تفيّيكي".
استمرت سهرة ذلك اليوم، أقصد زيارة "المريض" محمد أكثر من ساعتين، ولك أن تتخيل عزيزي الذي يتابع محمد الشوبكي على تويتر، ماذا تخللت تلك الجلسة من أحاديث، تلك الأحاديث التي جعلتني أقول له مازحة: "شكلي رح أطلع من هون على أمن الدولة من وراك"، ضحك محمد وقال لي: "تخافيش... إحنا معك".
لم ينحصر حديث محمد وهو يجلس متربعاً في سريره ويمارس خاصية التشبير "تحريك اليدين" وهو يتحدث، كأنه شيخ يتكلم في جلسة عشائرية، عن السياسة. مر على تجربته في مرضه، ووضعني في صور جميلة لطبيعة الحياة البسيطة في محافظة معان، وضحكنا كثيراً وهو يروي تجربته مع والدته عندما كانت تتنقل به بين الشيخات، إيماناً منها أن علاجه سيكون على أيديهن: "هاي أمي ومجبور أسايرها وما أكسفها"، قال محمد.
وقبل أن أخرج سألته كيف يقضي الساعات والأيام والليالي الطويلة في غرفته، لأنني وقتها شعرت بالمسؤولية تجاهه وشعرت بالتقصير أنني أخّرت زيارتي له، أجابني: "تخافيش علي هسا بس تطلعي بيجوا عندي المرضى وبسولفلهم سياسة… وسألته: "أفهم من هيك هاي الغرفة رح تكون نواة لحزب أو تيار؟". ضحك وهو ينظر إلى الأرض ويهز برأسه واكتفى بـ"آخ بس".
وداعاً محمد، أو دربك خضرا يا عزيزي، فأنت عند الله البارئ، ونحن هنا ما نزال نصارع طواحين الهواء لغد أعدل
من الأنانية جداً أن أسقط الحالة التي بت أشعر بها بعد فقدان أغلى الناس على قلبي، على الآخرين، ومن غير الإنصاف ألا احترم مشاعر محبي محمد بعد خبر وفاته، تلك المشاعر التي تشمل: الصدمة، حرقة القلب، القهر، الانتقام، والمعنى الحقيقي لشعور فقدان حبيب لأول مرة، ومن الأنانية أيضاً أن احتفظ بخصلة عرفتها عن محمد قبل أن أقابله شخصياً... النبل.
المقربون من محمد الغنيمين كانوا يعلمون أنه موقن أن موته قادم لا محالة، حتى أنه كرر أكثر من مرة عبارة: "أنا موافق إني أموت تحت مقص الدكاترة، المهم الحكومة تعمل واجبها وتتكفل بعلاجي لأني متمسك بالواحد بالمية من الأمل وهي مجبورة تعالجني"، حتى أنه قالها لي في مقابلة صحفية معه عبر الهاتف مرة، وبعد أن أصبح في المستشفى، وبعد حادثة جرش التي اقتلع فيها زوج عيني زوجته "فاطمة" ما أدى إلى فقدانها البصر، أرسل لي رسالة.
لن أكتبها، دعوا صورة الحوار تتحدث... مع العلم أن وصيته لن يصلح تطبيقها، ذلك أن حالة فاطمة الصحية لا يصلح لها ذلك.
غريب هذا الشخص كيف أنه استطاع أن يمزج بين صفات يصعب أن تجتمع جميعها في شخصية واحدة، مشاكس جداً ومراوغ وصاحب لسان سليط على من يقترف خطأ بحق وطنه الأردن، وفي نفس الوقت يملك حنية عجوز أمية شوبكية لا يتوقف لسانها عن الدعاء لأحفادها... وخجول أيضاً، هذا الخجل الذي لمسته أثناء زيارتي له التي تجاوزت الساعتين ولم يضع عينيه في عيني ولو لخمس ثوانٍ، هذا النوع من الخجل لا يملكه سوى الرجال... في زمن قل فيه الرجال!
وداعاً محمد، أو دربك خضرا يا عزيزي، فأنت عند الله البارئ، ونحن هنا ما نزال نصارع طواحين الهواء لغد أعدل، لا شك أن فراقك صعب على كثر وأعتقد أنه شعور سيطول.
بالمناسبة.. أنا لم أذرف دمعة واحدة عليك ولـ"لأسباب تخصني"، وسأبقى أتذكر الدمعة التي انهمرت مني من كثر الضحك، عندما هاتفتني مرة وأنت في مستشفى البشير، وأجبتك أنني سأعود للاتصال بك بعد دقائق لأنني في طريقي إلى اجتماع، حينها قلت لي: "بس بدي أسألك سؤال واحد... هو قديش حق علبة المنظف العملاق؟"، وعندما ضحكت وسألتك عن سبب هذا السؤال الغريب قلت لي: "الله يلعن هيك وزارة صحة ما معها حق علبة عملاق تنظف القرف اللي في القسم إلي أنا فيه"... وختم وهو يصرخ ب: "وك... تعالي صوري".
نعم، سأكتفي بتذكر دمعة ضحك انهمرت مني بعد طول غياب، عن ضحكتي من شخص أنا على يقين أنني، ككثيرين، لن ننساه.
سلم على حبايبي يا محمد...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت