اليوم، وعبر العالم العربي، يفقد المواطنون حرياتهم المالية. الحسابات البنكية للمجموعات الحقوقية والصحافيين المستقلين يتم إغلاقها وفرض قيود على الوصول للعملات الأجنبية على المواطنين للسيطرة عليهم، ووصل الحال إلى أن تؤدي الحاجة للدولار إلى الزج بأحدهم في السجن. القيمة الحقيقية للعملات المحلية تتناقص عامًا بعد آخر، وقد تصبح مدخرات الشخص غير متاحة بين عشية وضحاها كما شهدنا في لبنان، وفي بعض الأحوال تنهار العملة المحلية لتنهار معها مدخرات الأفراد العاديين. يومًا بعد يوم، تزداد معاناة المنطقة من نقص الأموال بفعل سوء الإدارة أم التضييق على الأفراد أم الفساد المالي، ومع ذلك تزداد سيطرة الحكومات على الاقتصاد.
فيما يبحث المواطنون في لبنان، كما في السعودية وفلسطين، عن سبيل آمن للتحكّم بمالهم، قد يجدون ملاذهم في البتكوين، وهي طريقة ثورية لمكافحة مركزية سيطرة الدولة على اقتصاديات الأفراد، وسبيل لمكافحة الرقابة على معاملاتهم المالية. الأموال الإلكترونية وسيلة لا تحدها الحدود السياسية، ويصعب مراقبتها مقارنةً بالأموال السائلة أو البلاستيكية، كما أنها صارت ظاهرة عالمية ليست إلا في بدايتها.
إذا أخذنا حالة فنزويلا مثالاً بالغ الوضوح، نجد أن العالم العربي يمكنه أن يتعلم درسًا جيدًا. في مدينة كوكوتا الكولومبية الحدودية، يفيض اللاجئون الفنزويليون نحو كولومبيا بحثًا عن القوت لإطعام عائلاتهم. سنوات من التضخم الهائل الذي يتوقع أن يتخطى المليون في المئة، حوَّل الفنزويليين إلى "جلد على عظم". أكثر من ثلاثة ملايين فنزويلي فروا من بلادهم منذ 2014، ويخرج حوالى 5500 شخص من البلد كل يوم من دون رغبة في العودة. ووفقًا للأمم المتحدة، فإن حالة الخروج الجماعي هذه تقارن بما تشهده سوريا، وتلد واحدة من أسوأ أزمات اللجوء في العالم فيما يهرب الفنزويليون بلا شيء تقريبًا سوى اليأس والهشاشة، مثل السوريين اليوم وقبلهم العراقيين واللبنانيين.
ولأنهم يحيون في ظل دكتاتورية قاسية، ليس أمام مواطني فنزويلا سبيل لإصلاح السياسات التي أدت إلى تدمير اقتصادهم. لا يمكنهم محاسبة قادتهم عبر انتخابات حرة ونزيهة، ولا يمكنهم التحرك سياسيًا من أجل التغيير خوفًا من العواقب. وفيما يقفون ساعات في طوابير ممتدة للحصول على كميات من الأغذية والأدوية غير كافية، ينظر الفنزويليون إلى مدخراتهم وهي تتبخر مقابل الكفاف، يبدو الأمر وكأنه لا أمل هناك ولا مخرج.
الوطن العربي في طريقه إلى إعادة صوغ العلاقة بين المواطن والأنظمة. البداية كانت مع ما قدمته الإنترنت من وصول للمعلومات من دون ختم موافقة، ثم ما قدمته مواقع التواصل الاجتماعي من إمكانية التواصل والقادم هو الـ #بيتكوين العملة الخارجة عن سيطرة الأنظمة الفاسدة
لكن الابتكار والأفكار اللامعة تأتي عندما يكون الناس على الحافة. اليوم يجرب أبناء فنزويلا تبني البيتكوين للالتفاف على التضخم البالغ والسيطرة الصارمة من الدولة على المعاملات المالية. قد تكون التوقعات وعمليات النصب والجشع التي ظهرت في سوق العملات الرقمية وصناعة سلاسل البيانات المالية Blockchain قد غطت على حقيقة الاختراع التحرري لساتوشي ناكاموتو. بالنسبة إلى الناس التي تحيا في ظل حكومات قمعية، يمكن البتكوين أن تكون وسيلة ناجحة في التبادلات المالية ومقاومة سيطرة الحكومات على قرارات الأفراد المالية.
لننظر إلى الحوالات المالية: بعد أن خرَّب النظام الفنزويلي اقتصاد البلاد، بدأ في اقتطاع مبلغ من كل تحويل مالي قادم من الخارج. سُنَّت قوانين تجبر المواطنين الفنزويليين على التعامل عبر البنوك المحلية لتلقي التحويلات الأجنبية، وأن يفصحوا للبنوك عن بياناتهم وكيف سيتصرفون في أموالهم. يقول أليخاندرو ماشادو الباحث المختص بالعملات الرقمية المشفرة في مبادرة أوبن موني Open Money: "إن الرسوم التي تقتطعها الدولة من التحويلات المالية القادمة من الولايات المتحدة تصل إلى 56% من المبلغ، عند تحويله من دولار إلى العملة المحلية بوليفار". وتستغرق العملية نفسها عدة أسابيع. وأخيرًا بدأت البنوك الفنزويلية - بناء على تعليمات حكومية- منع المواطنين من الدخول لحساباتهم عبر الإنترنت لدى استخدامهم أجهزة ذات معرفات أجنبية.
لتخطي هذه البيروقراطية، بدأ بعض الفنزويليين في تلقي البيتكوين من أقاربهم في الخارج. صار من الشائع أن يتلقى الفنزويليون المغتربون رسائل نصية من عائلاتهم في الداخل تطلب منهم تحويل بيتكوين، وتستقبل تلك العائلات العملة خلال دقائق برسوم قليلة. الرقابة الحكومية على هذه العملية غير ممكنة، فالبيتكوين لا يجري تحويلها عبر البنوك أو طرف ثالث يمكن تعقبه، بل تصل إلى محفظة هاتفك بطريقة P2P أي من جهاز لجهاز دون تحميل وسيط. إذ ذاك يمكنك أن تبيع تلك العملة وتحصل مقابلها على مبلغ معلوم عبر موقع محلي يشبه كريج ليست مخصصًا لتبادل العملات المشفرة، كما يمكنك تحميلها على قرص تخزين "فلاش درايف" Flash drive أو حتى حفظ كلمة سر للاسترجاع، عندئذ يمكنك الخروج من فنزويلا بمدخراتك من دون أن تسطو عليها الدولة. هناك بديل آخر شائع وهو أن ترسل لك عائلتك الأموال على حساب في بنك بكولومبيا، وإذ ذاك تعبر الحدود لتسحب الأموال وتعود لفنزويلا وأموالك في يدك. لكن هذه الوسيلة تستغرق وقتًا أطول، وتكلفك أموالًا، كما أنها تظل أخطر مقارنةً بطريقة البيتكوين.
فنزويلا ليست الدولة الوحيدة التي يمكن الناس فيها استخدام البيتكوين ملجأ للهروب من القيود على أموالهم. في زيمبابوي طبع روبرت موجابي كميات هائلة من البنكنوت، حتى باتت مدخرات مواطنيه بلا قيمة بفعل التضخم، لكن من تولوا الحكم بعده لا يستطيعون طبع البيتكوين. في الصين، يمكن شي بينج أن يتتبع تعاملاتك عبر "علي باي" و"وي باي"، لكنه لا يستطيع أن يراقب جميع مدفوعات البيتكوين. في روسيا يمكن فلاديمير بوتن أن يستهدف المنظمات الأهلية ويجمِّد حساباتها البنكية، لكن ليس بإمكانه تجميد محفظة البيتكوين الخاصة بتلك المنظمات. رياض سلامة في لبنان لن يستطيع أن يسيطر على جنى حياتك عبر سيطرته على القطاع المصرفي وإجباره على تسليم كل موجوداته للمصرف المركزي. في مخيِّم للاجئين يمكن أن تكون غير قادر على الوصول للبنوك، لكن ما دام بإمكانك أن تجد فرصة اتصال بالإنترنت؛ فبإمكانك كذلك أن تستقبل عملات البيتكوين من دون أن تطلب إذنًا من أحد أو تحتاج لإثبات هويتك.
في حديث مع رصيف22، يقول مهند غشيم، مؤسس العديد من الشركات التقنية: "أظن أننا في الوطن العربي متجهون إلى إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والأنظمة الحاكمة. وهي ضرورة حتمية. البداية كانت مع ما قدمته الإنترنت من وصول للمعلومات من دون ختم موافقة، ومواقع التواصل الاجتماعي من إمكان التواصل من دون ختم موافقة القادم هو ما يقدمه البتكوين لنا من إمكان الحصول على موارد جديدة للرزق من دون موافقة مسبقة".
بالطبع علينا أن ننتبه للجانب المظلم من التكنولوجيا. مفكرون معروفون، مثل يوفال نواه هراري وإلون ماسك، حذروا من أن الذكاء الصناعي وبنوك البيانات الضخمة يمكنهما أن يعززا من قبضة الطغاة حول العالم. السلطات في فنزويلا وإيران والسعودية تحاول وضع عملات رقمية تماثل البيتكوين، بهدف أن تسيطر الدولة المركزية على التعاملات الرقمية المباشرة للأفراد مثل عملة البترو. رواج هذه العملات سيساعد تلك الأنظمة الشمولية على مراقبة تعاملات الأفراد بشكل فعّال، والتهرب من العقوبات الاقتصادية.
لكن التكنولوجيا اللامركزية يمكنها أن تقدم قوة دفع مناوئة ضد هؤلاء الطغاة، فخلف البيتكوين تطبيقات للتواصل والتصفح المشفَّر مثل سيجنال وتور، وعملات رقمية مشفرة تحفظ هوية المتداولين مثل "زي كاش" و"مونيرو"، والشبكات العنقودية المتداخلة Mesh networking مثل "جو تينا" ونظم الحفظ المقاومة للرقابة مثل IPFS. وعبر البناء على هذه النُظُم والاستثمار فيها يمكن أن نضمن لمدننا وشبكاتنا الاجتماعية ونظمنا المالية ألا تتحول إلى أداة في يد الحكام لمراقبتنا والتحكم فينا.
لا تزال الأموال السائلة تسهّل على الإنسان ممارسة حرية التعبير. فالأموال الورقية والمعدنية تتمتع بالتعمية، ويمكن استخدامها بلا مراقبة حكومية. ولكن في بلاد مثل فنزويلا، حيث تتدنى قيمة العملة حتى أنه يتعين عليك حمل عدة كيلوغرامات من الأوراق النقدية من أجل معاملة بسيطة، تصير الأموال السائلة غير عملية، وعرضة للسرقة أو المصادرة. ومن الصين حتى السويد، تدفعنا الحكومات نحو عالم بلا نقود سائلة، ولهذا من المهم أن نستكشف الأموال الرقمية التي يمكنها أن تحفظ سرية وفاعلية تبادل الأموال بين الأفراد والجهات، بالدرجة نفسها التي تحققها الأموال السائلة. هذا أكثر امانًا لأجيال المستقبل.
عندما تدفع لأحدهم باستخدام برنامج مثل فينمو، يمكنك أن تمر بثلاثة أو أربعة وسطاء ماليين، برغم أن المتلقي قد يكون واقفًا إلى جوارك. كل وسيط من هؤلاء الوسطاء الأربعة لديه إمكانية الكشف عن بياناتكما ومراقبة معاملتكما والتربح منها. وبالنسبة إلى مليارات المواطنين الذين يعيشون تحت سيطرة نظم قمعية، لا يمكنهم الثقة بأن نظم الدفع الإلكترونية هذه ستبقى بريئة وغير مؤذية مثل فينمو. وكما كتب نسيم نيكولاس طالب: "البتكوين هي وسيلة ضمان في مواجهة مستقبل أورويلي الطابع" (في إشارة إلى رواية 1984 لجورج أورويل).
بكل تاكيد لا تزال البتكوين تكنولوجيا وليدة، ولا تقدم لمستخدميها وسيلة بالغة الفاعلية في التعامل المالي اليومي في ما يتصل بالسرعة والخصوصية. لكن المهندسين يعملون بلا انقطاع على تحقيق هذه الخصائص في عملة البيتكوين، ويطورون تطبيقات أفضل ويحسنون من البرنامج الرئيسي (البروتوكول القاعدي) للعملة، ويضعون مجموعة جديدة من البرامج والشبكات الداعمة تكنولوجيًا مثل بروتوكول البرق الذي سيتمكن عند اكتمال تطويره من توفير درجة هائلة من التشفير والتعمية في عمليات التبادل الواسعة للبتكوين في الثانية الواحدة. تمامًا كما بدأت اتصالات الجوال بأسعار عالية ومتوفرة للخاصة فحسب، ثم أخذت تتناقص مع انتشار وتحسن الخدمات، تستمر البيتكوين في التطور وسوف يصبح استخدامها أسهل وأكثر إتاحة للجماهير في المستقبل.
أقل من 1% من سكان العالم – لا يزيد عن 40 مليون شخص- استخدموا البيتكوين. ولكن وفقًا لمؤسسة حقوق الإنسان، فإن أكثر من 50% من سكان العالم يعيشون في بلاد يحكمها القمع. لو أننا استثمرنا من الوقت والموارد ما يخدم إنشاء محافظ مالية مشفرة سهلة الاستخدام بالنسبة إلى الأفراد، ولو وفرنا موادَّ تعليمية مبسطة لكيفية استخدام البيتكوين، ووضعنا أدوات بسيطة وسهلة لتداولها، لاستطاعت هذه العملة أن تُحدِث تغييرًا حقيقيًا في حياة أربعة مليارات من المقموعين غير القادرين على الثقة بالنظم البنكية ولا بالحكام، والذين لا يستطيعون الوصول إلى النظم البنكية. بالنسبة إلى هؤلاء جميعًا قد تمثل البيتكوين مخرجًا مثاليًا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...