تأبيناً للمدينة التاريخية بيروت...
في عام 1994، عادت عندليب الشرق أخيراً إلى لبنان، غنت وسلبت القلوب. غنت لأولئك المتعطشين لسماع صوتها طوال السنين السوداء التي مرت على لبنان خلال الحرب الأهلية اللبنانية. نهاد حداد، الشهيرة باسم فيروز، أقامت أول حفلة لها منذ 15 سنة في وطنها، طغى فيها حضورها على الموسيقا. لتمثل حفلتها نهاية للحرب وإعلاء للوحدة الوطنية والمصالحة بين الفئات اللبنانية. غناؤها في ساحة الشهداء بالتحديد، التي تعد تقاطعاً بين شرق وغرب بيروت، اعتُبر أداء استراتيجياً وحّد الجهتين، وأعطى تفاؤلاً وأملاً للبنانيين، ليكون صوتها صيغة من صيغ التعافي من آثار الحرب.
في مقاله "وأخيراً غنت فيروز"، وصف المراسل الصحفي آنذاك، جاك غيراردون هذا الحفل في صحيفة الإكسبريس الفرنسية بأنه رغبة للسلام وحنين لسنوات لبنان الذهبية قبل الحرب، من قبل الخمسين ألف متفرج الذين اجتمعوا عند قدميها وأقدام الأرواح التي زهقت في الحرب. لقد عنت عودة فيروز للكثيرين عودة لبنان كما عرفوه.
ولكي ندرك كيف أصبحت فيروز رمزاً وطنياً للبنان، علينا أن نتعمق في تاريخها الشخصي والمهني لنرى انعكاس الروح الوطنية اللبنانية في أغانيها، وبخاصة من خلال قصيدة "لبيروت" التي كتبها الشاعر اللبناني جوزيف حرب وغنتها فيروز.
بدايات فيروز
ولدت فيروز في عام 1935 في جبل الأرز لعائلة مسيحية مارونية، وبدأت تغني في محطات إذاعية محلية وحفلات مدرسية صغيرة، وما لبثت أن برزت كأيقونة وطنية بعد أدائها في مهرجان بعلبك عام 1957 لعدد من الأدوار التي مثلت الحياة القروية في القرى اللبنانية. لقد شكل حضورها وصوتها "ثقلاً يعادل وزن عمالقة الغناء المصريين الذين سيطروا على ساحة الموسيقا في العالم العربي، وعلى رأسهم أم كلثوم"، على حد تعبير الكاتب موران ليفانوني في مقاله "فيروز والقومية العربية".
لم تنجح فيروز فقط من خلال تقديمها للأغاني القصيرة، على غير ما ألفته الجماهير في الأغاني المصرية التي كانت تتجاوز مدتها 20 دقيقة في تلك الحقبة، بل من خلال موضوعات أغانيها التي طرحت ثيمات جديدة مختلفة عن تلك التقليدية في الأغاني المصرية، كالحب والرغبة. وبالرغم من أننا نجد أن بعضاً من أغاني فيروز التي لاقت شعبية مفعمة بمشاعر الحب والرغبة، غير أن عدداً كبيراً من نتاجها الفني يتناول موضوعات من الفولكلور ويعيد إحياء الفن التراثي، كما يكرس فكرة "الوطن" في العالم العربي بالعموم، وفي لبنان على وجه الخصوص. فكرست، بهذا، الشعور الوطني لدى المجتمعات العربية، ليس فقط ضمن حدود الوطن العربي، بل في المغترب أيضاً، حيث لامست "وعي العرب لهويتهم وتاريخهم"، كما يذكر الصحفي فيصل اليافعي في مقاله "فيروز صوت لبنان الرقيق".
كيف أصبحت فيروز أيقونة وطنية؟
لقد وجد العالم العربي، الذي لم يكن قد تعافى بعد من ندب الحروب وآثار الاستعمار وتأسيس دولة إسرائيل، صدى لهمومه الشعبية والسياسية في السرد القصصي المتنوع الذي تضمنته أغاني فيروز. لقد برزت فيروز كأيقونة وطنية خاصة بعد أغانيها التي تناولت المعاناة الفلسطينية والحلم بالعودة، كأغنية "راجعون" و"زهرة المدائن"، لتمثل هذه الأغاني دعوة للتمسك بالقومية والمواطنة الفلسطينية. وفي تلك الحقبة التاريخية، وباعتبار أن القومية اللبنانية كانت جزءاً لا يتجزأ من القومية العربية، تمثلت هذه العلاقة الوطيدة بين القوميتين، المحلية اللبنانية والعربية. أن تكون لبنانياً كان يعني أن تتمتع بهوية فريدة ضمن الحدود الأوسع للعالم العربي الذي قسمته القوى الاستعمارية.
في عيدها، نتحدث عن فيروز التي تجاوزت كونها أيقونة فنية لتصبح "معلماً تاريخياً حياً من تاريخ لبنان الحديث، تخلده الكتب والمقاهي على حد سواء"
موقف فيروز من الحرب الطائفية
بدأت في السبعينيات تتغير الملامح الوطنية في لبنان، متأثرة بالعنف الطائفي الذي أصبح اعتيادياً ومتكرراً في البلاد. في 1975 انقسمت العاصمة بيروت إلى قسمين، الشرقي المسيحي والغربي المسلم، بحدود فصلتهما بشكل صارم وجعلت من التنقل بينهما أمراً مستحيلاً. غادر عدد كبير من الفنانين والمؤدين الأراضي اللبنانية خوفاً من مخاطر الحرب، ولجأوا إلى بلدان أوربية أو أمريكية. رفضت فيروز أن تغادر وطنها واختارت البقاء في بيروت المنقسمة مظهرة إخلاصها للبنان، هي التي تمتلك منزلين على طرفي خط التقسيم.
يذكر اليافعي أنه في ظل القتال لصالح ولاءات طائفية مبنية على الانتماءات الدينية، توقع العديد من الناس انحياز فيروز لدعم الأطراف المسيحية ضد المسلمين، غير أنها لم تبد ميلاً تجاه طرف من الأطراف ورفضت الغناء في لبنان حتى نهاية الحرب.
من قلبي سلام لبيروت
إن العودة إلى تاريخ فيروز أمر جوهري في فهم مكانتها وتأثيرها في لبنان والعالم العربي التي استمرت في فترة الحرب الأهلية، من خلال الأغاني التي أطلقتها في تلك الفترة وبالأخص أغنية "لبيروت"، التي سجلتها عام 1984 وأطلقتها في ذروة اشتعال جذوة الحرب الطائفية في لبنان. وطوال فترة الحرب أصبحت الأغنية تعبيراً عن انقسام الوطنية اللبنانية التي دفع مطلق ثمنها الشعب اللبناني. عبر كلمات الأغنية التي ألفها الشاعر اللبناني جوزيف حرب، يتكرس الحنين للوطن والحزن على ما سببته الحرب من دمار للبنان ولمدينتها الحبيبة بيروت.
تبدأ فيروز أغنيتها بتحية سلام لمدينة بيروت، في إشارة منها إلى أن هذه الأغنية هي رد فعل مباشر على ابتلاء المدينة بهذه الحرب التي أثارت الفتنة والاضطراب فيها، وتتابع لتصف ملامح المدينة من خط الساحل للمنازل القديمة إلى صخرة الروشة القديمة، التي أصبحت من المعالم الوطنية لمدينة بيروت:
لبيروت
من قلبي سلامٌ لبيروت
وقُبلٌ للبحر والبيوت
لصخرةٍ كأنها وجه بحارٍ قديم
وتكمل الأغنية مظهرة أهمية بيروت للهوية اللبنانية التي شوهتها الحرب، والتي لم يفهم اللبنانيون سبباً لها، بل وجدوا أنفسهم في خضم القلق والارتباك والمعاناة التي أصابتهم في ظلها:
هي من روحِ الشعب خمرٌ
هي من عرقِهِ، خبزٌ وياسمين
فكيف صار طعمها طعم نارٍ ودخانِ
وتصف الأغنية معاناة المدينة راصدة مظاهر الحرب القاسية التي دمرت أمجاد المدينة وأحالتها إلى رماد، وأزهقت أرواح أطفالها في تشبيه لها بالأم التي تحمل دم وليدها على يدها وبجسد أنثى انتهكته الحرب:
لبيروت مجدٌ من رمادٍ
لبيروت من دمٍ لولدٍ حُملَ فوق يدها
أطفأت مدينتي قنديلها
أغلقت بابها، أصبحت في السماء وحدها
وحدها وليل
هذه الأبيات تشبّه بيروت بالعذراء وكأن دم وليدها "لبنان" على راحتيها، لتكون مجازاً يحمل في طياته صورة لبنان الذي شكل محور حياتها الفنية لعدة سنوات.
لا تصور هذه الأغنية لبنان كمجرد مكان، بل كجسد حي تدمره الحرب، فتصبح كلماتها تأبيناً للمدينة التاريخية بيروت. أن تكون بيروت "وحدها" في الليل هو تجسيد لظلام الحرب الذي طغى على معالم المدينة، ودخان القنابل والقذائف الذي خيم عليها واستبدل السلام الذي كانت تنعم به يوماً.
في ختام الأغنية، تكرر فيروز عبارة "أنت لي" لتقول إنها وبيروت جسد واحد، في دلالة على أن فيروز وبيروت هما جسدان أنثويان لا يعرفان الراحة والأمان إلا سوياً وينتهكهما العنف الذكوري للحرب. بيروت "الأم" تزهر دموعها لأن الحرب لا بد ستنتهي بسبب الألم الذي حل بجميع اللبنانيين بسبب انقسامها ودمارها. وتنتهي الأغنية بدعوة المدينة لعناق يحقق الأمان والراحة في كيانيهما:
"أنتِ لي
أنتِ لي آه عانقيني
أنتِ لي رايتي، وحجرُ الغدِ وموج سفرٍ
أزهرت جراح شعبي
أزهرت دمعة الأمهات
أنتِ بيروت لي، أنتِ لي، آه عانقيني".
بالنسبة لفيروز، فإن هذه الأغنية مثلت ذروة الخسارات التي تكبدها لبنان خلال فترة الحرب الأهلية والتي توجب استرجاعها. ولهذا، عندما اختارت العودة إلى ساحة الشهداء في 1994، غنت فيروز هذه الأغنية لترأب الصدع الذي أحدثته الحرب بين الطائفتين في لبنان.
في مقالها "فيروز وسيطة السلام بين اللبنانيين"، تذكر مادلين عاصي أن فيروز لازمت الحياد السياسي والطائفي حتى في أكثر المواقف حساسية، لتبقى مع إرثها الغنائي نتاجاً للبنان بإطاريه الزماني والمكاني الذين عاصرتهما، ولتختصر بمسيرتها الفنية بلداً كاملاً من فلكلوره وتاريخه وجماله الطبيعي وحتى الشقاقات التي دمرته.
وفي بلد لا يزال يشهد تغيرات مستمرة، تبقى فيروز تقدم لحظات من السلام والعز في لبنان الجميل الذي تخلد وجوده من خلال أغانيها، فهي على حد تعبير عاصي، تجاوزت كونها أيقونة فنية لتصبح "معلماً تاريخياً حياً من تاريخ لبنان الحديث، تخلده الكتب والمقاهي على حد سواء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...