شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
آه، كم هو لذيذ غياب السلطة الأمنية من وسط بيروت

آه، كم هو لذيذ غياب السلطة الأمنية من وسط بيروت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 24 أكتوبر 201904:45 م

بيروت، 22 تشرين أوّل/ أكتوبر 2019.

الوسط.

أن تقفوا في الوسط.

وسط أجساد مُنتَشية بمذاق الحرية، تهتزّ على إيقاع طبول الأقدام من أسفلها وذبذبات موسيقى الإلكترو والراب من أعلاها، تتمايل بين الأعلام التي ترفرف في غيوم من الدخان الأبيض الحالم، دخان النار ومكابح السيارات والعرانيس المشوية وعوادم الدراجات النارية والنرجيلة والحشيش والأسهم النارية... والحبّ.

وسط أجساد تفوح منها رائحة تعرّق مميزة، تقول الكثير عن مشاعر أفراد استسلموا للحظة، متخطين الهواجس الاجتماعية والجندرية والطائفية والجنسية. هذه هي رائحة الحرية، حرية تعبير الفكر والجسد والكلمة فالروح.

هذه هي التجربة التي يبحث عنها الإنسان منذ القديم، أن يختبر أوفوريا غياب السلطة الأمنية والحاكمة، من أرضٍ لا يحكمها إلّا الإنسان العاري من الانتماءات الاجتماعية والعفاريت الدينية واللعنات التاريخية، تماماً كما وُلد.


الخوف غريزة

هو الشعور بنشوة جماعية، أن تقفوا وسط فتيات وشباب يهتفون ويشتمون ويضحكون ويرقصون ويتلامسون بعفوية حساسة، ينظرون في عيونكم دون خوف، بمرح، بفخر، برغبة، بحشرية، فتذوبون معاً في اللحظة. وجوهٌ مجهولة لا تعرفون عنها شيئاً، تعكس ألوان البنفسجي والأزرق والأحمر من أضواء الليزر المتطايرة فوق ساحة الشهداء كجنيات إلكترونية.

بيروت، كم أنت لذيذة دون مراقب ورقيب. كم أنت مباركة من بين المدن لتختبري هذه التجربة

يكتب العالم النفسي المتخصص في شؤون الخوف والصدمات، أراش جافانبخت، في موقع the conversation، عن كيف استخدم الديماغوجيون الخوف للسيطرة على الأعداء واعتمد الزعماء الوسيلة نفسها للتحكم بالقبيلة.

يقول جافانبخت: "مثل الحيوانات الأخرى، يمكن أن نتعلّم نحن البشر الخوف من التجربة، مثل التعرّض للهجوم من قبل المفترس. نتعلّم أيضاً من الملاحظة، مثل مشاهدة حيوان مفترس يهاجم إنساناً آخر. ونتعلّم بالتعليمات، مثل إخبارك بوجود مفترس قريب".

وهكذا انقسمت الشعوب إلى قبائل تسعى لحماية نفسها من بعضها البعض، ثغرة بيولوجية استغلها العديد من السياسيين متلاعبين بغرائز الإنسان القبلية، للسيطرة على الجماعات من خلال مبدأ "هم" و"نحن".

غريزة احترقت مع نيران المتظاهرين وسط المدينة، فارتقى الشعور الجماعي إلى ما فوق حكم الغابة، وللحظة دخلنا منطقة حظرتها الأنظمة علينا، ونظر بعضنا إلى بعض بتجرّد، كما خلقنا، ذرّات حرّة متكاملة في جسد واحد.


"اللاوعي الجماعي هو السلطة الوحيدة"

بيروت، كم أنت لذيذة دون مراقب ورقيب. كم أنت مباركة من بين المدن لتختبري هذه التجربة. أن يقف في مركز ثقلك آلاف الأفراد المختارين بدقة من الموزاييك الاجتماعي اللبناني الغني، لا يشعرون بالخوف من الآخر، لا يحتاجون لعنصر أمني يقف بين اختلافاتهم لحمايتهم، لا يخضعون لمراقبين يطلقون الأحكام عليهم ويرسمون لهم قيوداً وهمية.


كم نحن محظوظون أن نختبر مدينة المستقبل ومدينة الماضي في آن، أن نتخطّى مفاهيم الزمان والمكان للحظة مثالية، حيث الأرض للشعب، حيث حدود الطبقات الاجتماعية هشّة، حيث اللاوعي الجماعي هو السلطة الوحيدة، حيث مبدأ وجود سلطات أمنية وعسكرية تحمينا من المجهول هو خرافي، حيث الرأسمالية... وكأنها لم يكن لها وجود في أحد الأيام.

الفوضى تعمّ الوسط.

لا شيء محرّم.

لا شيء محظور.

الحكم الوحيد هو أن تكون، أن تكوني، أن تكونوا، أن تكن.

إن كنتَ مشاغباً، فشاغب.

إن كنتِ عاشقة، فاعشقي.

إن كنتَ قائداً بطبعك، فكن قائداً لجماعة.

وإن كنتَ تابعاً، فكن تابعاً لجماعة.


إن كنتِ "قليلة الأدب"، فاشتمي.

إن كنتَ مثلي الجنس، فكن مثلي الجنس.

إن كنتِ "غير محتشمة"، فاكشفي عن جسدك.

إن كنتَ راقص فارقص.

إن كنتِ تريدين الصراخ، فاصرخي.

إن كنتَ تهوى سباق السيارات، فقد سيارتك وسط الجماعة داخل حلقة من النار والدخان.

إن كنتَ بائع عرانيس وفول على كورنيش الروشة، فكن بائع عرانيس وفول في وسط بيروت.

إن كنتِ نفس أرجيلة، فكوني نفس أرجيلة وسط أولاد النارة.

إن كنتم، فكونوا.


فوضى لذيذة، صريحة، حالمة، مستهترة، منتشية ومجنونة. اللحظة المثالية التي تكشف عن واقعٍ آخر، واقع مدينة متحررة من فلسفة الحاكم والمحكوم، الآمر والمأمور، الشرطي والحرامي، رجل الدين وخرافه. فوضى جيل شاب لم يختبر الحرب الأهلية اللبنانية، ولكنه شهد آلامها في عيون آبائه وأمهاته. فوضى جيل وجد في الفوضى معطيات التحرر من اكتئاب جيل الحرب، نحن، وجنون عظمة ملوك الحرب. فوضى ثائرة على الإيغو الاجتماعي فوق كل شيء.

في مقالة تتعمق في مفاهيم الفوضى والعلم والماركسية، كتب دانيال مورلي تعليقاً على الوثائقي الذي أنتجته البي بي سي تحت عنوان the secret life of chaos، "مثلما تظهر كافة الأمور الطبيعية قوانين وتنظيماً، فهي تدخل في أزمة وتنهار وتتوقف عن الوجود. كم نجمة ولدت فقط لتنفجر، وكم كوكب اصطدم قبل أن يطور ظروفاً مناسبة للحياة؟ وأيضاً فإن سلسلة من أزمات النظام الرأسمالي تودي حتماً بالطبقة العاملة إلى إدراك أن النظام ككل يجب أن يذهب".

فوضى لذيذة، صريحة، حالمة، مستهترة، منتشية ومجنونة. اللحظة المثالية التي تكشف عن واقعٍ آخر، واقع مدينة متحررة من فلسفة الحاكم والمحكوم، الآمر والمأمور، الشرطي والحرامي، رجل الدين وخرافه.

أين كان هؤلاء الأفراد؟ لم لا نعرف بعضنا بعضاً؟ لم لا نراهم في وسط بيروت عند حلول الليل؟ لم الوسط تسكنه أشباح الطبقة الثرية التي تبعد روح الشعب الحقيقية؟ كم اختلافنا جميل.

اختلافنا جميل واللعنة على النظام

أين كان هؤلاء الأفراد؟ لم لا نعرف بعضنا بعضاً؟ لم لا نراهم في وسط بيروت عند حلول الليل؟ لم الوسط تسكنه أشباح الطبقة الثرية التي تبعد روح الشعب الحقيقية؟ كم اختلافنا جميل. كم هم مبدعون بحركات أجسادهم وهتافاتهم. كم هي جميلة ضحكاتهم الساذجة. يردّدون بهذيان ما ردده رواد الثورات التي غيرت مجرى التاريخ ويعبرون بالغرافيتي على جدران المدينة: fuck the system، ويرفعون الأصابع الوسطى عالياً بوجه كل من يشعر أنه معني بالأمر: "خود"... ويلعبون بالنار، فميزان العدالة بات بأيديهم، للحظة.

يشاركنا الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه "الجمهورية"، في العام 380 ق.م، نقاشاً حصل بين سقراط والسفسطائي ثراسيماخوس حول العدالة والأخلاق، إذ يقول ثراسيماخوس: "الأشكال المختلفة للحكومة تجعل القوانين ديمقراطية وأرستقراطية وطاغية، بهدف مصالحها المتعددة؛ وهذه القوانين التي تم إنشاؤها من قبلهم لمصالحهم الخاصة، هي العدالة التي يقدمونها لمواطنيهم، والذي يتعدى عليها يعاقبونه باعتباره مخالفاً للقانون، وغير عادل. وهذا ما أقصده عندما أقول إنه يوجد في جميع الولايات نفس مبدأ العدالة، وهو مصلحة الحكومة؛ وبما أنه من المفترض أن يكون للحكومة سلطة، فإن الاستنتاج الوحيد المعقول هو أنه في كل مكان هناك مبدأ واحد للعدالة، وهو مصلحة الأقوى".

ويبقى سقراط على رأيه، بأن العدالة ليست مبدأ تعسّفياً أنشأته الدولة، بل فكرة أبدية تُجسّد الفضيلة والحكمة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image