أتمدّد عارية الجسد في غرفتي، يسقط شعاع الشمس الخافت فوق جسدي المختصر، فيضئ أجزاء منه، أتحسسها بأصابع مرتجفة.
تفتح أمي الباب على مصراعيه، ساخطة غاضبة، بنظرات مخيفة تسقط في قلبي سقوطاً ثقيلاً له دوي.
كنت أعرف أن جسدي "شيء حرام" يجب ستره قدر المستطاع، ولذلك كنت أتصيد الفرص التي أستطيع أن أكشفه فيها على الملأ.
حين كنت في سن صغيرة مروراً بسن المراهقة، تعمدت دوماً أن أفتح الشباك حين أستحم، وكذلك في غرفتي حين أبدأ في خلع ملابسي، أفتح الشباك وأسمح لضوء الشمس بالاختراق ومعها النظرات المُسترقة. نعيش في الصحراء لا أحد يراني ولا أرى أحد، ولكن الغضب الكامن تحت جلدي دفعني لأن أتمرد وأن أطلق شرور جسدي الصغير.
فما كانت قصة "إسراء غريب" إلا قصة متكررة يومياً في العالم العربي بدرجات متفاوتة، وبأشكال قصص عديدة… لم تكن أوّل جريمة ضد النساء تحت ما يسمى "شرف العائلة". فكرة ملعونة تتوارثها الأجيال وتتوارث معها أفكاراً قمعية لا معنى سوى تشييء المرأة والتقليل من إنسانيتها.
من المؤكد أنه قبل قتل إسراء مستها شرور ذكورية أخرى. فهل منا من تجرؤ على التصريح بقصص الأذى التي لحقت بها قبل مسّها، قمعها أو قتلها بتهمة الشرف؟
عندما أرهبوني من الحبّ
عانيت في سن المراهقة كالكثير من الفتيات حولي. كانت قصص التحذير من الحب والسقوط في العشق أكثر ترهيباً من الحروب وأفعال القتل والاغتصاب. أحببت شاباً جميلاً لمدة ثلاثة أعوام، لم ألامس سوى أطراف أصابعه مرة وحيدة في العمر الضنين.
كان تضييق سقف الحريات يصل لذروته، إلى أن وصل بنا الحال أن نتراسل بخطابات مخبأة في طيات كتب إحسان عبد القدوس، أو دواوين شعر قديمة جداً ممزقة رثة.
في يوم غائم، اكتشفت أمي أن شاباً ما يرسل لي رسائل غرامية.
أذكر يومها شكل أبي وهو يقتحم غرفتي القابعة في إحدى زوايا البيت، ينهال عليّ بالصفع والركل حتى سقطت فوق السرير جثة شاحبة، وأذكر يومها بأنه نعتني بلفظ "شرموطة"، لأني أراسل شاباً بكلام حب، حتى لو كان حباً عفيفاً عذرياً فهو "عهر جلي"، بالنسبة له.
فرضت أسرتي عليّ بعدها الحجاب، كنوع من أنواع استخدام الفروض الدينية للتأديب والترهيب والعقاب. أذكر أني علّقت يومها ورقة على الباب مكتوب علها أبيات من قصيدة "متى يعلنون وفاة العرب؟"، للشاعر نزار قباني، يقول فيها:
أحاول منذ الطفولة رسم بلاد
تسمى مجازاً بلاد العرب
تسامحني إن كسرت زجاج القمر
وتشكرني إن كتبت قصيدة حب
وتسمح لي أن أمارس فعل الهوى
ككل العصافير فوق الشجر
كان الترويع يأتيني من محيطي الصغير، خاصة وأني ترعرعت في مجتمع منغلق وازدواجي، كمعظم المجتمعات الضيقة التي لا ترحب بالاختلاف بل تعتبره "شذوذاً"، فتلفظه، اعتقاداً بأن لفظه هذا سيحمي بقية المجتمع من نشر "فكرة خبيثة" ما.
الكل يُرهب المراهقات من الحب ومن الجنس: المُعلمات، والتلفزيون، والآباء، وحتى جرذان الأزقة، كلهم يصرخون: احذرن السقوط في فخ الحب واحذرن الاقتراب من الرجال!
القصص الواقعية التي كانت تأتي على ألسنة زميلاتي، كانت مُخيفة لحد دفعنا لاتخاذ مواقف عدوانية وغير سوية من الجنس الآخر، المُغيّب تماماً عن الحروب الصغيرة التي نخوضها، أملاً في مساحات أوسع من الحرية ومن الالتصاق مع الذات.
"بابا لسعني بالمكواة في إيدي لمّا عرف إني بكلم ولد في التليفون".
تحاول تخبئة يديها طيلة اليوم الدراسي، ثم تنهار أخيراً معترفة أن أبيها حرق يديها، تاركاً ندبة عميقة ألقت في قلوبنا كلنا الذعر قبلها شخصياً.
كنت أتصور وقتها بأن النظام الذكوري سيفشل في إقناعنا بما نحن لسنا عليه، ولكن عدد "الناجيات" منا كان قليلاً، والبقية أصبحن نساء مناهضات للنسوية، راضيات وخاضعات لحق فرض سيطرة الأب أو الأخ أو الزوج على أجسادنا وأفكارنا، بالسلطوية المُتنكرة بأقنعة أخرى، مثل ادعاء الخوف عليك أو توفير الحماية لك "رغماً عن أنفك".
وكانت هذه المواقف الترهيبية تتكرر بشكل مستمر على فترات متعاقبة.
فكان من "العادي" أن أستيقظ صباحاً أحياناً على صوت صريخ استنجاد من فتاة لم تبلغ الـ 18 من عمرها، وأمها تجرجرها من شعرها على درج سلم العمارة وهي تندد بجريمة ابنتها الخطيرة: لقد "مسّها" الحب. تصرخ جاراتي بألم وتصرخ أمها بغضب خبيث يسري سريان الدم تحت جلدها. أفتح الباب لألقي نظرة خاطفة على عاقبة الحب، وتنظر لي أمي نظرات متوعدة قاسية، قائلة: "تستاهل قطم الرقبة".
عانيت في سن المراهقة كالكثير من الفتيات حولي. كانت قصص التحذير من الحب والسقوط في العشق أكثر ترهيباً من الحروب وأفعال القتل والاغتصاب
تتشابه القصص في مثل هذا العمر ونتوحد بظلال معاناة واحدة... ولكن لا يشفى قلب الفتاة أبداً من أن يعيش أكثر التجارب المثيرة في الحياة، وهي تجربة الحبّ، والتي يُمنع عنها بالقمع
إلى متى ستُقطم رِقاب النساء على فعلة الحب؟
مضت سنون المراهقة الكئيبة ومضت كل واحدة منا تنتظر أن تلقى حتفها أو أن يُنكّل بها بسبب اقتراف السقوط في جريمة الحب.
والآن، حين بلغت الأربعة والعشرين من عمري أسمع قصصاً أشد رعباً من نفس الفتيات اللاتي تعرضن لهذا النوع من القهر والتعنيف. يتحدثن عن المبررات التي دفعت أهلهن لاتخاذ هذا الفعل الذي اعتبرنه قسوة منهم في وقتها، ولكنهم مع النضوج تأكدن أن أهلهن كانوا على حق.
فأمي حتى اللحظة تقول لي: "تشبثك بأفكارك القديمة وعدم اعترافك بخطيئتك الماضية ضرب من ضروب الغباء".
يظن بعض الأهل، أو أي إنسان في موقع سلطة في البيوت أو الفضاءات العامّة، بأن قراره الأحادي هو الأصح والأسلم، ويفني عمره في محاولات لإقناع "رعيته" بأنهم بهائم ويحتاجون دائماً من يقودهم ومن يملأ عقولهم بالأفكار الراجحة.
وما هو أكثر احباطاً أن نجد من ظُلمن يدافعن عن نفس الفكرة التي ظلمتهن، مُستعدات لبذل أقصى طاقتهن في سبيل حمايتها وتوارثها إلى أبد الآبدين… وهن ضحايا أيضاً.
تتشابه القصص في مثل هذا العمر ونتوحد بظلال معاناة واحدة، ولكن لا يشفى قلب الفتاة أبداً من أن يعيش أكثر التجارب المثيرة في الحياة، وهي تجربة الحبّ، والتي يُمنع عنها بالقمع.
نلتف حول صديقتنا الوحيدة التي حصلت على تليفون حديث مُسجل عليه أغاني لفيروز. نتمايل معها ونهيم في المدة الواسع، مضطربات الخاطر بين الأغاني والروايات والأفلام التي تصف لنا حلاوة العشق، وبين سلطة الأهل والمجتمع التي نرزح كلنا تحت ثقل وطأتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...