(سؤال الحبّ) عنوانٌ لمّاح. يقترح هذا العنوان النظر إلى الحبِّ كإشكاليّةً وليس كمسلّمةً بشريّة. النظر إلى الحبّ كفكرةٍ فلسفيّةً تحتاج الجدل والتفكير، فيصبح الحبّ موضوعةً للتأمّل، وظاهرةً إنسانيّةً للتحليل. كلّ ذلك يَعِدُ به عنوان كتاب المؤلّف (علي حسين) الصادر عن دار المدى، والذي يعالج تيمة الحبّ عند الفلاسفة، الكتّاب، الفنّانين والعلماء، من ثقافاتٍ وحضاراتٍ وأزمنةٍ مختلفة، وذلك سواء عبر استعراض آرائهم المباشرة عن الحبّ، أو عبر حكايات من سيرهم الذاتيّة عن العواطف، أو بدراسة الفنون التي أنتجوها وتنويعات الحبّ فيها.
وصف سقراط الحبّ على أنه جنّي عظيم، أما تلميذه أفلاطون فيرى أن الروح لا تصل إلى الخير من خلال الحبّ.
وصف سقراط الحبّ على أنه جنّي عظيم، أما تلميذه أفلاطون فيرى أن الروح لا تصل إلى الخير من خلال الحبّ.
أوفيد: الحبّ فنّ
ترك أوفيد القضاء والسياسة، وقرّر أن يؤلف كتابه الشهير (فنّ الهوى)، أهداه إلى محبوبته آرلان، وفيه يسجّل كلّ فلسفته في الحبِّ، الكتاب عبارة عن ثلاثيّةٍ شعريّةٍ مكرّسةٍ بالكامل لمفهوم العشق، عناوينها: "مراثي الحبّ، علم الحبّ، دواء الحبّ". ينظر أوفيد إلى الحبّ على أنه فنّ، مثل كلّ الفنون الأخرى، ويتوجّب علينا تعلّم ممارساتها وقواعدها، مثل باقي الفنون.
لكن إيريك فروم في القرن العشرين يؤلّف كتاباً بنفس العنوان، (فنّ الحبّ) يكشف لنا فشل الإنسانيّة في تعلّم فنِّ الحبِّ، فيكتب: "بالرغم من الشغف الشديد بالحبّ، يُعتبر كلّ شيء مقدّماً في الأهمية على الحبّ، فالنجاح والمستوى الاجتماعي والثروة والسلطة كلّها مقدّمة على الحبّ، وغالباً ما نوجّه كلّ طاقاتنا لتعلّم كيف نحقّق هذه الأهداف، والتي ليس أحدها تعلّم فنِّ الحبِّ"
شوبنهور: الحب خدعة
يكتب الفيلسوف آرثر شوبنهور في كتابه (العالم إرادةً وتمثلاً): "الإنسان يخدع نفسه لاعتقاده بأنه في الحبِّ يخدم عواطفه وشهواته السامية، إنما يخدع نفسه بنفسه، لأن الحبّ ليس عاطفةً فرديّةً، بل عاطفةً جنسيّةً بشريّة، إنه نداء مجهول وقاهر، علينا أن نتريّث قبل أن نلبي نداءه"
روسو: الحبّ حيلة مُعدية
كان جان جاك روسو في 46 من عمره، حين كتب روايته الوحيدة (جولي أو هلويز الجديدة)، في هذه الرواية بيّن روسو أن الحبّ شكلٌ من أشكال العذاب، وفي هذا الإطار نجده قد كتب في كتابه (الاعترافات): "الحبّ حيلة مُعدية، رجل كاد يموت من دون أن يعرف ذاته"
كيركجارد: الحبّ كدافعٍ حيوي
في كتابه (خطوات على طريق الحياة) يكتب الفيلسوف سورين كيركجارد عن أثر المرأة التي أحبّها كدافعٍ وجودي: "المرأة التي أحببتها وأثّرت بلا شكّ على حياتي، لذا فإن نشاطي ككاتب يُشبه الجبل المشيّد على شرفها ومجدها، وسأحمله معي في التاريخ، وأنا حزين لا أملك سوى رغبة واحدة: أن أسحرها"
كتب الموسيقي فريدريك شوبان في وصف مشاعره بحضور محبوبته جورج صاند: "لم أحسّ قط بمثل هذا الانسجام الداخلي الذي أحسّه اليوم أمام البناء الموسيقي لمعزوفاتي، إن وجود صاند إلى جانبي، جعل ألحاني تتفجّر برقّةٍ في روحي"
تورغنيف: الحبّ فوضى
لكن تورغنيف في روايته (الحبّ الأول) كان قد صوّر الحبَّ في جانبه الأكثر مأساوية، يصوّره الكاتب بصفته مرضاً لا أكثر، وفوضى تضرب البشر بطرقٍ مختلفة، وعليهم تفاديها بأي حال من الأحوال.
تولستوي: الحبّ نقمة ونعمة
في العام 1873، بدأ تولستوي يكتب روايته الشهيرة (آنا كارنينا)، الرواية التي تجسّد ازدواجية النقمة والنعمة في الحبّ. كتب تولستوي عن الرواية في إحدى رسائله: "الحبّ نقمة ونعمة. الحب قوّة متطرّفة في الإنسان، مثل العبقرية، الغضب والصلابة أو الثروة. بالنسبة لآنا كان من الأفضل لو لم تقع في حبِّ فرونسكي، لأنها أعطت كل شيء، من أجل فرصة في الحبّ"
تشيخوف: الحب اكتشاف الأنا عبر الآخر
يرى تشيخوف أن الحبّ هو القوّة الوحيدة القادرة على لجم الأنانية المُفرطة دون أن يحذف السمات الفرديّة، بل على العكس يؤكّدها ويتفهّمها، ولهذا فإن مغزى الحبّ هو تبرير وحماية النزعة الفرديّة، لأنه ومن خلال الحبّ، نحن نؤكّد الأهمية المُطلقة لفردٍ آخر، والحبّ هو إلغاء كامل للأنانية، إنه نقل اهتمامنا من الذات إلى الآخر.
برنارد شو: الحب علاقة صراع
يكتب برنارد شو : "إن النساء يتحدّثن دائماً عن العاطفة والحب العاطفي، ولكن هذا مجرّد حديث وحيلة مرسومة، ذلك أن الهدف الأخير الذي تسعى إليه كل امرأة هو الزواج"، ونرى برنارد شو يصوّر عواطف المرأة في مسرحيته (الميجور بربارة) على أنها معادلة مقلوبة، فالرجل هو الصيد، والمرأة هي الصيّاد، ولهذا فهي تواصل الصراع دون خوفٍ أو تردّدٍ حتى يستسلم الخصم، إن الحبّ كما يؤكّد عليه برنارد شو هو تضحية تقدّمها المرأة لقوّةٍ لا تستطيع حيالها شيئاً، إنها تضحّي بنفسها من أجل هذا الهدف، وتضحّي بالرجل أيضاً، وفي مقدّمة المسرحية يكتب برنارد شو : "إن العلاقة بين المرأة والرجل هي علاقة رجل الشرطة بالسجين الذي يمسك به"، ويضيف وهو يقدّم لمسرحيته الشهيرة (الزواج) : "في صراع الحبّ، نجد الرجل هو الخاسر دائماً بسبب إسرافه في الخيال".
يكتب محفوظ: "لعلّ نوع الحبّ الذي يمنحه قلب الشخص يدلّ أقوى الدلالة على نفسيته وأسلوبها في الحياة ويكشف عن شخصيته وما فيها من قوّةٍ أو ضعفٍ، سموٍ او انحطاط، فالحبّ على هذا، مفتاحٌ سرّي نستطيع أن نلج به مغالق النفوس"
تيمة الحبّ: ماذا يقول عنها الكتّاب والفنّانين والعلماء، من ثقافات وحضارات وأزمنة مختلفة؟
بالنسبة لك، هل الحبّ فنّ مثل كلّ الفنون الأخرى، ويتوجّب علينا تعلّم ممارساتها وقواعدها، كما يقول أوفيد؟ أم أنه "حيلة مُعدية" كما اعتبره روسو؟ أم أنه مفتاحٌ سرّي كما وصفه محفوظ؟
سارتر: الحبّ تناقض قاسي
تطرح الفلسفة الوجوديّة تفسيراً للحبّ، وحسب سارتر، فالحبّ يمثّل تناقضاً معروفاً: طبيعة الحبِّ طبيعةٌ متناقضة، لأنها ترتبط بالنزاع الأبدي والذي لا يمكن حلّه، ففي سعينا إلى إقامة علاقةٍ متبادلةٍ، إلى فهم الإنسان الآخر ومبادلته الحبّ، نريد من حيث الواقع إخضاع حريّته المستقلّة وجعله مادةً لرغباتنا.
آراغون: الحبّ أعلى التطوّر الأخلاقي للإنسان
كاد رفض آراغون للعالم أن يودي به إلى الموت، فحسب سيرته الذاتية، فإنه قبل لقاء إلزا بشهورٍ فكّر في الانتحار: "إن في العشق الخالص تكمن فكرة إعادة الخلق والولادة من طرف المعشوق، وهذا يعني أن العاشق يولد من عشقه الموجّه إلى معشوقته، ولا يُدرك وجوده الخاص إلا عندما يبلغ، كعاشقٍ، التوحّد المطلق بمعشوقته، وتتحقّق بينهما فكرة الروح الواحدة"
ألمسك، ويبدأ كلّ شيء من جديد
ويستعيد كلّ شيء أبعاده
وبريقه وعنفوانه
ويستعيد كلّ شيء قيمته ومعناه
إن ذراعي قوية قوية بما يكفي لتضمَّ ركبتيك
فلا تعتمدي على إذا أردت أن ينتهي هذا العناق.
"سوف يخمد كلّ ما يتعارض مع الحبِّ" هكذا يكتب آراغون في روايته الشهيرة (أجراس بال)، ونجده منذ بداية قصّة الحبّ مع إلزا، يكرّس لهذا الحبّ طقوساً خاصّة، حيث يعطي للحبّ المكانة الأولى في التطوّر الأخلاقي للإنسان، في مجتمعٍ عادلٍ، لذلك نراه يعلن أنه عندما ستحلّ عصور الحبّ على الأرض، سيصل الإنسان إلى غاية وجوده.
دي بوفوار: الحبّ تبادل
تخصّص (سيمون دي بوفوار) في كتابها (الجنس الآخر)، فصلاً يدور حول المرأة التي ترى أن الحبّ هو الخلاص: "تحاول المرأة العاشقة أن ترى بعينيه، تقرأ الكتب التي يقرأها، تفضّل الصور والموسيقى التي يفضّلها، تهتمّ فقط بالمناظر التي تراها معه، بالأفكار التي تنبثق منه، تتبنّى صداقاته وعداواته ووجهات نظره، وحين تسأل نفسها تحاول أن تسمع إجاباته. سعادة المرأة العاشقة القصوى هي أن ينظر إليها عشيقها كجزءٍ منه، وحين يقول: نحن، فهذا يعني أنها متحدة ومتماهية معه".
العقاد: الحبّ يملك الإنسان ولا يملكه الإنسان.
تختلف رؤية عبّاس محمود العقاد تماماً عن الحبّ، فهو يملك عن الحبّ فلسفةً أخرى، فالحبّ عنده فيه الاعتياد وفيه شيء من الأنانية، حتى لو أقدم صاحبه على التضحية من أجل من يحبّ، فالأنانية تبدو واضحةً لأن المحبّ لا يتنازل عن محبوبه ولا يقبل أن يكون لشخصٍ آخر، وفي الحبِّ أيضاً شيء من الغرور، لاعتقاد المحبوب بأن إنساناً آخر يفضّله على غيره من الناس، واختاره هو فقط، ورضي بألا يرتبط بأحدٍ غيره.
وبسبب تعمّق العقاد في دراسات علم النفس فإنه يشير إلى أن الحبّ فيه ما يُطلق عليه علماء النفس "التناقض الوجداني": لأن المحبَّ يعاني من الشعور بأنه أسير ومقيّد بقيوده وعاجز عن الإفلات من هذه القيود، وقد تُعمى الأبصار في الحبّ، وقد يحاول المرء أن يهرب من هذا الحبّ فيجد نفسه يقترب بدلاً من أن يبتعد، فالأمر يتلخّص عند العقاد في أن الحبّ يملك الإنسان، ولا يملكه الإنسان.
محفوظ: الحبّ دالٌّ على الشخصية
كذلك اهتمَّ الروائي المصري نجيب محفوظ بفلسفة الحبّ منذ كتاباته المبكّرة، ونراه في مقال نُشر عام 1934 بعنوان "فلسفة الحبّ"، إن أي فلسفة هي وجهة نظرٍ يفسّر بها الفيلسوف مختلف الحقائق، ولما كان الحبّ إحدى تلك الحقائق فيحقّ للفلسفات المختلفة إبداء رأيها به.
يكتب محفوظ: "لعلّ نوع الحبّ الذي يمنحه قلب الشخص يدلّ أقوى الدلالة على نفسيته وأسلوبها في الحياة ويكشف عن شخصيته وما فيها من قوّةٍ أو ضعفٍ، سموٍ او انحطاط، فالحبّ على هذا، مفتاحٌ سرّي نستطيع أن نلج به مغالق النفوس"
نرى نجيب محفوظ يدين بالكثير لمقولة برجسون الشهيرة: "الحب مجرّد الخطوة الأولى نحو الأخلاق، ومن ثمَّ نحو التواصل البشري"
من آراء الكتّاب العرب المعاصرين المميزّة عن الحبّ، نختار العبارة الرائعة المنسوبة للأديب اللبناني جبران خليل جبران: "كانت والدتي تدربّني على حبّ الآخرين، لقد حرّرتني من ذاتي"
أما المفكّر المصري طه حسين فقد كتب إلى زوجته سوزان: "بدونك أشعر أني أعمى حقّاً، أما وأنا معك، فإني أتوصل إلى الشعور بكلّ شيء، وإني امتزج بكلّ الأشياء التي تُحيط بي"
في إحدى رسائله الشهيرة لزوجته يكتب آينشتاين، عن الحبِّ كأنه ممارسة وصيرورة: "الحبُّ فعلٌ إيجابي، والإنسان فيه ينهض ويتعثّر، ويخطو ويسير، ويتعلّم"
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...