وأنا أقرأ كتاب "الآن... هنا" للكاتب عبد الرحمن منيف، جال بذاكرتي ذلك اليوم الذي تقرّر فيه وضع كاميرات مراقبة في قاعة التحرير بمقر الصحيفة التي كنت أعمل بها، لترصد حركاتنا القليلة وسكناتنا الدائمة.
وقد يتساءل البعض ما الجامع بين المسألتين، فهذا إجراء تعسفي ينتهك مساحة الحرية الصغيرة التي تتوفر لنا كصحفيين متواجدين داخل تلك القاعة الشاسعة نوعا ما، والآخر كتاب أجول بحرية بين سطوره وأفكاره.
ربما من قرأ الكتاب قد عرف العلاقة، فهذا الكتاب ينقل العذابات داخل السجون العربية التي يصنعها عادة أصحاب القرار، لقمع كل صوت يتجرّأ على النشيد خارج الإيقاع المعد سلفاً للرعية التي تختار الصمت والمباركة، خوفاً من العبور لسجن يتسع ويكبر باستمرار.
الكتاب المثقل بالحديث عن مرارة أن ترميك أقدارك داخل بعض سجون الموت العربية، ولعنتها التي ترافقك، حتى وإن صادف أن خرجت منها حياً، أعادني إلى ذلك اليوم الكريه، حين وُضعت الكاميرات.
تذكرت صدمة الجميع بالقرار وحالة الغليان الخافت جداً في صفوف زملائي الصحافيين، أذكر كيف وجدتني أراقب جيداً تقنيي تركيب كاميرا المراقبة وتثبيتها في زوايا مختارة بعناية، حتى تكون عملية التجسس موفقة وتطال الجميع.
ربما لا يعرف هؤلاء التقنيين أن الإقدام على هذه الخطوة يحظره القانون التونسي على الأقل، وأن مهمتهم هذه كريهة إلى حد بعيد، ولكن الأكيد أن من اتخذ القرار يدرك فداحته ووقاحته أيضاً، لكنه يراهن على صمت المجموعة وهو ما حصل بالفعل.
لم يكن الأمر عسيراً، فالتمرد على قرار الإدارة نادراً ما يحدث في مؤسسات عربية، حتى وإن كانت مؤسسة إعلامية، كما أن عقيدة التجسس وملاحقة أفكار وأفعال الآخر هي الخبز اليومي للجميع، فلا مشكل إذا ما انضمت كاميرا المراقبة وشاركت في هذا الدور.
يبدو أن هناك لذة ما نتوارثها حين نثبت أعيننا على تفاصيل غيرنا. الأمر ينطلق من العائلة: عيون الأخ على أخته، والأخ على أخيه، تتسع الحلقة قليلاً إلى عين الجار على جاره والصديق على صديقته وعلى صديقه، والصديقة على الصديقة، فعيون المجتمع مترامية الأطراف، ثم لنصل إلى مكتب العمل. وفي خضم كل هذا، لا أحد يبدي أي رفض أو رد فعل لوقف تطفل هذه العيون المترصدة، ونكتفي عادة بالتذمر لمن هم أقرب إلينا دون توجيه رفضنا إلى المعنيين بالأمر.
هذا المشهد بعينه رأيته يعبر مقر الصحيفة بمجرد بدء التقنيين عملية زرع كاميرات المراقبة، الكل يتذمر، العيون تتساءل كيف ستشاركني هذه الكاميرا في مكتبي؟ العملية برمتها تدخل في خانة الممنوع، فكيف يتم تجاوز الممنوع وتثبيته بمسببات أمنية مضحكة؟
لجأ البعض للسخرية بصوت مرتفع قليلاً، ما دام ذلك يحدث داخل مجموعة فلا بأس ولا خوف من عقاب فردي إذن. ولكن لا أحد تجرأ على رفع صوته وقال أنا لا أقبل هذا السجن الإضافي، لا أقبل هذه العيون المثبتة فوق رؤوسنا والمكلفة بالتجسس حتى على ما يخالج أذهاننا.
هواجس كثيرة اختار أصحابها أن يلفوها بالصمت، عفواً اخترنا، وأن نكتفي بمراقبة العين الجديدة ونحن نقول باستسلام العربي في مثل هذه الظروف: لا بأس.. ليتجسسوا، ماذا عساهم يكتشفون داخل قاعة التحرير؟ فالصمت هو السائد غالباً... حتى التذمر من رؤساء العمل لا يحدث داخل هذه المساحة، قد نحتاج لانضباط إضافي، نحن ملتزمون به منذ البداية. وهكذا تم تبسيط المسألة تدريجياً رغم "حقارتها ووضاعتها" وارتدينا جلباب المباركة المزيفة.
ونجحت الإدارة في تشييد سجنها الجديد، وبات بإمكانها تتبع كل الحركات وقطع تلك المساحة الخاصة بالصحفيين، حتى أصبح المشهد أشبه بعرض مسرحي ساخر جداً.
يبدو أن هناك لذة ما نتوارثها حين نثبت أعيننا على تفاصيل غيرنا. الأمر ينطلق من العائلة، عيون الأخ على أخته، تتسع الحلقة قليلاً إلى عين الجار على جاره... فعيون المجتمع مترامية الأطراف، ثم نصل إلى مكتب العمل. وفي خضم كل هذا، لا أحد يبدي أي رفض.
من ثبّت استراتيجية الصمت بهذا العمق داخل مجتمعاتنا العربية، حتى أمست مكوناً عضوياً يستفيد منه صانعو السجون بمختلف أشكالها؟ أقول هذا لأن السجن ليس فقط ذاك الذي تحرسه وجوه أفراد الشرطة الصارمة، ولكنه يشمل أيضاً القاعة الواسعة المحروسة بكاميرا المراقبة.
أن يجد الصحفي نفسه أسير سجون لا تنتهي، تبدأ من القوانين التي توضع وتحدد سلفاً من السلطة لمنعه من التطرق لمسائل بعينها رغم أهميتها، فالضوابط المحددة داخل المؤسسة الإعلامية التي يعمل لصالحها، أو ما يعبر عنها بسياسة التحرير، التي غالباً ما تنتصر لجهة بعينها أكثر من انتصارها للحقيقة، إلى جانب ضرورة مراعاة أهمية كيل المديح لهذا الطرف أو ذاك باعتباره أحد الممولين وأشياء أخرى يطول شرحها، ثم ليجد نفسه في آخر المطاف، وبعد كل هذه الحواجز، محاصراً حتى داخل الفضاء الذي يحرر فيه تلك الأفكار المختارة سلفاً. واقع يحدث تدريجياً، إلى أن يدرك الصحفي شروخاً غائرة وأمراضاً مزمنة، ولكن في لحظة تكون فيها مجرد الصرخة دون معنى أو جدوى.
لقد أظهر عبد الرحمن منيف في كتابه بعمق، كيف تنخر السجون أرواح البشر، من فترة الحبس وحتى بعد التحرر، وكم أن رواسبها غائرة، حتى أن أمل العودة للحياة مجدداً يعدو صعباً ومستحيلاً في بعض الأحيان… وكم يحتاج العربي للحرية وكم من سجون تستحق الهدم، ولكن كل هذا يبقى رهين إرادة الشعوب، فبقدر مساحة الصمت والخضوع تشيد السجون على اختلافها.
تفاصيل تجعلني أتساءل: من ثبّت استراتيجية الصمت بهذا العمق داخل مجتمعاتنا العربية، حتى أمست مكوناً عضوياً يستفيد منه صانعو السجون بمختلف أشكالها؟ أقول هذا لأن السجن ليس فقط ذاك الذي تحرسه وجوه أفراد الشرطة الصارمة، ولكنه يشمل أيضاً القاعة الواسعة المحروسة بكاميرا المراقبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...