نحن حيوانات، ولكن من الصنف الذي يحب أن يصدق أنه ليس كذلك، والحقيقة أنه في المنزل، على الشاشات، في الشارع، في الأماكن العامة، غالباً ما نسمع كلمات رنانة مثل "حمار"، "كلب"، "دب"، "تيس"، "بقرة"، "دجاجة"... وغيرها من التعابير المستقاة من "الحظيرة" المعجمية الخاصة بالحيوانات، والتي تصدر على لسان البشر لمناداة بعضهم البعض.
فما هو السبب الكامن وراء هذه التسميات؟
وصف الإنسان بالحيوان
لقد عرّف أهل المنطق الإنسان بأنه حيوان ناطق، ليتميز بهذا التعريف عن غيره من الكائنات الحية، فبسبب نظرية التطوّر يشدّد العلماء على وجه الدقة على كون الإنسان حيواناً، وفي هذا الصدد قال أرسطو: "الإنسان حيوان سياسي"، وبدوره اعتبر الفيلسوف الألماني كارل ماركس أن الإنسان "حيوان اقتصادي"، أما العالم النفسي الشهير سيغموند فرويد فنوّه بأن الإنسان "حيوان شهواني"، في حين أن الكاتب الأميركي الساخر مارك توين، قال: "تجاربي أكدت لي أن الإنسان هو الحيوان الناطق".
هذا الإنسان الذي ميّزه الله عن غيره من الكائنات الحيّة، يتجرد في بعض الأحيان من إنسانيته ويقرر التمثّل بعالم الحيوان.
ففي حياتنا اليومية، تعتاد آذاننا سماع استعارات حيوانية لوصف الناس وطبائعهم، والواقع أن استخدام كلمة "حيوان" في إشارة إلى الناس وشخصياتهم أو خصائصهم له تاريخ طويل في اللغة، إذ طالما عمد البشر إلى مقارنة بعضهم البعض بالحيوانات، من خلال استخدام تعابير لا تعدّ ولا تحصى، واستعارات تحمل مجموعة واسعة من المعاني.
من الإساءة والشتيمة إلى التعبير عن الحب والدلال، تنقل بعض هذه الاستعارات المشاعر الإيجابية، فننسب مثلاً أسماء الحيوانات الأليفة التي تتميز بصفات اللطف إلى الأطفال أو العشاق (عصفور، قطة، صوص...)، فيما ترمز بعض الحيوانات الأخرى إلى الصفات البشرية المرغوبة: فنقول مثلاً عن الشخص الشجاع بأنه يتمتع بقلب أسد، والذي يتمتع بإدراك حسي بأنه لديه عين نسر... أما استعارة الحيوانات الأخرى فتأتي أكثر حيادية، وتقدم نوعاً من الاختزال في علم الحيوان لمجموعة كاملة من الصفات البشرية، فعلى سبيل المثال اطلاق اسم "خروف" على شخص ما يعني أنه إنسان ملتزم يسير وراء القطيع من دون أن يعترض، في حين أن وصف المرء بالدجاجة أو الفأر يشير إلى الخوف والخجل والجبن، أما تسميته بالبقرة أو الضفدع يعود إلى خصائصه الجسدية وليس النفسية.
واللافت أن الاختزال يختلف بين الثقافات واللغات، ففي الغرب مثلاً يمثل طائر البوم الحكمة، في حين أنه في الهند يمثل الحماقة والغباء، وتسمية شخص ما بالقرش في العالم الناطق باللغة الإنجليزية يعني ضمنياً أنه مخادع وجشع، أما في الفارسية فتشير هذه الكلمة إلى الرجل الذي يتمتع بلحية خفيفة.
استعارات هجومية
تعتبر العديد من الاستعارات الحيوانية هجومية وليس مجرد تجسيد لسمة معيّنة، فوصف شخص ما بالخنزير أو القرد أو الكلب أو الجرذ يحمل معنى مهين وشحنة عاطفية وأخلاقية قوية.
ولكن ما الذي يجعل هذه المقارنات مسيئة؟
في إحدى الدراسات التي انكبت على تحليل العوامل التي تجعل الاستعارات تكتسب طابعاً هجومياً، بحث الأخصائي في علم النفس نيك هاسلام، المعاني التي تنقلها مجموعة متنوعة من الاستعارات الحيوانية، وحاول تحليل ما هي الميزات التي تجعل بعضها مسيئاً بشكل خاص، ووجد هاسلام أن اثنتين من الميزات كانتا حاضرتين بقوة:
أولاً، الحيوانات الملعونة مثل الثعابين، تشكل الاستعارات الأكثر إهانة، بمعنى آخر عندما يستخدم الناس هذه الاستعارات للإشارة إلى شخص ما فهذا لا يعني أن الأخير يشبه هذه الحيوانات من ناحية الشكل، إنما يتم نقل الاشمئزاز تجاه الحيوان إلى الشخص المعني.
ثانياً، بعض الاستعارات الحيوانية مرفوضة للغاية لأن المقارنة نفسها غير إنسانية.
إطلاق اسم حيوان على شخص معيّن قد يعزز مسار السلوك غير الأخلاقي بدلاً من تحفيزه على تصحيح المسار
باختصار لاحظ نيك هاسلام أن بعض الاستعارات الحيوانية الهجومية مهينة بينما البعض الآخر مثير للاشمئزاز، وليس من قبيل المصادفة أن هذين النوعين يبرزان في أكثر الصراعات المروّعة في التاريخ، فقد تم تطبيق استعارة القرد اللاإنساني على السكان الأصليين خلال الحروب الاستعمارية والفتوحات، كما سيطرت استعارات تستند إلى الاشمئزاز وتصوير الناس كالصراصير على صور المحرقة والإبادة الجماعية في رواندا.
وعلى الرغم من أن بعض الاستعارات الحيوانية فقط مسيئة للغاية، يبدو أن معظمها سلبية إلى حد ما في دلالاتها.
وتشير الأبحاث التي أجراها نيك هاسلام إلى أن الصفات السلبية الأكثر شيوعاً هي الفساد والغباء والسفالة.
في الواقع لقد قيل إن استعارات الحيوانات تكشف عن شعور عميق بالتسلسل الهرمي في الطبيعة، فبحسب الفكرة القديمة المتمثلة بscala naturae أو "السلسلة الكبيرة للوجود"، يجلس البشر خطوة واحدة فوق الحيوانات الذين يجلسون فوق النباتات ومن ثم المعادن، وعليه يمكن القول إن الإنسان يقبع في المرتبة الثالثة من أعلى السلم مع الله والملائكة من فوق.
في هذا التسلسل الهرمي، يتمتع البشر بسلطات فريدة من حيث المنطق والتحكم الذاتي بينما تتحكم الغريزة بالحيوانات، وبالتالي فإن مناداة شخص بالحيوان يعني تخفيضه إلى درجة أقل من الوجود، وهي حالة بدائية تتصف بالافتقار إلى الفضائل الإنسانية.
بمعنى آخر، عندما نطلق على شخص ما اسم حيوان، فإننا ننسب الصفات السلبية والعيوب إلى شخصه، وكأننا نقول بطريقة غير مباشرة إن البشر أخلاقيون، مدنيّون وأذكياء، في حين أن الحيوانات ليست كذلك، وأنك أنت مثلهم.
التأثير السلبي
عندما أدان الرئيس الأميركي دونالد ترامب المهاجرين غير الشرعيين بوصفهم "حيوانات" اتُهم بأنه أخطأ في الكلام، كما أنه أثار الكثير من الجدل حين وصف الرئيس السوري بشار الأسد في إحدى التغريدات بـ"الأسد الحيوان"، وكان ملك المغرب الحسن الثاني قد وصف بدوره حافظ الأسد بالحيوان البارد الذي صنعته الحرب الباردة.
واللافت أنه على مرّ التاريخ، أعطى هذا النوع من التجريد الإنساني موافقة ضمنية على التصرف بقسوة لا يمكن تصورها، بحيث يعتبر وصف مجموعة من الناس على أنهم "حيوانات" تكتيك قديم للتأثير على الرأي العام، وبالفعل أثبتت التجارب أنه عندما تتكرر اللغة اللاإنسانية، يبدأ الناس في رؤية إخوانهم من بني البشر على أنهم دون البشر.
ولكن ما تأثير مثل هذه التسميات على سلوك الأشخاص وتصرفاتهم؟
كشف أحد الأبحاث أن الاشخاص الذين يتم التلاعب بهم وجعلهم يفكرون بأنفسهم على أنهم أقل من البشر، من المرجّح أن يتصرفوا بطرق بعيدة عن الضمير.
لا تنادوا أحداً بـ"الحيوان" إلا إذا كنتم على استعداد للتعامل مع مخالبه أو أظلافه
وتعليقاً على هذه النقطة، قالت مريام كوشاكي من جامعة نورث ووسترن: "قد يعتقد الكثيرون أن جعل السجين أو المجرم يشعر بعدم الإنسانية هو ضروري لمعاقبته أو لتحفيزه على التحسن، إلا أنه في الواقع قد يؤدي تجريده من الإنسانية إلى إبعاده عن الأخلاق كوجه أساسي للإنسانية".
وفي مجلة العلوم النفسية، وصف الباحثون سلسلة من الدراسات التي تشير إلى أن التصرف بطريقة غير أخلاقية يمكن أن يدفع الناس إلى أن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم أقل إنسانية، وأن مثل هذا "التجريد من الإنسانية" يمكن أن يخلق المزيد من عدم الأمانة، بمعنى آخر فإن إطلاق اسم حيوان على شخص معيّن قد يعزز مسار السلوك غير الأخلاقي بدلاً من تحفيزه على تصحيح المسار.
خلاصة القول: لا تنادوا أحداً بـ"الحيوان" إلا إذا كنتم على استعداد للتعامل مع مخالبه أو أظلافه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون