على الرغم من الصورة الإيجابية التي رسمتها المصادر التاريخية لشخصية بهاء الدين قراقوش، إلا أن الثقافة الشعبية المصرية قد رسمت صورة مخالفة للشخصية نفسها، وهي تلك التي يظهر فيها قراقوش شخصاً سفيهاً، غبياً، متسرّعاً، يحكم بما يخالف العقل والمنطق، ما جعل من قصصه ونوادره أضحوكة يتناقلها المصريون فيما بينهم، ويضربون بها الأمثال.
القراءة النقدية المتفحصة لتلك الصورة الشعبية الشائعة عن قراقوش، من شأنها أن تلفت النظر إلى مجموعة من النقاط السياسية والاجتماعية المتسببة في تشكيل تلك الصورة الزائفة، وهو ما يمكّننا من فهم كيفية تطور تلك الشخصية في الثقافة الشعبية الجمعية.
إداري عظيم ومحارب قوي: قراقوش في المصادر التاريخية
قليلة هي المعلومات التي حملتها لنا المصادر التاريخية الإسلامية عن سيرة قراقوش وتفاصيل حياته المبكرة. بحسب ما تذكر المصادر التاريخية، فإن قراقوش كلمة تركية الأصل تتألف من مقطعين، وهما قره وقوش، ومعناهما النسر الأسود.
الأرجح، أن قراقوش يعود إلى أصول تركية، وأنه قد ولد وعاش فترة طفولته في ناحية من نواحي آسيا الصغرى، ثم خُطف من عشيرته وبيع كعبد في أسواق الشام والعراق في بدايات القرن السادس الهجري، وذلك بعد أن تم إخصاؤه، كما جرت العادة مع الكثير من العبيد البيض الذين تم تجنيدهم في ذلك العصر.
القدر أوقع هذا الخصي الأبيض القادم من آسيا الصغرى، في طريق السلطة والحكم، وذلك عندما بيع إلى الأمير الكردي أسد الدين شيركوه بن شادي، والذي كان أحد قادة جيش حاكم الموصل القوي عماد الدين زنكي، حامل راية الجهاد ضد الصليبيين.
عُرف قراقوش منذ تلك اللحظة، باسم أبو سعيد بهاء الدين قراقوش بن عبد الله الأسدي، وبحسب ما يذكر الباحث أحمد خليل الشال في كتابه "حكم قراقوش"، فإن تسمية قراقوش بابن عبد الله، كانت متسقة مع العادات والأعراف الاجتماعية في ذلك الوقت، والتي كانت تسمي كل من لا يعرف له أباً مسلماً بابن عبد الله، كما أن لقبه الأسدي كان منشأه الانتساب إلى الأمير أسد الدين شيركوه.
تسببت العلاقة القوية التي نشأت بين شيركوه ومملوكه الأبيض، في اصطحابه معه أثناء الحملة العسكرية على مصر في ستينيات القرن السادس الهجري، وهي الحملة التي أسفرت عن تنصيب شيركوه في منصب الوزارة بأمر من الخليفة الفاطمي العاضد بأمر الله.
وبعد وفاة شيركوه المفاجئ وتنصيب ابن أخيه، صلاح الدين يوسف ابن أيوب، انتقل ولاء قراقوش للوزير الجديد، وصار أحد أهم أعوانه ومن أقرب المقربين له، إذ عُيّن قراقوش في منصب متولي القصر الفاطمي، وصار عين صلاح الدين على الخليفة وأهل بيته.
في 567ه، تطورت الأحداث بسرعة، عندما قام صلاح الدين بإسقاط الخلافة الفاطمية وأعاد مصر إلى حظيرة الدولة العباسية، وكُلِّف قراقوش بمجموعة من المهام، ومنها التحفّظ على أفراد البيت الفاطمي، إذ "احتاط على أهل العاضد وأولاده... وفرق بين الرجال والنساء، لئلا يتناسلوا وليكون ذلك أسرع لانقراضهم"، وذلك بحسب ما يذكر تقي الدين المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، هذا بالإضافة إلى أن قراقوش قد حصر كنوز الفاطميين النفيسة ونقلها من قصورهم، وتخلص من آلاف الكتب الموجودة في مكتباتهم، والتي كانت تدعو إلى المذهب الشيعي الإسماعيلي.
مع استقرار الأمور في مصر، واستتباب السلطة الأيوبية بها، تفرغ قراقوش لتنفيذ مجموعة من المشاريع العمرانية المهمة، ومن أهمها بناء سور حول القاهرة، والذي هدم بهاء الدين بعض الأهرامات الصغيرة لتوفير الحجارة اللازمة له، بحسب ما يذكر محمد عبد الله عنان في كتابه "تراجم إسلامية شرقية وأندلسية"، وتشييد قلعة الجبل لتصبح مركزاً للدفاع عن العاصمة، هذا بالإضافة إلى بعض المشروعات ذات الأثر الاقتصادي المهم، ومنها بناء قناطر الجيزة.
قراقوش لم يكتف بالتفوق في المضمار المعماري فحسب، بل إنه مارس كذلك العمل الإداري وشؤون السلطة كنائب لصلاح الدين في حكم مصر في الأوقات التي كان يخرج فيها لقتال الصليبيين في بلاد الشام، ومن جهة أخرى، قاد بهاء الدين بعض الحملات العسكرية المهمة، ومنها حملته في 571ه، على برقة الواقعة غربي مصر، والتي تمكن فيها من التوغل داخل البلاد الليبية، وتوسيع رقعة السلطة الأيوبية، بحسب ما تذكر الباحثة حياة محمد محمود في أطروحتها "التأثيرات السياسية والحضارية المصرية على بلاد المغرب في العصرين الفاطمي والأيوبي".
كفاءة قراقوش ومهاراته المتعددة دفعت صلاح الدين لتعيينه والياً على عكا، بعد استخلاصها من يد الصليبيين، وقام حينها قراقوش بتحصين المدينة وتقوية أسوارها، غير أن ذلك لم يمنع من سقوطها بيد قوات الحملة الصليبية الثالثة، ووقع قراقوش نفسه في الأسر، إلى أن تم إطلاق سراحه في 588ه، بعدما دفع صلاح الدين الفدية، والتي يذكر المقريزي أنها بلغت 10 ألاف دينار، فيما يحددها ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" بـ 60 ألف دينار.
يعود قراقوش إلى أصول تركية، من نواحي آسيا الصغرى، خُطف من عشيرته وبيع كعبد في أسواق الشام والعراق في بدايات القرن السادس الهجري، وذلك بعد أن تم إخصاؤه، كما جرت العادة مع الكثير من العبيد البيض الذين تم تجنيدهم في ذلك العصر... قصة السياسي الذي سخر منه المصريون عبر العصور
في البحث عن أسباب انتشار الصورة البلهاء لقراقوش في الثقافة المصرية الشعبية، يجب الباحثون أنها تتماشى مع العادة المصرية الأصيلة في توجيه سهام السخرية والفكاهة لحكام مصر، وهي عادة اجتماعية تنامت على مر العصور ولم تتوقف، كما شهد العالم في ثورة يناير، حتى اليوم
"الفاشوش في حكم قراقوش"... السيرة الشعبية المتخيلة
بُنيت السيرة الشعبية لقراقوش على ثلاثة من الكتب الشهيرة التي تم تصنيفها في أوقات متباينة، والتي شاعت بين العامة، حتى استطاعت أن تغير بشكل كامل من الصورة التاريخية الإيجابية لقراقوش.
أول تلك الكتب، هو "الفاشوش في حكم قراقوش" للكاتب القبطي الأسعد بن مماتي، وكان ابن مماتي ناظر ديوان الجيش وديوان المالية، ومن بين كبار رجال الدولة في عهد صلاح الدين الأيوبي، أما الكتاب الثاني، فهو "الفاشوش في أحكام وحكايات قراقوش" لجلال الدين السيوطي، والكتاب الثالث هو "الطراز المنقوش في حكم السلطان قراقوش" لمؤلف مجهول لا نعرف شيئاً عنه.
كلمة الفاشوش، التي استخدمها كل من ابن مماتي والسيوطي لعنونة كتابيهما عن قراقوش، تعني "ضعف الرأي والعزم"، بحسب ما يذكر ابن منظور في كتابه "لسان العرب"، وهو المعنى الذي يتفق تماماً مع محتوى الكتابين، الذي يرسم صورة في غاية البلاهة والغباء لقراقوش.
الكتب الثلاثة احتوت على ما يقرب من ثلاث وعشرين حكاية عن قراقوش وأحكامه وتصرفاته المثيرة للسخرية والتعجب.
من ضمن تلك الحكايات، تلك التي تذكر أن امرأة سوداء قد أتت قراقوش لتشتكي له من جاريتها التركية البيضاء التي تسيئ الأدب وتخاطبها بطريقة غير لائقة، فحكم قراقوش بأن تصبح المرأة السوداء جارية عند التركية، وأعطى للأخيرة الحق في بيع الأولى، فأخذت السيدة السوداء تستعطف جاريتها، حتى قالت التركية أمام قراقوش: "إني قد أعتقت جاريتي السوداء"، فأطلق سراحها.
ومنها أن قميص قراقوش لما وقع من على الحبل، فأنه قد تصدق بـ 100 دينار، وفسر ذلك بقوله: "الحمد لله الذي حفظني من الضرر، لو كنت لابساً له لتكسرت".
وفي حكاية ثالثة، أنه لما قبض على رجل وهو يمارس الفحشاء مع حمارة، فأن قراقوش قد أمر بتنفيذ الحد على الرجل وعلى الحمارة، وقال: "حدوها، لأنها لو ما كان لها غرض لرفصته برجلها أو عضته بأسنانها عندما اقترب منها، ولما وجد منها ميلاً له".
وفي السياق نفسه، أنه لما طلب منه الفلاحون تقليل الخراج المفروض عليهم في إحدى السنوات، لكون البرد الشديد قد تسبب في إنقاص غلتهم، فأنه قد قال لهم: "كان عليكم أن تزرعوا صوفاً ليدفئ ما زرعتموه".
أيضاً مما يُحكى عنه، أنه لما شكا له رجل مماطلة مديونه في حقه، واعتذر المديون بأنه كلما ادخر جزءاً من الدين وأراد أن يدفع به للدائن، لم يستطع أن يعثر عليه، فأن قراقوش قد سجن الدائن حتى يتمكن المدين من جمع الدين وسداده.
ومن بين القصص التي اشتهرت عنه، أن جندياً قد ركب قارباً مع فلاح وزوجته الحامل في الشهر التاسع، فتحرش بالزوجة وضربها، فسقط مولودها، فلما اشتكى الفلاح لقراقوش، حكم بأن يأخذ الجندي زوجة الفلاح في بيته، حتى تحمل ويمر عليها تسعة أشهر، ثم يردّها لزوجها الفلاح.
أما أشهر القصص التي وردت في كتاب الفاشوش، وأكثرها بعداً عن العقل والمنطق، أن تاجراً بخيلاً قد رغب ابنه في وفاته ليرث أمواله، فوضعه في نعش وذهب ليدفنه، ومر النعش أمام قراقوش، الذي سمع صوت استغاثة التاجر، فأوقف النعش، وسمع من التاجر وابنه، ثم قال للتاجر: "هل أصدقك بأنك حي لا ميت، وأكذب الشاهدين عليك بأنك ميت، هذا أمر غير ممكن، طاوعهم وسلم لهم أنك ميت، ودعهم يدفنوك بلا رذالة لئلا تطمع فينا الموتى، ويمتنعون مثلك عن الدفن بعد هذا اليوم".
تلك القصص والنوادر سرعان ما انتشرت وتواترت في الثقافة الشعبية المصرية، ليس فقط من خلال الكتب والمصنفات، بل أيضاً من خلال الظهور المتكرر لشخصية قراقوش الكاريكاتورية في استعراضات الأراجوز وخيال الظل، المنتشرة في الأوساط العامية والجماهيرية، إلى الحد الذي دعا ببعض الباحثين للقول بإن كلمة الأراجوز، إنما جرى اشتقاقها بالأساس من اسم قراقوش، وذلك بحسب ما يذكر نبيل بهجت في كتابه "الأراجوز المصري".
كيف نفسر انتشار الصورة السلبية لشخصية قراقوش؟
يمكن القول بإن هناك عدد من التفسيرات التي عملت على شرح أسباب ظهور الصورة السلبية لقراقوش وانتشارها في الثقافة المصرية الشعبية.
أول تلك التفسيرات، أن تلك السيرة المُتخيلة كانت معتمدة بالأساس على وقائع تاريخية حقيقة، وأن كلاً من ابن مماتي والسيوطي قد نقلا تلك الوقائع بلا مبالغة أو تزييف.
مع ذلك، فأن مزاعم ابن مماتي والسيوطي يمكن دحضها ورفضها اعتماداً على أقوال العديد من المؤرخين الذين أكدوا على فطنة ونباهة قراقوش، ومن هؤلاء ابن خلكان في "وفيات الأعيان"، وابن العماد الحنبلي في كتابه" شذرات الذهب"، واللذان بنيا دفاعهما عن قراقوش على ثقة صلاح الدين فيه وتوليته إياه الكثير من الوظائف الكبرى في الدولة، والتي يستحيل أن يتولاها مغفل أو غبي.
أما ثاني التفسيرات، فهو ذلك الذي يرى أن ابن مماتي وجلال الدين السيوطي، هما اللذان تجنيا على قراقوش وشنعا عليه، وأنهما على وجه الخصوص يتحملان مسؤولية تشويه صورة الوزير الأيوبي صاحب المجهودات العمرانية والإدارية العظيمة.
ذلك الرأي يذهب إلى أن لكل من المؤرخين أسبابه الوجيهة في لصق تلك التهم بقراقوش، فبالنسبة لابن مماتي، فقد كان يشعر بالتنافس والحسد مع قراقوش، لأن كليهما كان من كبار رجال الدولة الأيوبية، وكان بينهما تسابق على نيل الحظوة والمكانة عند السلطان صلاح الدين، أما السيوطي، فقد كان يعبر عن شعور المصريين المتزايد بالحنق والسخط والغضب من المماليك الأتراك الذين كانوا ينتهبون ثرواتهم ويتعسفون في معاملتهم، ومن ثم كانت السخرية من قراقوش التركي والتندر عليه، تحمل إسقاطات سياسية اجتماعية تؤكد على إحساس المصريين بالظلم.
يتماشى مع هذا التفسير، ما طرحه المستشرق الفرنسي كازانوفا، عندما ذهب إلى أن الحط من قيمة قراقوش، كان بمثابة محاولة مصرية للنيل من الدولة الأيوبية، التي هيمنت على مصر وجعلت منها مجرد ولاية تابعة للخلافة العباسية، بعد أن كانت القاهرة على مدار قرنين من الزمان، مقراً وعاصمة للخلافة الفاطمية، وبعد أن كانت مركزاً متبوعاً يناهض بغداد ويتفوق عليها.
في السياق نفسه، يذهب الباحث عبد اللطيف حمزة في كتابه "حكم قراقوش"، إلى أن الصورة البلهاء لقراقوش في الثقافة المصرية الشعبية، تتماشى مع العادة المصرية الأصيلة في توجيه سهام السخرية والفكاهة لحكام مصر، وهي عادة اجتماعية تنامت على مر العصور بسبب كثرة تعرض مصر للغزو والاحتلال.
أما محمد عبد الله عنان، فيلفت النظر إلى أن ما أشيع عن حكم قراقوش وظلمه، كان بمثابة تضخيم لما عُرف عنه من صرامة وحزم في جمع العمال المصريين وتشغيلهم في سبيل بناء المشروعات العمرانية الضخمة التي أُقيمت في عهده، خصوصاً أن معظم تلك المشروعات قد تم تنفيذها بطريق السخرة، وكان الكثير من العمال يهلكون من شدة الإنهاك وسوء التغذية.
وتعتبر محاولة الباحث رياض عبد الحسين راضي، لتفسير الاتهامات التي التصقت بشخصية قراقوش، من المحاولات الحديثة التي خرجت عن السياق المعتاد والنمطي، إذ ذهب الباحث في دراسته "الفاشوش في حكم قراقوش: الدوافع والأغراض"، إلى أن ابن مماتي لم يكن يستهدف بهاء الدين قراقوش تحديداً بما كتبه، ولكنه كان يقصد الإشارة إلى العيوب ومواطن الخلل في النظام الإداري بالدولة، ولما كان قراقوش يترأس هذا النظام، بحكم نيابته لصلاح الدين في أوقات كثيرة، فقد تم تصويره في الكتاب مسؤولاً عن الكثير من المساوئ، مثل الرشوة والغضب والمحسوبية والغباء والتعنت، وكان الهدف الحقيقي من وراء كل ذلك، هو إصلاح تلك المفاسد والحد من انتشارها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...