شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
صورة الصحافي في السينما المصرية… أو كيف رسمتها السلطات لخدمتها

صورة الصحافي في السينما المصرية… أو كيف رسمتها السلطات لخدمتها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 14 أكتوبر 201905:34 م

صحفي مهتم بأخبار الراقصات بعد هزيمة يونيو 1967، يقرّر في نوبة ضمير أن يفعل ما يجعله يفخر بنفسه، فيقبل مهمة تغطية عملية حربية خلف خطوط العدو الإسرائيلي في عمق سيناء، ويرافق الجنود المصريين في رحلة موت، يعود بعدها بتغيير قناعات تام، يُدرك قيمة الوطن والتضحية ويعشق تراب سيناء بعد أن شاهد الدماء ترويها.

تلك هي صورة الصحفي التي رسمها شريف عرفة في فيلمه "الممر"، الذي عُرض على بعض القنوات الفضائية في ذكرى نصر أكتوبر، وأدت إلى حالة من الغضب في الأوساط الصحفية التي رفضت التجسيد بهذا الشكل، خاصة أن الصحفي "إحسان"، الذي يجسّد دوره الفنان أحمد رزق، لم يكن فقط مهتماً بأخبار الراقصات، بل شخصية سطحية التفكير عديمة الوطنية خائف دائماً، وذلك ظهر من خلال الأسئلة التي يوجهها للجنود أثناء الرحلة، على شاكلة: "هو أنتو بتموتوا ليه علشان الوطن"، وكأنهم ليسوا جنوداً تلك مهمتهم، أو كأنه لم ير في حياته أي فرد يموت من أجل الوطن في العالم، وأسئلة كثيرة من هذا النوع.

بالنسبة لي، خطأ المخرج شريف عرفة الوحيد إنه أراد أن يرسم صورة لصحفي لا يعرف عن تضحيات الجنود والحرب شيئاً، فإذا به يكتب "وهو مؤلف الفيلم" عن شخصية خارج الزمن، فلا يوجد مصري، ناهيك عن كونه صحفياً وعلى قدر من الثقافة، سيسأل قائده: "دي سيناء دي كبيرة جداً على كده"، وكأنه لم يقرأ أي مقرر دراسي أو سأل زملاءه في الجريدة عن حجم سيناء التي دارت على أرضها حرب منذ أسابيع، بحسب توقيت الفيلم، وبالتالي جميع الصحف العربية والعالمية كتبت عن أرض الفيروز.

لكن دون ذلك، فأستطيع القول أن شريف عرفة جسّد بحرفية مخرج كبير نظرة السلطة السياسية للصحفي الآن، والرسائل التي حملتها المشاهد واضحة، أولها أن الشيء الوحيد الذي يفعله الصحفي الآن من أجل أن يفتخر بنفسه هو تغطية عملية حربية، أما محاربة الفساد والحديث عن آلام الناس "كلام فاضي"، علاقة الصحفي بالضباط هي علاقة تلميذ بأستاذ، وعلى صاحب القلم إدراك ذلك جيداً، هذا ظهر في تعامل الضابط "أحمد عز" مع الصحفي وهو يخاطبه في البداية "يا ابني"، الرسائل شملت أيضاً أن على الصحفي أن يكون "مُهزأ" ويتحمّل "تريقة" بعض ضباط الصف، دون إبداء أي امتعاض لكرامته التي تُهدر، وأخيراً الصحفي شخص خائف، لا باعتباره مدنياً، فهناك مهندس مدني "محمد الشرنوبي" يُقاتل بكل شجاعة وسط الجنود، لكن هكذا أراد شريف عرفة الذي لم يجد نموذجاً يحتذى للصحفيين سوى صحفي مهتم بحياة الراقصات.

بعيداً عن نظرة شريف عرفة غير الصحيحة، لأنني صحفي وقمت بتغطية اشتباكات بين قوات الشرطة وبعض الإرهابيين منذ 5 سنوات، وتعرضنا لرصاص حي ولم أخف، وسقط بجواري زميل وأكملت المهمة، وغطيت مؤتمرات حضرها ضباط ولم يقل لي أحدهم "يا ابني"، لكن هكذا تريد السلطة الآن وذلك من خلال التوثيق السينمائي.

والحقيقة أن تلك ليست المحاولة الأولى، بل على مدار تاريخ السينما المصرية، يمكننا اعتبار النموذج الذي يظهر به الصحفي في الأفلام السينمائية ترمومتراً لقياس مدى ديمقراطية السلطة التي ظهر في عهدها هذا الفيلم، و نتحدث هنا عن الأعمال التي كانت فيها الصحافة البطل وليس البطل صحفي، ويمكننا البدء من عام 1940 بفيلم "حياة الظلام" لمحسن سرحان، الذي جسّد دور صحفي وكاتب قصة، وحتى نهاية خمسينيات القرن الماضي، انحسرت صورة الصحفي بين الأديب أو كاتب الأخبار الترفيهية، على شاكلة "أين ترعرعت سيدتي"، وهذا ينطبق على تلك الفترة التي لم تكن الصحافة أخذت شكلها المهني المعروف حالياً، كما أن معظم نجوم الصحافة هم في الأصل كتّاب أو محامون.

إذا كانت الفترة الناصرية منذ بداية ستينيات القرن الماضي وحتى وفاة جمال عبد الناصر 1970، هي فترة تأميم للصحافة وتنكيل بالصحفيين وخنق الأصوات المعارضة، فلا يمكن اعتبار تقديم صورة سيئة عن الصحفيين بمنأى عن ذلك كله، خاصة أن أيادي السلطة تحكّمت في كل شيء، وخلال تلك الحقبة تم تعريف الصحفي بأنه إنسان منافق، يتخلى عن قيمه ومبادئه وعلى استعداد لفعل أي شيء من أجل الترقي في بلاط صاحبة الجلالة، وتم تقديم تلك الصورة من خلال فيلمين، أولهما "اللص والكلاب" بطولة كمال الشناوي، الذي جسّد فيه شخصية رؤوف علوان، الصحفي الذي يتخلى عن مبادئه من أجل التحالف مع السلطة، ويخون صديقه في النهاية، والثاني فيلم "القاهرة 30" عن قصة نجيب محفوظ "القاهرة الجديدة"، وفيها جسّد حمدي أحمد أشهر أدواره، "محجوب عبد الدايم" الصحفي الذي يعاني من ضيق العيش فيتخذ من التسلق والنفاق عنواناً للترقي، ويقبل أن يشاركه أحد الباشوات في زوجته من أجل ضمان التألق الصحفي، كصورة لأحط أنواع البشر.

على مدار تاريخ السينما المصرية، يمكننا اعتبار النموذج الذي يظهر به الصحفي في الأفلام ترمومتراً لقياس مدى ديمقراطية السلطة التي ظهر في عهدها الفيلم، ونتحدث هنا عن الأعمال التي كانت فيها الصحافة البطل وليس البطل صحفي
إذا كانت الفترة الناصرية هي فترة تأميم للصحافة وتنكيل بالصحفيين وخنق الأصوات المعارضة، فلا يمكن اعتبار تقديم صورة سيئة عن الصحفيين بمنأى عن ذلك كله، خاصة أن أيادي السلطة تحكّمت في كل شيء.

الترمومتر الحقيقي بين ديمقراطية أي سلطة ونموذج الصحفي الذي يظهر في السينما المصرية يتجلى في فيلم "العصفور" الذي ظهر عام 1972، قبله بعام قرر "السادات" تصفية المعتقلات ورفع الحراسة الجبرية عن بعض الشخصيات، لذلك لم يكن من الغريب أن يجسد صلاح قابيل دور صحفي شريف، معركته الحقيقية الكشف عن عصابة تسرق أحد المصانع أثناء استعداد مصر للحرب، ليتم تقديم صورة مُضيئة لدور الصحافة في كشف الفساد.

أما فيلم "زوجة رجل مهم"، الذي ظهر للنور عام 1987 في وقت استقرار نسبي ومناخ به هامش حرية في بداية عصر "مبارك"، حمل أشهر مشهدين للصحافة في السينما المصرية بين صحفي وضابط أمن دولة، فالأخير يقبض على الصحفي بعد انتفاضة يناير 1977 ويتهمه بالشيوعية، وحين تنتهي الانتفاضة بنصر شعبي ويتم الإطاحة بهذا الضابط، تجمعه الصدفة مرة أخرى بالصحفي في أحد المقاهي، ليدور حديث بينهما ويلقنه الأخير درساً في الوطنية والشرف ويظهر دور صاحبة الجلالة كأعظم ما يكون.


لم تتكرر تجربة "زوجة رجل مهم" مرة أخرى، وبات ظهور الصحفي مقترناً دوماً بـ"نقيصة" وفق معايير مجتمع محافظ، ففي فيلم "امرأة واحدة لا تكفي" ظهر أحمد زكي ككاتب مناضل لكنه "سكّير ويغوى النساء"، وتكرر ذلك في فيلم "الستات" لمحمود ياسين، الذي يصل لرئاسة التحرير ويتورط في علاقات نسائية، تلك الصورة مازلنا نعاني منها حتى الآن، فكثيرون يعتقدون أن الصحفي رغم كتاباته ومحاربته للفساد لكنه في النهاية "سكّير ويهوى النساء".

في عام 2010 أطلق مبارك كلمته الشهيرة عن المعارضة المصرية "خليهم يتسلوا"، لكن الحقيقة أن تلك الجملة ظهرت قبلها بخمس سنوات وتحديداً في فيلم "السفارة في العمارة"، الذي جسّد فيه الفنان أحمد صيام دور الصحفي في جريدة "لا"، ويعرفه عادل أمام "ده صحفي في جريدة مش عاجبها أي حاجة"، بجانب ظهور الصحفي دائم الحديث بلا جدوى.

منذ عامين شاهدت فيلم (the post)، للنجم العالمي توم هانكس، وقبله فيلم (spot light)، المقارنة بين صورة الصحفي في الفيلمين وصورة الصحفي في السينما المصرية، هي مقارنة بين الحرية والديكتاتورية، هكذا بدون شوائب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image