تضرب الفلسطينية وفاء أبو حجاج كفاً بكف. ترفع نظرها متأملةً السماء تشكو همّاً تجاوز عمره سنواتٍ تعدها بالأيام، مذ وصلت إلى قطاع غزة برفقة عائلتها بموجب تصريح زيارة كانت قد استخدمته معتقدة أنها تهرب به من لوعة الشتات.
قبل عشرين عاماً، وطأت قدما وفاء أرض القطاع، وفي الحقيقة لم تكن تعي جيداً "ماذا يعني العيش في القطاع بلا هوية... المهم بالنسبة لي ولعائلتي كان العثور على الراحة فوق تراب الوطن". اليوم، وبعد سنوات، اكتشفت معنى أن تكون "ميتة تتنفس"، وأن "الحرمان من الحرية يعني موت الروح، وهو شعور أبشع من الإحساس بالغربة".
كل ليلة، تذهب الثلاثينية في أحلامها خارج القطاع، تحاول اللحاق بفرصة عملٍ دعتها إليها مؤسسةٌ عربية مقرها المملكة الأردنية الهاشمية، لكنها تصحو في غزة، لتواجه السؤال الصعب: كيف ستسافر وهي صاحبة هوية زرقاء؟ فحتى الحقوق الأساسية التي يحظى بها المواطنون الفلسطينيون في قطاع غزة حُرمت هي منها.
وفاء من بين آلاف قدموا إلى قطاع غزة من دول الشتات بلا أوراقٍ ثبوتية، ولم تعد لديهم القدرة على إتمام أبسط المعاملات المدنية، إذ ترفض الجهات الرسمية حتى اللحظة منحهم بطاقة "الهوية" الرسمية، بحجة أن الأمر مرتبط بالاحتلال، بينما اكتفت بإصدار بطاقات تعريف "زرقاء" اللون، ناقصة الصلاحيات.
ما هي حكاية بطاقة التعريف الزرقاء؟
بطاقة التعريف الزرقاء هي عبارة عن وثيقة تمنحها وزارة الداخلية في غزة للمواطنين الفلسطينيين المحرومين من البطاقة الرسمية الخضراء، والذين كانوا قد دخلوا القطاع من معبر رفح بتصاريح زيارة، أو بجوازات سفر عربية أو أجنبية.
يُعامَل حاملو البطاقة الزرقاء في غزة كمواطنين درجة ثانية، ولا يستطيعون الاستفادة من خدمات الدوائر الحكومية، كما يواجهون عقبات كبيرة في السفر.
ويُعامَل حاملو البطاقة الزرقاء في غزة كمواطنين درجة ثانية، ولا يستطيعون الاستفادة من خدمات الدوائر الحكومية، كما يواجهون عقبات كبيرة في السفر خارج فلسطين أو الانتقال بين الضفة الغربية والقطاع.
تعود أصول المشكلة لفترة الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة عام 1967، إذ كانت ما تُعرف بـ"الإدارة المدنية ليهودا والسامرة" (أي الضفة وغزة) ترفض إصدار هويات للفلسطينيين الذين نزحوا من أرضهم لدول الجوار بين عامي 1948 و1967، وكانت تتذرع آنذاك بأن أولئك الأشخاص غير مقيدين في سجلاتها التي تضم أسماء المواطنين المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وترتبط تلك القضية كذلك باتفاقية المعابر التي وقعتها السلطة الفلسطينية مع إسرائيل في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2005، بعد انسحاب الأخيرة من القطاع، وحصرت استخدام معبر رفح بحاملي بطاقة الهوية الفلسطينية الخضراء، مع استثناءات محدودة لغيرهم، تأتي ضمن شرائح متفق عليها بين الطرفين.
وأكدت الاتفاقية ضرورة أن يقوم الطرف الأول بإشعار الطرف الثاني بأي استثناء، ويلتزم الأخير الرد على الطلب خلال 24 ساعة، وفي حالة الاعتراض يتم توضيح الأسباب.
وفي حزيران/ يونيو عام 2007، جاء الانقسام الفلسطيني واشتد الحصار على قطاع غزة، فتعطلت الاتفاقية الخاصة بالمعابر، وانحسرت السيطرة الإسرائيلية على معبر رفح البري، وصار الأمر متعلقاً بحركة "حماس" - التي انفردت بحكم القطاع آنذاك - وبالسلطات المصرية التي لا تتعامل إلا بالأوراق الثبوتية الرسمية الصادرة عن السلطة الوطنية الفلسطينية، وترفض خروج مواطنين فلسطينيين غير حاملين للبطاقة الخضراء من خلال حدودها، إلا في حالات استثنائية.
تزايد أعداد حاملي البطاقة
قصة أخرى يرويها لرصيف22 أدهم المنسي (47 عاماً)، يقول: "نزح والدي إلى تونس إبان النكبة عام 1948، ولم يكن يمتلك أية أوراق ثبوتية تمكّنه من الحصول على الجنسية أو حتى تتيح له العودة لفلسطين، وظل كذلك حتى توفي عام 2002"، مبيّناً أنه قرر عام 2008 العودة لقطاع غزة برفقة أبنائه وزوجته الفلسطينية، وعبر خلالها الحدود المصرية بطريقة غير شرعية.
ويذكر أنه عانى منذ إقامته في القطاع "المنكوب" من مشكلة عدم امتلاك "بطاقة الهوية"، وهذا ما سبّب له مشكلات في المعاملات الرسمية وقيّد كذلك دخول أبنائه للمدارس، مشيراً إلى أن بطاقة التعريف التي يحملها لا تكفي للحصول على جميع حقوقه كمواطن فلسطيني.
في إحدى المرات خلال عام 2013، يتابع أدهم قصته، أُصيب ابنه يوسف البالغ من العمر 9 أعوام بمرض السرطان، ولم يستطع نقله إلى مشفى مصري، إضافة لكونه عانى خلال علاجه في المستشفيات الحكومية المحلية الكثير من المشكلات، وعلى رأسها "أوراقه الثبوتية".
يعمل أدهم سائقاً لسيارة أجرة، يحصّل منها دخلاً لا يتجاوز عشرة دولارات يومياً، ينفقها على عائلته التي تتكون من تسعة أفراد، ويدفع كذلك البدل الشهري لإيجار بيته، ولا يستفيد من أية مساعدات حكومية أو من تلك التي تقدمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، ولا يمتلك تأميناً صحياً صالحاً للعلاج في المستشفيات الحكومية.
خلال عام 2008، أخذت أعداد المواطنين أصحاب المشكلة نفسها في الازدياد، بعدما هدم الفلسطينيون الغاضبون من سوء الحال والحياة، الجدار الفاصل بين قطاع غزة ومصر بأيديهم، واختار المئات منهم – أولئك الذين يقيمون في الدول العربية- العودة بطريقة غير شرعية للقطاع لأنهم لا يمتلكون وثائق تخولهم الدخول بطريقة رسمية.
وشجعت ظاهرة الأنفاق الحدودية التي نشطت في فترة اشتداد الحصار الإسرائيلي الكثير من الفلسطينيين المشتتين في العالم على العودة بطريقة غير شرعية، فدخل الكثير منهم غزة وأقاموا فيها من دون امتلاك أوراق ثبوتية لفترة طويلة، وهذا ما دفع حكومة حركة "حماس" لاتخاذ قرار بإصدار تلك البطاقات التعريفية الزرقاء لهم، بعد رفض الجانب الإسرائيلي الموافقة على إصدار هوياتهم الرسمية وتنصل السلطة في رام الله من متابعة قضيتهم.
ضياعٌ للفرص وإحساس بالغربة
ولدت شهد يحيى (29 عاماً) داخل مخيم اليرموك في سوريا لأبوين فلسطينيين. وعلى إثر الأحداث الدائرة هناك، عادت إلى غزة برفقة ثلاثة من أفراد أسرتها عام 2012، فيما ظل خمسة منهم خارج القطاع.
تروي لرصيف22 أنها وصلت إلى القطاع عبر الأنفاق الحدودية، وكانت تأمل أن تعيش الاستقرار داخل بلدها وتحصل على جميع حقوقها المدنية، لكن الأمر لم يجر كما أرادت، فهي حتى هذه اللحظة تعيش شعور "مواطن الدرجة الثانية".
درست شهد الترجمة في إحدى الكليات المحلية، وكانت تطمح للحصول على فرصة عمل داخل إحدى المؤسسات، لكن الظروف كانت على عكس الحلم، فـ"كل إعلانات الوظائف بحاجة لأوراق ثبوتية" وهي لا تمتلكها. اضطرت للعمل بنظام القطعة، ونجحت في لفت أنظار منشأة تجارية عربية إلى قدراتها، فاستدعتها الأخيرة للعمل في مقرها في دولة الإمارات.
تقول شهد: "اعتذرت عن تلك الفرصة التي كانت قد تغيّر مجرى حياتي، لأني لا أملك جواز سفر".
دخلوا غزة وأقاموا فيها من دون أوراق ثبوتية، فمنحتهم حكومة "حماس" بطاقات تعريفية زرقاء، بعد رفض إسرائيل إصدار هوياتهم الرسمية وتنصل السلطة الفلسطينية من متابعة قضيتهم... كيف يعيش حاملو البطاقات الزرقاء في غزة؟
بلغ عددهم حوالي 33 ألف شخص... حاملو بطاقة التعريف الزرقاء في غزة يحصلون على جوازات مصفرة شكلية، لا تحمل رقماً وطنياً، ويواجهون عقبات كبيرة في السفر إلى الخارج أو الانتقال بين الضفة والقطاع
حكاية مشابهة عاشها الصحافي مثنى النجار الذي لم يتمكن من الحصول على جواز سفر يؤهله للخروج في مهمات عمل صحافية خارج قطاع غزة، حيث وصل إلى هناك قبل عدة سنوات برفقة عائلته التي كانت نازحةً في العراق بتصريح زيارة عبر حاجز بيت حانون "إيرز" الإسرائيلي.
يقول مثنى لرصيف22 :"أنا مدرج في الوقت الحالي على قائمة الممنوعين من الحصول على هوية".
ووفقاً لكلامه، فإن المتسبب الرئيسي في مشكلته هو الاحتلال الإسرائيلي الذي يرفض الموافقة على منحه وثائق رسمية، وكذلك السلطة الفلسطينية التي تتنصل من أمر تفعيل قضاياهم وحلها، منوهاً إلى أنه يشعر بالغربة في وطنه ولا يستطيع ممارسة حياته بشكلٍ مريح.
بدورها، تحكي أم ياسر خليل قصتها، حيث لم تكن تعلم أن هروبها من شعور الغربة الذي عاشته في ليبيا طوال سنوات إقامتها هناك سيتضاعف مع قدومها لأرض بلادها عام 2012، وهي التي ظنت أنها ستلقى ترحيباً يعوضها عن سنين البُعد والفراق، وكانت تتوقع أن حصولها على هويتها الوطنية الفلسطينية ممكن في أيام قليلة.
بحسرة، تشرح لرصيف22 أنها قدمت برفقة أربعة من أبنائها، بينما ظل زوجها هناك كونه مرتبطاً بعمل، وتقول:"أقمت منذ وصولي إلى هنا في بيتٍ متهالك يملكه أقربائي شمال قطاع غزة، فوق هذا كله تعرض للتدمير والجرف خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في يوليو/ تموز 2014، ومنذ ذلك الوقت تعيش عائلتي شتاتاً من نوعٍ مختلف، مستوراً بحجارةٍ تغطيها صفائح معدنية، تشبه في شكلها الخارجي كل شيء ما عدا البيت والوطن".
لا حلول قريبة
وكان الوكيل المساعد لوزارة الداخلية في قطاع غزة عاهد حمادة قد أوضح في ورشة عمل نظمها "مركز الإعلام المجتمعي" لمناقشة تلك القضية في نهاية سبتمبر المنصرم، أن عدد حاملي البطاقة الزرقاء في غزة 33114، وهناك 3000 دون الـ16 عاماً، أي أنهم غير مؤهلين للحصول عليها بعد.
البطاقة الزرقاء لا تتيح لحاملها التنقل إلا داخل حدود غزة، بينما لا تمتلك حكومة القطاع صلاحيات إصدار جوازات السفر، كون الأمر من اختصاص الجهات التابعة لحكومة السلطة.
وبحسب حديث حمادة، فقد جاءت البطاقة الزرقاء لتسهيل مهمات المواطنين داخل القطاع، وهي كذلك جزء من حل لمشكلة كبيرة مرتبطة بشكلٍ وثيق بالاحتلال، إضافة "لكونها جزءاً من الاتفاقات السلبية التي وقعت معه، ومنعت تسجيل اللاجئين كمواطنين فلسطينيين".
وأشار إلى أنّ البطاقة الزرقاء لا تتيح لحاملها التنقل إلا داخل حدود قطاع غزة، بينما لا تمتلك حكومة غزة صلاحيات إصدار جوازات السفر، كون الأمر من اختصاص الجهات التابعة لحكومة السلطة.
وأضاف :"حاملو البطاقة التعريفية الزرقاء يحصلون على جوازات مصفرة شكلية، لا تحمل رقماً وطنياً وغير مدرجة ضمن السجل المدني"، مؤكداً أن الفترة القريبة التي سبقت الانقسام الفلسطيني عام 2007، شهدت حصول 20 ألف مواطن على تصريح بـ"لم الشمل" من الجانب الإسرائيلي، وبعد الانقسام تعطلت كل الطلبات.
وكان حاملو البطاقة الزرقاء نجحوا في وقتٍ سابق بتشكيل تجمعٍ هدفه الضغط على الجهات المسؤولة لأجل حل مشكلاتهم، وأطلقوا عليه اسم "هيئة التنسيق المشتركة للاجئين من الدول العربية"، وأقاموا من خلاله عدداً من الفعاليات وأطلقوا بضع مناشدات، ولم تلقَ أصواتهم أي اهتمام جدي حتى هذه اللحظة.
في الجلسة نفسها التي تحدث فيها الوكيل المساعد لوزارة الداخلية، نوّه مسؤول التحقيقات والشكاوى في الهيئة المستقلة لحقوق الانسان بكر التركماني بأن الهيئة استقبلت العديد من شكاوى المواطنين المحرومين من بطاقة الهوية الرسمية، والذين يعدون بعشرات الآلاف من القاطنين في قطاع غزة، منبهاً إلى أنهم يتواصلون مع الجهات المعنية لمتابعة هذه القضايا ولكن لا حلول حتى الآن.
وقد حاول رصيف22 طوال فترة إعداد التقرير التواصل مع الجهات المعنية في الضفة الغربية، المسؤولة عن التواصل مع الجانب الإسرائيلي في هذه القضية، لكنه لم يتلق رداً على استفساراته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومينحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 3 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين