"أذكر جيداً تلك السنوات العصيبة التي عاشتها الطفلة التي كنتها آنذاك، بعد أن أجبرتني الظروف على دخول معترك الحياة مبكراً جداً. أيام مريرة لازلت أستشعر وقعها على جسدي وعلى ونفسي، ذاكرتي محملة بتواريخ متراصة من الوجع والإهانة والعذابات صعبة النسيان، ولا أحسب أنها ستمحى يوماً".
بهذه الكلمات وصفت جميلة، (29 عاماً) من "جندوبة" شمال غرب العاصمة تونس، وتسكن الآن في حي شعبي مع زوجها الثاني، التي أجبرتها الظروف الاقتصادية الصعبة لعائلتها على الخروج للعمل في سن التاسعة.
ورغم جهود الدولة التونسية لاحتواء ظاهرة عمالة الأطفال، إلا أن الظروف الاقتصادية الصعبة تُجبر الكثير من العائلات في تونس، لا سيما في المدن الداخلية، على إرسال أطفالهم للعمل في سن مبكرة، لدعم مداخيلها المحدودة أو المعدومة في بعض الأحيان.
وتقول جميلة لرصيف22: "أصيب والدي بفشل كلوي، أصبح بمقتضاه عاجزاً عن العمل، ولم يكن لدينا معيل غيره. كنت كبيرة شقيقاتي، لهذا أخبروني بأن أحدهم سيأتي ليأخذني إلى عائلة في العاصمة، أساعدهم في تنظيف البيت مقابل راتب سيساعد العائلة. ولمواساتي أكدوا لي أنني سأعامل كابنتهم وأنني بذلك لن أشعر بفراغ عائلتي".
ما وجدته جميلة كان قاسياً ومختلفاً عما توقعته، تقول لرصيف22: "في البداية كانت مهمتي التنظيف وغسل أواني الأكل، وتدريجياً وفي عمر 13 أو أقل، صرت مكلفة بالطبخ والتنظيف معاً، كان ممنوعاً عليَّ اللعب مثل الأطفال، لعبي مع أدوات التنظيف وأواني المطبخ".
"أهانتني لأن ابنها حاول اغتصابي"
تفاقمت ظاهرة استغلال الأطفال في تونس بشكل كبير، وبحسب آخر إحصائية أجراها المعهد الوطني للإحصاء، فإن ما يزيد على 215 ألف طفل يعملون في تونس، أي حوالي 9.5% من الأطفال التونسيين الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و17 سنة، فيما 176 ألف طفل من إجمالي عدد الأطفال العاملين هم تحت سن 16 عاماً.
وحسب تقرير المرصد الأورومتوسطي، فإن الفتيات القاصرات معرضات للاستغلال، حيث من بين نحو 78 ألف خادمة منزلية تعمل في تونس، هناك 17.8% من الأطفال أي ما يزيد على 13 ألف طفلة.
"في البداية كانت مهمتي التنظيف وغسل أواني الأكل، وتدريجيا وفي عمر 13 أو أقل صرت مكلفة بالطبخ والتنظيف معا، كان ممنوع علي اللعب مثل الأطفال،لعبي مع أدوات التنظيف وأواني المطبخ".
ولدت شابة أو كهلة مباشرة، الطفولة مرحلة أسقطت مني كرها لا أعرف معناها إلا في عيون وتفاصيل بقية الأطفال وحديث الناس عنها لكنها لم تمر بي يوما
وتضيف جميلة: "حدثت معي الكثير من التفاصيل التي أنهكتني حينها، لكن هناك أحداث حفرت بعمق في ذاكرتي، وخلفت وراءها أمراضاً خطيرة. الأولى، وكانت بعد قرابة الثلاث سنوات من العمل، عندما عاقبتني صاحبة البيت بشدة لأنني لم أقم بعملي كما ينبغي، بكيت كثيراً ووددت لو أن والدتي بجانبي لتدافع عني، وهكذا قرّرت أن أهرب إلى بيتنا البعيد. بعد منتصف الليل تسللت، ووجدتني تائهة في طقس ماطر لا أعرف أين أتجه، لم أشأ العودة خوفاً من عقاب جديد، فاحتميت بأحد الأشجار وتكورت، وكدت أتجمد من البرد. وفي الصباح اتصلت صاحبة البيت بالرجل الوسيط الذي قادني للعمل، وبحثوا عني ليجدوني مساء مرمية في حال يرثى له. أخذوني إلى بيتها. وضعتني وسط ماء ساخن ثم جعلتني أتناول حساء ساخناً، وتدريجياً استفقت فمدت مبلغاً من المال إلى الرجل وطلبت منه أن أرحل. كانت حرارتي مرتفعة ولم أكن قد تماثلت للشفاء، ليأخذني مباشرة إلى سيدة أخرى وأباشر العمل مجدداً".
"عاقبتني صاحبة البيت بشدة، بكيت كثيراً ووددت لو أن والدتي بجانبي لتدافع عني"
تكمل جميلة سرد ذكرياتها الأليمة: "الحادثة الثانية كانت في تلك الفترة أيضاً، عندما أتلفت عن غير قصد مزهرية غالية الثمن، الأمر الذي أثار غضب صاحبة البيت التي ضربتني بقطعة خشب بها مسمار على رأسي أفقدتني الوعي، وبعد أكثر من عشر سنوات انتابتني آلام كبيرة في رأسي، اكتشفت أن تلك الضربة سببت لي ورماً صغيراً حميداً، تم استئصاله بعد جلسات مخيفة من العلاج الكيماوي".
وبعد أن بلغت جميلة الـ17 عاماً، كانت العائلة التي تعمل لديها تنظم حفلا، تحكي عن أشد تجاربها إيلاماً: "ولدى صعودي للطابق الثاني لقضاء شأن ما، فوجئت بابن هذه العائلة يحاول اغتصابي، مستغلاً انشغال الجميع بصخب الموسيقى في الطابق السفلي. قاومت كثيراً وعندما أيقنت أن لا أحد سيسمع صراخي ألقيت بنفسي من الشباك ،وكان قصدي أن أموت وأرتاح من هذه الأهوال التي عشتها، ولكن أفقت وأنا بالمشفى، برضوض كثيرة في جسدي وكسر خطير في يدي اليمنى مازالت آثاره حتى اليوم. ورغم آلامي الموزعة في أماكن مختلفة من جسدي، إلا أن توبيخ وشتم صاحبة البيت لي بدل لوم ابنها كان أشد مرارة، حتى أنني أستحضر تفاصيل وجهها في ذلك الحين حتى الآن".
حاولت جميلة الهروب من واقعها، تزوجت مرتين في ثلاث سنوات، وهي تتطلع لأن تكون زيجتها الأخيرة "موعدها مع الراحة".
تشريعات هشة ومتضاربة
تتسبب هشاشة التشريعات القانونية المتعلّقة بعمالة الأطفال وتضاربها في تونس في تفشي الظاهرة وانتشارها، فحسب الفصل 58 من مجلة الشغل فإنه "لا يجوز أن يقلّ عن ثمانية عشر عاماً، السن الأدنى للقبول في أي نوع من أنواع الأعمال التي يمكن بحكم طبيعتها أو الظروف التي يقع القيام بها، أن تعرّض صحّة أو سلامة أو أخلاق الأطفال للخطر".
في المقابل، ينصّ الفصل 55 من نفس المجلة على "تخفيض سن قبول الأطفال في العمل إلى ثلاثة عشر عاماً في الأعمال الفلاحية الخفيفة التي لا تضر بصحتهم ونموهم، ولا تمس بمواظبتهم وقدراتهم على الدراسة، ومشاركتهم فـي برامج التوجيه أو التكوين المهني المصادق عليه من قبل السلط العمومية المختصة". وأجاز هذا التضارب في القوانين للمشغّلين استغلال الأطفال في عديد الأنشطة الخطيرة، مستفيداً من غياب الآليات العملية الكفيلة بالحدّ من التحاق الأطفال بسوق العمل.
"حوّلوني لساقطة ولم أعرف الطفولة"
حسناء (35 عاماً) من سيليانة، شمال غرب العاصمة تونس، تعمل حالياً بضواحي العاصمة تونس، ساقتها ظروف عائلتها الصعبة هي الأخرى لدخول سوق الشغل منذ بلوغها سن العاشرة. تجربتها في العمل كطفلة تراوحت بين العمل كعاملة منزلية ثم كنادلة في المطاعم والمقاهي، حيث واجهت الكثير من الصعوبات والمخاطر أيضاً.
تقول حسناء: "أقف أحياناً أمام المرآة وأنا في هذا العمر أحاول أن أقسمه إلى محطات، فأجد أنني ولدت شابة أو كهلة مباشرة، الطفولة مرحلة أسقطت مني ، لا أعرف معناها إلا في عيون وتفاصيل بقية الأطفال وحديث الناس عنها، لكنها لم تمر بي يوماً".
تمثل مرحلة الطفولة لحسناء ذكريات قاسية، تقول: "على حين غفلة وجدتني أترنح من بيت إلى آخر كخادمة، تنظف، وتكنس، وتطبخ لأطفال في عمري بل وأكبر أيضاً. الإهانات تلاحقني كامل اليوم بحجة أنني لا أتقن هذا العمل أو ذاك، لا مكان لي على طاولة طعامهم فمكاني المطبخ، وأحياناً حتى الأكل لا أستحقه. كنت أبكي كثيراً بسبب المعاملة القاسية التي ألاقيها، ولكن هذا البكاء كان هو الآخر سبباً لعقاب جديد، لهذا تعلمت مبكراً أن أكتم دموعي، حتى لا أقلق راحة المرفهين الذين أعمل لديهم".
"أقف أمام المرآة وأنا في هذا العمر أحاول أن أقسمه إلى محطات، فأجد أنني ولدت بلا طفولة"
طفح الكيل بعد ست سنوات من عمل حسناء المستمر كمعينة منزلية، وقررت أن تحرر نفسها، غادرت ذات يوم بحجة شراء بعض الأغراض وذهبت تجول بين المطاعم بحثاً عن عمل كنادلة أو مساعدة طباخ أو منظفة أوان، وبعد بحث طويل قَبِل أحدهم أن تعمل في التنظيف.
تقول حسناء: "كانت سعادتي لا توصف، فالمطعم في منطقة راقية بالعاصمة وزبائنه من الأغنياء، لهذا سعيت كثيراً أن أعمل كنادلة لأنني سأحصل على مصروف إضافي من الزبائن، وهو ما تم بعد فترة قليلة. ولكن هذا الحرص تحول إلى ندم لاحقاً، فقد وجدت نفسي فريسة لهؤلاء الذين أغدقوا علي بالهدايا والمال الذي لم أستطع رفضه في البداية، ووجدتني في ظرف زمني قصير أركب سيارات فارهة وأرتاد أماكن لم أتخيل أن تطأها قدمي. كنت في كل مرة أصدق أن هذا الرجل يريدني فعلاً، أن جمالي أخذه وسأكون قريباً زوجته، وبالتالي سأودع حياة الشقاء التي أعيشها، لكن يحدث أن يختفي بمجرد أن أذهب معه لبيته الذي يوهمني بأنه سيكون بيتنا قريباً".
قال لها أحد الرجال: "هل أنت ساذجة أو تدعين ذلك؟ كيف تصدقين أنني سأتزوج فتاة بالكاد تستطيع كتابة اسمها وتمسح الطاولات لزبائن قادرين على اقتيادك أينما شاؤوا فقط من أجل المال؟".
تعلّق حسناء: "أحدثت كلماته رجّة هائلة داخلي، وجعلتني أحصي الرجال الذين رافقتهم على أمل أن يغيروا حياتي للأفضل، وجدت أن ما حدث هو أنهم حولوني، بإرادتي، لساقطة في نظري ونظر حتى من كانوا يعملون معي. ولهذا غادرت المطعم إلى مقهى في مكان آخر مازلت فيه حتى الآن ولكن مع دروس قاسية جداً".
وتستنكر جميلة من يلومها على "سقطاتها" وأخطائها، تقول: "لا يحق لأحد أن يلومني أو يقيّمني، بينما كنتم تلعبون وتدرسون وكنتم تحت أجنحة آبائكم يوجهونكم إلى الطرق الجيدة، حددت لنفسي الخطأ والصواب على مقاس حاجتي وأوجاعي، لا على مقاس الآخرين، لم أكن بذلك البذخ الذي يسمح لي بمجرد اختيار الطريق الأفضل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع