لكل منا لحظة، أو بضع لحظات نادرة، أتت ولم ترحل، أقصد تلك المواقف التي تترك انطباعاً يدوم ويؤثّر في الكثير من قراراتنا: حبيبة رحلت أو حادثة نجونا منها. بالنسبة لي، إن أقدم تلك اللحظات يعود إلى الصف الثاني الابتدائي قبل أن أتمّ عامي العاشر حتى. اللحظة كانت مريرة في بدايتها، مشوّقة في أوسطها، وفي النهاية لا أستطيع القول إلا أنها قامت بتنظيفي للغاية.
كان ذلك خلال يوم دراسي معتاد أطيقه بصعوبة، ولم أكن أدري عند بدايته أنه سيحمل لي قصة هامة، إلى درجة أنني ما زلت أحملها حتى الآن بعد مرور أكثر من ثماني عشرة سنة. البداية كانت حينما شرع مدرس اللغة الإنجليزية، الأستاذ جوزيف، في تصحيح كتاب الواجبات المدرسية، ينادي على الأسماء ثم يبلغ كل طالب بدرجته بلا أي تعليقات إضافية، ولكن بمجرد أن قام بمناداة اسمي ورددت كالآخرين بنعم، لم أتلق نفس الإجابة المنتظرة بتقدير درجتي وحسب، فقد ردَّ عليّ بسخرية: "نعم الله عليك"، ظننت حينها أنني قد أخفقت في حل الواجب بدرجة كبيرة، ولكن في الحقيقة كنت قد أخفقت في شيء آخر.
طلب مني الأستاذ أن أذهب وأقوم بكتابة محتويات الصفحة التي يفتحها على سبورة الفصل (اللوح الخشبي في الصف)، أمسكت بالكتاب وهنا عرفت لماذا كانت تلك الـ "نعم الله عليك". رسمة ساخرة قمت بتنفيذها في أعلى الصفحة ونسيتها تماماً، إذ قمت بإكمال رسمة موجودة بالفعل لبائع يجرّ عربة خضار، فأضفت أنا إلى ملابس البائع رداء قسٍّ مثل الذي يرتديه البابا يوحنا مدير المدرسة، وعبارة تحمل أكثر المعاني عنصرية وكرهاً لشخصه ولمن يمثلهم، نعم مدرستي كانت مدرسة مسيحية خاصة تُدعى الفرنسيسكان ومديرها كان برتبة قسّ ينادى بالبابا.
على كل حال انتهينا من معرفة السبب وأنتظر الآن تلقي العقاب، نصف ساعة تقريباً قضيتها أمام مكتب المدير/ البابا حتى انتهاء جلسته مع والدي الذي تمّ استدعاؤه عاجلاً، ثم التحقت بالجلسة لأعرف ما هو قرار المدرسة: هل سيقومون بضربي أمام الطلاب لكي أكون عبرة لمن تسوّل له نفسه السخرية من هذا البابا؟ أو فصلي من المدرسة التي تُعتبر فرصة مثالية في مدينة صغيرة بصعيد مصر؟ لم أفكر كثيراً فقد قال لي البابا يوحنا بعد إخباري عن سبب غضب المدرّس مني، بأن عقوبتي بسيطة للغاية وهي كتابة أبيات من الشعر لا تقل عن ثمانية وعشرين بيتاً، أصف فيها الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، بالتأكيد عرف أنني أكتب الشعر بعد تلك الجلسة مع والدي.
عدت إلى المنزل وأنا سعيد لأن العقوبة كانت بالنسبة لي سهلة ولن تُكلفني كرامتي أمام زملائي حتى، ودخل والدي غُرفتي ليخبرني بأن أبدأ حالاً في تنفيذ العقوبة، قلت لنفسي: "حسناً سأنتهي من ذلك اليوم"، ولكن هذا لم يحدث لا في اليوم ولا الغد، فلقد اكتشفت أنني لا أعرف الكثير عن هؤلاء القوم- المسيحيين- وأن ما أعرفه لا يجوز كتابته في شعر عن الوحدة الوطنية بالطبع، مثل أننا يجب ألا نحبهم وأن رائحتهم كريهة ويفضلون أمريكا على بلادنا، وأنهم ذاهبون إلى الجحيم لا محالة، فاضطررت للاستعانة بوالدي الذي نصحني بالذهاب إلى عم شنودة المكوجي، والتحدث معه والانتهاء من أبياتي تلك، وقد كان. طلبت من عم شنودة أن يخبرني المزيد عن المسيحية، ولكن جلستنا تأجلت للغد، بما أنه ارتعد أمام مطلبي وكان لابد أن يستأذن أبي قبل فعل ذلك، فربما يتهمه أحدهم بالتبشير واللعب بعقل طفل صغير.
اليوم التالي حمل لي العديد من المفاجآت: يعبدون الله ويخشونه ويحبونه، ينادون بالسلام والخير والرحمة ويدعون للخطاة بالمغفرة، إلههم واحد وولاؤهم لمصر لا ينقطع بمسيحيتهم، وعندما سألت عم شنودة لماذا لا يحب المسيحيون أن يكون لهم أصدقاء مسلمون، قال: "ما انت أبوك صاحبي يا بني!"، في الحقيقة وعند التركيز أكثر، فوالدي وخالي وأبو محمد صاحب السوبر ماركت كلهم أصدقاؤه بالفعل.
قاطعت عم شنودة مجدداً لأخبره بعضاً من شكوكي أو لنقل اتهاماتي: لماذا تدفعون الأموال حتى يصير المسلمون نصارى؟ وإذا قامت حرب بين مصر وأمريكا، هل ستحاربون في صفوفنا أم مع صفوف أبناء ديانتكم الأجانب؟ أجاب العم: "من قال بأننا نعطي المال للمسلمين كي يتحولوا إلى نصارى؟ هل شاهدت ذلك أو أخبرك به شخص تأكدت من صدقه؟ وإذا وجد هذا الشخص لماذا لم يقم بإخبار الشرطة بالحادث، بما أننا في مصر حيث لا يستطيع المسلم التخلص من ديانته أصلاً؟"، أما عن السؤال الثاني وحرب مصر وأمريكا التي افترضتها فكان رده مختصراً للغاية: "في حرب أكتوبر حاربنا كمصريين ضد الإسرائيليين، وأمريكا كانت تُساند إسرائيل في حربها تلك، لذا فببساطة هذا قد حدث، والافتراض تم إثبات نتيجته بأن المسيحيين مصريون قبل أي شيء، ومصائرهم ترتبط بوضع البلاد وليس وضع ديانتهم"، وبحق أقول إني حينها شعرت بالسخف الشديد من أسئلتي.
بالعودة إلى العقوبة، فجأة تحوّلت الأبيات الثمانية وعشرين إلى أكثر من أربعين بيتاً. لم تكن صعبة ولم تكن محيرة ولم تكن مصطنعة، لم تكن عقوبة أصلاً، كتبتها بكل حب واقتناع وتفتح رغم عمري الصغير، وقام البابا يوحنا بتعليقها في أكبر لوحة داخل حوش المدرسة، وهكذا تحولت العقوبة إلى مكافأة، فلقد أصبحت الطالب الذي يحبه الكثيرون، وبعد ذلك أمين الصف بانتخاب زملائي.
قمت بإكمال رسمة لبائع يجرّ عربة خضار، فأضفت أنا إلى ملابس البائع رداء قسٍّ مثل الذي يرتديه البابا يوحنا مدير المدرسة، وعبارة تحمل أكثر المعاني عنصرية وكرهاً لشخصه ولمن يمثلهم.
لولا الرسمة لظلت أرجلي ثقيلة وهي تحمل ذلك الكره داخلي لمن حولي من أصحاب الصليب، ولكن بدلاً من ذلك ها أنا أكتب هذا المقال، بعد أن استوعبت بأن الرسمة لم تكن مسيئة لأن العقوبة كانت درساً عظيماً.
والآن ماذا أستطيع أن أخبركم عن تأثير تلك الرسمة المسيئة؟ إنها كانت رائعة حقاً. لولا تلك الرسمة ربما كنت الآن أحد المجاهدين ضد المسيحيين، أو على الأقل لظلت أرجلي ثقيلة وهي تحمل ذلك الكره داخل جسدي لمن حولي من أصحاب الصليب على كفوفهم، ولكن بدلاً من ذلك ها أنا أكتب هذا المقال ولا أطلب الغفران، بعد أن استوعبت بأن الرسمة لم تكن مسيئة لأن العقوبة كانت درساً عظيماً، في الواقع ليت كل الأطفال يرسمون رسومات مسيئة إذا كان كل مسؤول عنهم هو البابا يوحنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.