شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"أشرار يعيشون على أرض يحرقها الخروف بالنّار"... نهايات العالم كما تخيَّلها هنود وأفارقة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 4 أكتوبر 201905:07 م

لا يوجد شخص لم يفكر في نهاية العالم، ودوماً ما يدور السؤال عن كيفية حدوث تلك النهاية، قدمت النصوص المقدسة للأديان السماوية بعض "الإجابات"، لكن على الجانب الآخر هناك أفكار أخرى، تنتمي إلى ثقافات موروثة، لا تستند إلى دين أو كتاب "سماوي"، خاصة في الموروثات الشعبية الأفريقية، والآسيوية، والهنود الحمر في الأمريكتين.

تحكي قبائل الهنود الحمر في أمريكا عن "مادومدا" الذي خلق العالم، لكنه بعد ذلك رأى أن الناس يسيئون التصرّف، فيقتلون بعضهم البعض، ويهملون أطفالهم، فأرسل طوفاناً ليكتسحهم، لكن بمجرد فنائهم، جاءت قرية جديدة إلى الوجود، وملأت المكان، وسرعان ما صاروا أشراراً هم كذلك، فأحرق هذا الخلق بنار مدمرة.

إلهة الموت زاهدة ولامبالية

في نهاية القصة التي وردت في كتاب "ومن بعدنا الطوفان" لمينيكيه شيبر، ترجمة عبد الرحيم يوسف، صنع "مادومدا" من عيدان الصفصاف جماعات مختلفة من الناس، تحدثوا لغات عديدة، وعاشوا في قرى كثيرة، علمهم الزراعة والنسيج، وكيف يأكلون بشكل صحيح، وأعطى كل الحيوانات المختلفة أماكنها الملائمة، وقبل أن يغادر حذّر الناس من إساءة التصرف، وقال لأجدادنا أنها فرصتنا الأخيرة.

"أنا صنعتك لتقضي على الخلق، اذهبي الآن إليهم واهلكيهم....".

وفي قصة "براهما والموت" الهندية الآسيوية، والتي وردت في الكتاب ذاته الصادر عن صفصافة للنشر والترجمة، نجد فكرة خلق الموت، في تصورهم، من خلال عرض لقصة الإله "براهما" في الثقافة الهندية مع الإلهة المقدسة التي تسمى الموت،

وتخيل حكماء الهنود القدماء الموت على شكل امرأة سوداء، ترتدي أقراطاً حمراء، متسربلة بثياب حمراء، ولها عينان حمراوان، وتسيطر الألوان القاتمة والنارية المرتبطة بالخوف والهلع في ذاكرة البشرية على حضورها.

الموت في أسطورة هندية امرأة سوداء، ترتدي أقراطاً حمراء، متسربلة بثياب حمراء، ولها عينان حمراوان، تسيطر الألوان القاتمة والنارية عليها، زاهدة، تحج، وتتجاهل أوامر إله آخر بقتل البشر لملاييين السنين
 حرّر "روو" الناس من محبس الولادة، ومنحهم مزرعة بها الكثير من البطاطا والموز، ومسموح لهم أن يأكلوا ما شاءوا، ما عدا شجرة البطاطا، ولكنهم في كل مرة لا يطيعون أوامره

وقد حاولت هذه الإلهة، وفقاً للقصة الهندية، ألا تقوم بمهمتها المحتومة "أنا صنعتك لتقضي على الخلق، اذهبي الآن إليهم واهلكيهم...".

تتجاهل إلهة الموت الأمر تارة، وتتحايل عليه بالزهد تارة، وبالتوجه إلى "دينوكا" أو مكان الحج، والوقوف على رجل واحدة لمدة خمسة عشر ألف مليون سنة، وبعدها لمدة عشرين ألف مليون سنة، تبعتها بعشرة ملايين عام أخرى، وهو ما يتفق مع بعض القصص الواردة في القصص الدينية في الإسلام، من إشفاق ملك الموت في بعض الأوقات على الأرواح التي سيقبضها.

الناجون من الفوضى يحاولون السيطرة

في الصين تنويعات كثيرة على ثيمة الطوفان في المجتمعات التي عاشت داخل حدود البلاد، وفي الأساطير غالباً ما يتم تقديم "بان كو"، الكائن الأول، باعتباره الكائن الذي تُخلق من جسده المتحلل أجساد كل الأشياء، وتأتي الإلهة "ناوا" باعتبارها الإلهة التي تخلق البشر من الطين. وفي إحدى الأساطير، يدمر "جونجونج" إله الماء كمال الخلق.

وكذلك نجد في الخيال الصيني اقتراباً ما من تصور بداية القيامة في الدين الإسلامي، بخروج نار تطرد الناس إلى محشرهم، إذ نقرأ لديهم "للحظة صامتة حبس الزمان أنفاسه وتوقف، ثم تداعت السماء وسقطت محطمة، مسببة الفوضى في كل مكان، وتاركة حفراً واسعة في القبة العلوية، بدأ العالم يرتج ويتقلقل، وأمسكت النار في الغابات والجبال، صرخت الطيور والوحوش الجارحة، وفرت في ذعر، وهي تهاجم الناس وتلتهمها، فاضت الأنهار، وانفجرت السيول من شقوق الأرض، وأغرقت السهول بماء قذر، وغدت الأرض بحراً بلا شطآن، لم يعرف الناس إلى أين يفرون، مهددين بأمواج المد والوحوش المفترسة، عاشوا في مواجهة دائمة مع الموت".

واليوم تتخذ هذه القصص القديمة عن النهاية معنى جديداً في ضوء التلوث المرعب والاحتباس الحراري، والحاجة المُلحّة لتأمين مستقبل البشرية. في السرديات الأسطورية عن النهايات الماضوية والمستقبلية للعالم، يتصرف الناس بسلوك سيء، مثل أجدادهم، نتيجة اللامبالاة والقسوة وسوء استخدام السلطة والفساد، ثم يحلّ الخراب.

"العالم بالنسبة إلى صينيين فاسد، وانتهت صورته الأولى منذ زمن قديم، ورغم إصلاحه لم يعد كما كان".

ولكن الأهم في التصور الصيني لنهاية العالم، هو أن العالم انتهت بالفعل صورته الأولى، وأننا نحيا صورة أخرى، ففي نهاية القصة نجد أن "ناوا" أحرقت أعشاب السهول، واستخدمت الرماد لتوقف الطوفان، وبفضل جهودها النشطة، ساعدت أطفالها وخلصت العالم من الحرب الكارثية بين النار والماء. لكن بالرغم من إصلاحه، لم يعد العالم هو نفسه مرة أخرى.

فالأساطير التي تحتوي على تصورات لنهاية البشرية تربطها غالباً ببدء الخلق مباشرة، وهنا تكمن رسالة القصص التي تستهدف المستمعين "ما حدث منذ زمن بعيد يمكن أن يحدث أيضاً لنا"، ودائماً ما نجد أن "النادرين" الذين نجوا من الفوضى يحاولون السيطرة عليها.

في النهاية... سيحرقنا الخروف

أما تصورات نهاية العالم في الأساطير الأفريقية، فوفقاً لمقالين مترجمين لسعاد محمد خضر في مجلة (أسفار) العراقية منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً، في عدد ديسمبر 1986، والآخر لمحمد عبد الرحمن في أحد أعداد "إبداع" عام 2001، فإنها (أي نهاية العالم) تكون في هذه التصورات شكلاً من أشكال العقاب.

تحكي الأساطير الأفريقية أنه في البدء كانت الكلمة، لكن الأمر في النهاية استتب للخروف بعد أن هزم الكلمة، وكان ينزل هذا الخروف بين الحين والآخر ليبيد البشر الذي لا يعبدونه، إلى أن قاومته شجرة من شحر الملانزي فقطعت ذيله، ومن وقتها صار يحرق كل شيء، وبخاصة أكواخ البشر الذين لا يعبدونه.

في البدء كانت الكلمة، لكن الأمر في النهاية استتب للخروف بعد أن هزم الكلمة.

إلى أن احتمى مجموعة من البشر في إحدى ثورات غضبه بشجرتين من أشجار الملانزي، وقضى الخروف يومين كاملين حتى يستطيع الانتصار على الشجرتين، وظل الناس على هذه الحال، يوجدون آلهتهم أثناء حروبهم مع الحيوانات، ففرض عليهم العقاب، وعلموا بذلك عندما جاءوا في يوم من الأيام إلى أحد آلهة الشجر، يسألونه أن يوقف هذا الدمار الذي يسببه الخروف، فقال لهم: لقد عبدتم الخروف حتى جن واندفع صاخباً في الهواء وقتل الكلمة التي انبثق منها ما يزين الكون من أشياء، إنني الأخ الأصغر للكلمة، وأقول لكم : عقاباً لكم أيها البشر، سوف تصيرون صغاراً، فلا تبلغ قامة أحدكم نصف قامتكم الآن، وفي النهاية تأكل النار عالمكم كله.

وحلّ الغناء محلاً هاماً في قصص التراث الأفريقي، وتصوراته عن نهاية البشرية، التي وردت في كتاب "ومن بعدنا الطوفان"، ففي قصة "نزامي" الذي خلق الأرض والسماء واحتفظ بالسماء لنفسه، وهو الذي خلق "امبيري" و"نكوا"، وخلق "فام" والذي يعني القوة، وهو الإنسان، ومنحه قوة تتعدى قوة الفهد، وحكمة تتخطى حكمة الفيل، وخبثاً يجعله متفوقاً على القرد، فأخذه الغرور وأخذ يغني:

يييي، أوه لا، ييييي

نزامي هناك في الأعالي

والإنسان على الأرض..

ييييي، أوه لا، يييي

نزامي هو نزامي

والإنسان هو الإنسان

كل في بيته

كل من أجل نفسه.

وقد سمع "نزامي" هذه الأغنية وتساءل: "من الذي يغني؟"

"خمِّن فقط".

"من يغني؟"

"يييي، أوه لا، يييي..".

"من يغني؟"

"حسناً، إنه أنا"، صاح فام.

وهو ما أغضب الإله "نزامي" عليه، وجعله يشعل نار السماء "فووي.. فووي"، ولعلنا نلحظ حضور الصوت في التراث الأفريقي عن النهاية حتى في أدق التفاصيل، ولكن لأن "نزامي" كان قد منحه الخلود، وما يمنحه الرب لا يسترده أبداً، فقد خلق "فام" آخر، على صورة الشكل الإلهي، لكنه أقل قوة وبدون خلود، أما "فام" الأول فقد احترق لكنه ما زال حياً، ولا يعلم مكانه، فبعد أن تداول "نزامي" و"امبيري" و"نكوا" وضعوا طبقة جديدة من الأديم على الأرض السوداء المتفحمة، فنبتت شجرة.... إلى آخر خلق المفردات الأساسية للكون.

ونحد في قصة "رووا" الذي حرّر الناس من محبس الولادة، ومنحهم مزرعة بها الكثير من البطاطا والموز، ومسموح لهم أن يأكلوا ما شاءوا، ما عدا شجرة بطاطا تسمى "أولا Ula"، وهو ما يستدعي لدينا بالطبع قصة آدم وأكله من شجرة التفاح.

وتمتلئ القصة بالتفاصيل من حكاية الإنسان الذي أعطاه فرصة أن يجدد جلده في الشيخوخة، لكن بشرط ألا يراه أحد، لكن حفيدته تراه فيموت، ثم بحثت هذه الحفيدة عن زوج يكون أقوى من الجميع، لأن الناس صاروا متكبرين للغاية، إلى أن قابلت رجل البحيرة الضخم الذي لم يظهر منه سوى رأسه وهو بداخل البحيرة، وحين اتفقا على الزواج فيما بعد، أخبرها غناءً أنه سيبتلع كل شيء:

أنا زورق الساحل

سأذهب إلى هناك وأبتلع أباكِ.

سأذهب إلى هناك وأبتلع أمكِ.

سأذهب إلى هناك وأبتلع أخاكِ.

أنا زورق الساحل.

كان هذا المخلوق هو "ريمو" الذي ابتلع كل ما وجده بالفعل، وابتلع البلدة كلها، إلى أن ابتلع الأرض وما عليها، إلا أنه ترك امرأة مسكينة ورضيعها، إلى أن أمرها وزير "رووا" أن تسمي ابنها "ميكشووا"، وأخبرها أنه سيحكم الأرض من جديد ويملأها عدلاً، لكن الأرض كانت خالية تماماً لا يحيا فيها أحد، ومن نسل ابنها خرج أيضاً أناس متكبرون فشلوا في اختبار "رووا"، حين أرسل لهم وزيره على هيئة رجل جائع يحك جلده، فطردوه ونفروا منه، إلى أن يقابل رجلاً رحيماً يضيفه ويطعمه ويعالجه، وحينها أخبره بالحقيقة، وطلب منه أن يجمع أهله وماله حين يسمع الدوي المحطم للماء الجاري بشدة.

وتشير معظم تلك القصص الأسطورية التي استعرضناها لقبائل هندية، وشعوب آسيوية وأفريقية، إلى أن الإنسان غالباً لا يمتلك بداية واحدة، وبالتالي فإنه لا يمتلك نهاية واحدة، وربما تتفق هذه التصورات مع الإطار العام لتصورات الأديان، فالآخرة/ القيامة ليست نهاية نهائية، وإنما هي بداية لشأن آخر باختلاف تفاصيل تلك التصورات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image