شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
مات جمال كي لا نخاف

مات جمال كي لا نخاف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 2 أكتوبر 201911:02 ص
Read in English:

Jamal Died And So Did Our Fears

"الحيطان إلها آذان" (الجدران لها آذان). هذه العبارة رسخت في ذاكرتي، فقد سمعتها عندما كنت طفلاً وكنت أفهمها بمعناها الحرفي فتخيفني.

كانت العائلات في دمشق تجتمع على الشرفات الكبيرة لأبنية فخمة مكونة من أربعة طوابق ضمنها طابق أرضي، بُنيت أيام الاستعمار الفرنسي. في بناية جدّي، كان الطابق الأرضي الذي يمتاز بحديقة تلتف حوله "وكراً" للمخابرات، يدوّي منه صراخ في بعض الأحيان.

مخابرات من كل الفروع تواجدت في العديد من هذه الأبنية الأنيقة. كانت كل عائلات دمشق الزراعية والصناعية والتجارية تجتمع وتشتكي من التأميم الذي طال كل شيء في البلد. وكان الخوف من السجن والتعذيب مهيمناً على الجميع. أنا، الطفل الزائر ابن الخمس سنوات وجدّي السبعيني المقيم، وأحد كبار رجالات الزراعة، كلانا كان يخاف ويرضى بقدره، ولو على مضض.

بعد أربعين عاماً، دعاني صديق دمشقي عزيز للاجتماع بجمال خاشقجي في واشنطن، بصفتي ناشر موقع رصيف22. خفت من اللقاء طبعاً. ما لي وما للسعوديين؟ تساءلت بيني وبين نفسي. خفت من السعودية التي قد تعاديني فينقطع نصيبي في القيام بعمرة يوماً ما. ولكن خوفي الأكبر كان مما يُحكى عن انتماءات جمال الإسلامية. أي تجمّع يحتوي اسمه على كلمة "المسلمين" مخيف لي كعربي أمريكي، فقد صار إسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهما أداة تخويف تصدّ البعض عن الدين حتى.

وصلت إلى موعد العشاء، وكان جمال وصديقي في انتظاري. بعد نصف ساعة، كنا قد أصبحنا رفاق درب، إذ كان الحوار بيننا يدور حول حرية التعبير والخوف في البلاد العربية، الخوف من الحاكم بأمره. كان معنا رجل أمريكي "خبير في شؤون الشرق الأوسط". طبعاً، نقاش الخوف لم يعنِ شيئاً له. فقط نحن العرب نفهم ما يعنيه الخوف ونخشاه. نخاف على أنفسنا وعلى عائلاتنا وزملائنا من التهديد المباشر والسجن وقطع الأرزاق. نخاف من الهجرة والوحدة والاكتئاب.

اتفقنا على أن يبدأ جمال بالكتابة مع رصيف22. غمزني قائلاً: لا تخف. فهمت إشارته. هو كان مدركاً أن أي وسيلة عربية يكتب فيها ستتعرّض للحجب، أي حكم الإعدام، فقد رأينا أحكاماً عديدة بالموت صدرت بحق مؤسسات أكبر من رصيف22... ولكن في آخر المطاف، يبقى الحجب قرار الجبناء.

في 28 أيلول/ سبتمبر 2018، راسلت جمال وكان في إسطنبول. قلت له: ناطر منك مقال حلو بس تفضى، وأجابني: سأفعل، من زمان ما كتبت.

قبل أشهر من هذه المراسلة، شارك جمال في منتدى الحرية في العاصمة النرويجية أوسلو وكان لمشاركته تأثير كبير عليه. هنالك، شاهد الناس تصفّق لصحافيين ومناضلين يتحدثون عن القمع والتعذيب في بلادهم.

"الخوف شائع في بلداننا وذنبنا أننا نريد أن نكون رعية صالحة في دول نرفض أن تبقى مستنسخة عن الطراز الفاشي ونرفض حكامها المستبدين. نعيش حياةً ليست هي الحياة التي نتمناها، بلا طموحات، بلا طاقة بلا بوصلة"
"’الحيطان إلها آذان’ (الجدران لها آذان). هذه العبارة رسخت في ذاكرتي، فقد سمعتها عندما كنت طفلاً وكنت أفهمها بمعناها الحرفي فتخيفني"

كتب من وحي المنتدى في رصيف22 ثلاثة مقالات، أولها خواطر حول حرية العرب وثانيها عن عقوبة السجن وما تسببه من اكتئاب للناشطين، وثالثها عن مدى جهوزية العرب للديمقراطية. كلها ترد فيها فكرة الخوف وكسره أو هواجس المطالبين بالتغيير. ثم كانت زيارته المشؤومة للقنصلية السعودية في إسطنبول حيث اختفى في 2 تشرين الأول/ أكتوبر، وبدأت الأخبار والشائعات تخرج من كل الجهات. توقف جمال عن التغريد وتغيّر كل شيء، وبان خوف النظام السعودي من حرية الرأي.

اليوم، ينتابني الخوف على صديقة عزيزة تعرفت عليها عبر تويتر، وتمثّل أجمل ما كانت عليه مصر العظيمة: اللباقة، الذكاء، الثقافة، الحنكة والطاقة. فكرة اختفائها عن التايملاين تؤرقني منذ يومين، تواصلت معها عبر الرسائل المباشرة، فقالت لي: "إتمَسَكْت يا كريم وطلّعوني شرط ألا أغرّد".

قبل أشهر، أرسل لي مراسلنا في مملكة أبعد من مصر رسالة عبر تطبيق مسنجر قال لي فيها: "اعذرني يا كريم، لم يعد بإمكاني العمل معكم"، ثم اختفى من فضاء السوشال ميديا. هو صحافي شاب تمكن خلال ستة أشهر من زرع رصيف22 بقضايا حقوقية من الحاضر والماضي، وكان متحمساً لكل ما له علاقة بالحريات.

في بلد أقرب، قررت مراسلة ميدانية أن تكتب حصراً عن الراحة والشوكولاتة كي لا تزجّ في السجن...

الخوف شائع في بلداننا وذنبنا أننا نريد أن نكون رعية صالحة في دول نرفض أن تبقى مستنسخة عن الطراز الفاشي ونرفض حكامها المستبدين. نعيش حياةً ليست هي الحياة التي نتمناها، بلا طموحات، بلا طاقة بلا بوصلة.

هل يكون جمال آخر صحافي يُقتل ويُجفف حبر قلمه عبر إقصائه جسدياً؟ ربما لا، بل على الأرجح لا، فنحن نعرف في أي مناخات نتحرّك. يسكننا الخوف ولكننا نعمل يومياً في رصيف22 على كسره، من موقع مستقل يهتم بمشاكل المواطنين لا بصراعات الحكام. ونردد مع جمال أن "الحب والحرية يحتاجان استعداداً وبذلاً وعطاءً". لا مفرّ من ذلك. إذا ليس من أجلنا فلأجل أولادنا الذين يجب أن نورثهم حياة أفضل من تلك التي ورثناها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image