"يا إله الكون يا سندي، الله الله، أنت يا رباه معتمدي... يايسوع تعبان محتاج لحنان... وبيننا ميعاد، لو احنا بعاد، قصاد عيني في كل مكان"، أنشودة وترنيمة وأغنية رومانسية، فرّق بينهم الهدف والكلمات وجمع بينهم سحر الموسيقى، فأحببتهم ثلاثتهم واعتنقت ذلك الشعور السحري الحقيقي بالحب.
الموسيقى التي أقصدها هنا ليست تلك التي تتطلب العزف على آلةٍ ما، ولكن الموسيقى بمفهومها الشعبي، الكلمات التي نتغنى بها، سواء كانت أغنية أو أنشودة أو ترنيمة، أو حتى هتافاً في مدرجات الملاعب وساحات الثورات.
أتذكر في طفولتي أنني اعتدت الذهاب إلى "سايبر نت" حيث أقوم بحجز ساعة أو أكثر للحصول على جهاز كمبيوتر في غالب الأحيان للعب فقط، وكالعادة كان مالك السايبر المسيحي المصري يبدأ يومه بتشغيل ترانيم، صادفت الاستماع لبعضها في تلك الأيام التي فاض بي الشوق لحجز أحد الأجهزة، فاستيقظت مُبكراً وجلست على مقعدي كأول زبون لديه، لذا كنت ألعب واستمع إلى افتتاحية يوم الميلاد بالترانيم المُختلفة.
مرة تلو الأخرى، أستمع وأستمتع ثم أسير في الشارع في طريق عودتي للمنزل وأنا أتمتم بكلمات غير مفهومة إطلاقاً، ولكن بموسيقى طبق الأصل عن إحدى الترنيمات المسيحية التي اعتادت أذني سماعها، كان هناك مريم ويسوع وأبانا، ولكني حذفت كل هذا حفاظاً على سلامتي أولاً، بما أن لا أحد سيتفهّم أنني فقط أحببت هذا الشعور الذي مدّتني به موسيقى الترنيمة وأنني لا أنوي التنصّر "لا قدر الله"، وثانياً لم تكن تلك الكلمات والأسماء تناسب الكلمات غير المفهومة التي أضفتها أنا إلى الموسيقى على كل حال.
تمرّ الأيام ويمرّ برفقتها عداد العمر بلا هوادة، ثمان وعشرين سنة أو قبل ذلك بثلاث سنوات ربما حينما بدأتُ مثل الكثيرين رحلة البحث عن الحقيقة، أي دين وأي إله وكيف بدأ الخلق ومتى ينتهي ولماذا نحن هنا؟ وما إلى ذلك من أسئلةٍ راودت الجميع تقريباً، وبغض النظر عن موقعي من الإجابات، فلم أشعر للحظة بأنني في حاجة إلى التوقف عن سماع أي شيء، أي موسيقى أعجبتني ظلت معي، أي أنشودة أطربتني مازالت تقوم بعملها حتى اليوم، هذا الإيمان بالشعور لم أكفر به أبداً، ومن يستطيع الكُفر بالحلاج مثلاً؟ فحتى ولو كفرت بنبوّة محمد ستظل: "والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي"، مقرونة بأنفاسي بالفعل، أرددها وأهيم بها، ومرات عديدة خلدت إلى النوم على نغماتها.
من هنا بدأت أتساءل لم حرّم الله الموسيقى، في بعض المعتقدات وليس كلها؟ وأعلم أن هناك خلافاً حول ذلك في نفس المعتقد، بين حرمانية المعازف فقط أو الكلمات إن حركت مشاعرنا، ولكن في أفضل الأحوال، لن تجد شيخاً قد يسعد بك إن أخبرته برغبتك في تذكر تلك الترنيمة المسيحية من الطفولة.
لماذا يقف البعض أمام اللغة الوحيدة في العالم التي لا تحتاج إلى دراستها لتفهمها؟ حتى الأفلام تحتاج لتعلم القراءة والكتابة لقراءة ترجمتها، أما هذه الأعجوبة، الموسيقى، فلن تبذل أي مجهود كي تشعر بما يشعر به رجل هندي في مومباي، عندما تتوقف أذنا كل منكما معاً، على أبواب موسيقى أغنية في فيلم هندي ما.
هل هي الغيرة من تأثير الموسيقى الذي يتغلب على تأثير كلمات كتبهم المقدسة؟ هل الخوف من أن تُصبح الموسيقى لغة سهلة توحد الجميع، في ظل وضع الحواجز الدينية بينهم بمنع الزيجات المختلطة، وتحريم الحب بين أبناء الديانات المختلفة؟ أو ربما لأنها لن تحتاج لوسيط يخبرنا كيف نسمعها، فلن يوجد أبداً رجال موسيقى على غرار رجال الدين مثلاً.
من هنا بدأت أتساءل لم حرّم الله الموسيقى، في بعض المعتقدات وليس كلها؟ وأعلم أن هناك خلافاً حول ذلك في نفس المعتقد، ولكن غالباً، لن تجد شيخاً قد يسعد بك إن أخبرته برغبتك في تذكر تلك الترنيمة المسيحية من الطفولة
لماذا يقف البعض أمام اللغة الوحيدة في العالم التي لا تحتاج إلى دراستها لتفهمها؟ هل الخوف من أن تُصبح الموسيقى لغة سهلة توحد الجميع، في ظل وضع الحواجز الدينية بينهم بمنع الزيجات المختلطة، وتحريم الحب بين أبناء الديانات المختلفة؟
في مقطع فيديو شهير يظهر فيه العريفي، أحد دعاة المملكة العربية السعودية، وبجانبه شاب أجنبي وأمامه جمهور متحمس لتجربة أعلن عنها العريفي في الفيديو، والتي تقضي بأنه سوف يقوم بتلاوة نصين مختلفين على طريقة قراءة القرآن، أحد النصوص هو من سورة ما والآخر قام العريفي نفسه بتأليفه، وبعد ذلك سوف يقوم بسؤال الشاب الأجنبي الذي لا يفهم اللغة العربية عن أي النصوص أحب إلى قلبه، مقامرة محسوبة من العريفي بما أنه واثق في اختيار الشاب للنص القرآني، ببساطة اعتمد الداعية على قدرة الكلمات في التغلب على موسيقى تلحينها وقراءتها، فماذا حدث؟
انتصر الشاب الأجنبي للنص الثاني غير القرآني الذي قام العريفي بتأليفه، للحظات لم يفهم الشيخ ولم يفهم الحضور أيضاً، فقط الشاب كان يفهم أنه لا نفاق في النغمات، وأذنه أي كان معتقده فهي لادينية، ملحدة، لن تغازل نصاً لم يعجبها طريقة إلقائه عليها، النغمة انتصرت على الكلمات وبالطبع فهم الشيخ بعد ذلك، أن نسبة نجاح تلك المقامرة هي نفسها نسبة نجاح مقامرة بين أي أغنيتين مختلفتين 50%، وأنه لا سلطان على الأذن.
بالتأكيد غادر الشيخ يومها وهو ناقم على ما لم يفهمه، وغادر الحضور بحسرة وانكسار وربما بعض التشكك في قدرات كتابهم السحرية، وغادرت أنا مقطع الفيديو بأذني لتختار أي قطعة موسيقى، بلا كلمات أو بكلمات، مفهومة أو غير مفهومة، لا شيء يهم من ذلك، فأذني تحمل في طياتها إيمان مختلف لا يستطيع أحد أن يُشكك فيه، سجود وركوع لمشاعر الحب والراحة نحو قِبلة أرضاها وهي قِبلة الموسيقى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين