(أ.باوي) محامية وحقوقية ليبية، طلبت عدم ذكر اسمها لسلامتها الشخصية، اختارت البقاء في ليبيا، والقيام بدورها المنوط بها، رغم المخاطر الكبيرة التي تتعرّض لها، الاغتيال أو التشهير أو تهديد أسرتها.
تقول باوي: "تواجه المرأة في بلدي الكثير من التحديات إذا حاولت الانخراط في السياسة، من ضمنها التهديد ومحاولات الاغتيال والسخرية ومحاولة التشهير بها على وسائل التواصل الاجتماعي، والنقطة الأخيرة أصبحت ملفتة، باعتبارها معطى يمسّ منظومة الاخلاق التي لا يطال ضررها المرأة فقط بل كل أفراد أسرتها".
لم تتوان المرأة الليبية عن التواجد بقوةٍ في الصفوف الأمامية، إبّان الحراك السياسي والمدني منذ اندلاع ثورة 2011 في البلاد، وبذلت الكثير من الجهد في سبيل تدعيم مكاسبها القليلة، لكنها فوجئت بواقعٍ أحبط تطلعاتها، فقد أفرزت الثورة الليبية وضعاً أمنياً صعباً، تتصارع فيه المليشيات المتطرفة من جهةٍ، والعسكرية من جهةٍ أخرى، ودولةً ضعيفةً منهكة المؤسسات، انعكست سلبياتها على جميع المجالات، وخاصة ما يتعلق بالمرأة.
فبعد أن هلّلت جميع الاطراف في البداية للمرأة، وثمَّنت مشاركتها في بناء الدولة الجديدة، لما أظهرته من شجاعةٍ، وحضورٍ لافتٍ إبّان الثورة والفترة اللاحقة، تغيّرت المعادلة، وأصبحت مسألة إقصائها رهاناً تتقاسمه جميع الأطراف.
إسكات المرأة بأي وسيلة
تقول باوي لرصيف22: بصفتي محامية تصلني العديد من التهديدات بل أكثر من محاولة اغتيال من المليشيات بسبب مواقفي الحقوقية والقانونية، فمن تدافع عن حقوق الإنسان، وخصوصاً في ظل الانتهاكات الكبيرة المتكرّرة، تجد نفسها في دائرة الرعب والخطر. هؤلاء لا يمتهنون سوى العنف، وحديثك عن تجاوزاتهم يعني أنك مصنّفٌ مع المجموعة التي تقف ضدهم، وبالتالي لا بد من إسكاتك بأي وسيلة، لأن القاعدة لديهم تقول إن أي صوت يطالهم بالنقد أو الاتهام عدو لا بدّ من إسكاته".
اغتيلت المحامية والناشطة السياسية سلوى بوقعيقيص في الـ25 من يونيو 2014، بعد نشرها أسماء ثلاثة جنود ليبيين، قُتِلوا في يوم واحد بمدينة بنغازي، على صفحتها بموقع فيسبوك.
وتُعدّ بوقعيقيص ناشطةً مدافعةً عن حقوق الإنسان، ومن رموز الثورة باعتبارها أحد مؤسسي المجلس الوطني الانتقالي الليبي.
في الـ17 من يوليو 2014 اغتيلت عضو مجلس النواب فريحة البرقاوي، بإطلاق الرصاص على سيارتها في مدينة درنة، وكانت قد استقالت من منصبها في فبراير من نفس السنة، احتجاجاً على تمديد ولاية المجلس، عُرفت البرقاوي بمواقفها الجريئة إزاء أعضاء البرلمان آنذاك.
وفي 29 مايو 2014 قتلت الصحافية نصيب كرنافة، في مدينة سبها جنوب ليبيا، تم العثور على جثتها وجثة سائقها في مقبرةٍ بضواحي المدينة، وعليهما آثار تعذيبٍ وحشي، وذكر تقرير الطب الشرعي آنذاك أنه قد تم ذبح كرنافة بآلة حادة، كما اغتيلت الناشطة الحقوقية انتصار الحصائري، المعروفة بتمسكها بمطلب تكوين دولةٍ ديمقراطيةٍ وباحترام سيادة القانون في فبراير 2015.
بعد أن هلّلت جميع الاطراف الليبية في البداية للمرأة، وثمَّن مشاركتها في بناء الدولة الجديدة، لما أظهرته من شجاعةٍ في الثورة، تغيّرت المعادلة، وأصبحت مسألة إقصائها رهاناً تتقاسمه جميع الأطراف
وتدريجياً، أصبحت النساء اللاتي يتجرأن على التصريح بآرائهن عرضةً لضروب شتى من العنف، الأمر الذي أدى لانسحاب الكثيرات ووقف أنشطتهن وفرار البعض الآخر لدولٍ عربيةٍ وأوروبية بحثاً عن ملاذٍ آمن، فيما تجابه بعض النساء اللاتي اخترن البقاء ومواصلة المعركة تحدياتٍ جسام.
وتشدِّد باوي على أنَّ المرأة القوية القيادية المستقلَّة تُستبعَد في ليبيا، على عكس المرأة الضعيفة التي توجد على الهامش، فحظها أكبر باعتبار أنها "ستُقاد وفق الأهواء"، لأن ميزان الكفاءة غائب، كما أنَّ احتساب المرأة على هذه الجهة أو هذا التيار أو هذا الفكر، أنهكها، وجعل إقبالها على الانخراط في الحياة العامة ضعيفاً.
وتعرّضت المحامية والحقوقية باوي لمحاولتي اغتيال بسبب مرافعتها عن قضايا رأي عام، إحداهما كانت وسط المحكمة، حيث داهمتها المليشيات وكانوا عازمين على قتلها، لكن تم إخراجها من الباب الخلفي في زمن قياسي وإنقاذها من مصير دموي.
"المحاماة مهنة الموت في الدول التي تمرّ بمرحلة مخاض أو صراع"
وتعلق باوي على ما شهدته من تحديات بقولها إنَ المحاماة مهنة الموت في الدول التي تمرّ بمرحلة مخاض أو صراع، والميليشيات لا يفهمون القانون ولا الحقوق ولا المحاكمات العادلة ولا حق الدفاع والمرافعة، كل ما هنالك أنك إذا دافعت عن المختلفين معهم فأنت خصم لهم، وبالتالي فأنت معرضة للكثير من السيناريوهات المرعبة.
ومنذ الثورة واتساع دائرة العنف في ليبيا، تواصل المنظمات الدولية التنديد بوضعية المرأة الليبية، وانتقاد عدم جدية السلطات الليبية في التعاطي مع هذا الملف، وعدم قيامها بالجهود اللازمة لحماية النساء من العنف.
وبين هذه المنظمات، العفو الدولية التي ذكرت في تقريرها الصادر في 2018 أن النساء اللواتي جهرن بمعارضة الفساد، أو أعمال العنف التي تقوم بها المليشيات، أو الجيش الوطني الليبي، معرّضاتٌ للتهديد، والاختطاف، والعنف القائم على أساس النوع الاجتماعي من جانب تلك الجهات، كما ذكر التقرير أن التشهير بالناشطات على مواقع التواصل الاجتماعي ساعد على بلورة صورةٍ نمطيةٍ سلبية عنهن داخل المجتمع، ما أجبرهن على الانسحاب.
هربت لأوروبا بعد تهديد الميليشيات
تازيني العمراني، حقوقية شابة أجبرتها التهديدات المتتالية التي شملت حتى أفراد أسرتها وخاصة شقيقها، على الهرب أولاً إلى تونس ومنها إلى دولة أوروبية، بعد أن وصلت إلى قناعةٍ مفادها أن الوضع الراهن في ليبيا يشكل خطراً على المرأة، وأن فرص نشاطها محدودة جداً "في ظل انحصار الوضع بين مجموعات مسلحة واحدةٍ بفكر عسكري في الشرق (بنغازي خاصة)، وأخرى تحرّكها إيديولوجيا دينية متطرفة، وتتمركز في الغرب (العاصمة طرابلس)".
وتقول تازيري لرصيف22 عن التحول التدريجي ضد الناشطات في المجتمع الليبي: "كان للمرأة الليبية دور كبير في نشر الفكر الليبرالي إبّان الثورة، لا سيما فيما يتعلّق بحرية التعبير وحقوق النساء، وقد أخذت المسألة صدى جيداً لفترة من الزمن. لكن تدريجياً ظهرت في البداية تيارات أخذت في تقسيم المجتمع بناءً على أفكاره، إلى فئةٍ مسلمةٍ وأخرى غير مسلمة، وطبعاً تم وضع الليبراليين في الخانة الثانية. وشيئاً فشيئاً شهدنا صعود المجموعات المتطرّفة، كأنصار الشريعة وشورى بنغازي وغيرهم، الذين لم يتقبلوا أي أدوار رئيسية للمرأة، وقاموا باستهدافها بطرقٍ شتى، تراوحت بين الاغتيال والترويع والخطف والتعذيب".
"تدريجيا ظهرت تيارات تقسم المجتمع إلى فئة مسلمة وأخرى كافرة، وتم وضع الليبراليين في الخانية الثانية، وصعدت مجموعات متطرفة استهدفوا نشاطات المرأة بالاغتيال والترويع والخطف والتعذيب"
تضيف تاريزي: في وقت قياسي قُتلت العديد من الناشطات، على غرار سلوى شورى وحميدة بوصغر، دون تتبعٍ قضائي لقاتليهن، كما أدى العنف الممنهج ضد الناشطات إلى فرار الكثيرات خارج البلاد، مثل مجدولين عبيدة، الناشطة الشابة التي قدّمت الكثير إبان الثورة وبعدها، وكانت حريصة على التأسيس لدولةٍ ليبيةٍ ديمقراطية تحترم الحقوق والحريات، لكنها وجدت نفسها لاجئة في لندن بعد اختطافها مرّتين وتعذيبها.
"للمرأة الليبية دور كبير في نشر الفكر الليبرالي بعد الثورة"
"الحرب كسرت الشعور بالأمان، وأجبرت المرأة الليبية على العودة إلى الأدوار النمطية، لا سيما بعد تحول أي امرأةٍ قياديةٍ ناشطة تحمل رؤية ما بشأن الميليشيات أو المجموعات ذات الإيديولوجيا الدينية، إلى هدف" تكمل تاريزي، "والخطر يبقى أكبر بالنسبة لنا كناشطاتٍ نعمل على دعم حرية المرأة وحرية المجتمع، وحدث أن تم اختطاف وتهديد عدة نساء، كما تم تهديدي عدة مرات بسبب نشاطي وآرائي، ما دفعني لمغادرة البلاد ودفع الكثيرات إلى التراجع".
وحسب تقديرات أممية فقد قتل ما لا يقل عن 18 امرأة و13 فتاة، وأصيبت 26 امرأة و15 فتاة أخرى بجروح، نتيجة المواجهات المسلحة في ليبيا سنة 2017 وحدها، كما يضرّ انتشار الأسلحة في ليبيا بشكلٍ مجحف بالنساء والفتيات، ولازلن يتعرّضن للاحتجاز التعسفي، والحبس في سجون بلا حارسات.
"فقدتُ عملي المستقلّ والخاص"
على مدار سنوات عرفت ليبيا حروب مصالح وصراع نفوذ بين مجموعات مسلحة استغلت ضعف الدولة، ففرضت ضوابطها وقواعدها الخاصة بالقوة، لتنسف بذلك أحلام الكثيرات ممن تطلعن إلى نقلةٍ نوعيةٍ للبلاد، على غرار ما حدث مع الصحافية فاطمة غندور، التي وجدت نفسها تتخلى عن أحد مشاريعها الإعلامية وتغادر البلاد خوفاً من المليشيات الإسلامية.
تقول غندور لرصيف 22: "صحيح مازلت أنشط، وأمارس الصحافة وإن كان ذلك خارج ليبيا، لكنني فقدت عملي المستقل والخاص، وخاصة مؤسستي "ميادين" الإعلامية، التي أتيح لنا تأسيسها بعد أن تسنى لنا أن ننطلق في مشروع الصحافة الحرة بعد 2011. وفي هذه الفترة أتيحت لي الفرصة الانخراط في أنشطةٍ إعلاميةٍ مختلفة، على غرار عملي كمدرّبة صحافة مكتوبة في مدن ليبية عديدة، مثل طرابلس، البيضاء، سبها، وأوباري، ولكن ونظراً لغزو الإخوان المسلمين بالتحالف مع المليشيات غرب ليبيا، الذي كان عام 2014، تلقينا ضربةً قاصمةً لكل ما تحقق من أحلام بدأناها كنساء مجتمعٍ مدني وإعلاميات وحزبيات".
"صحفيات وناشطات المجتمع المدني يواجهن التهديد في بلد به 20 مليون قطعة سلاح"
وتوضّح الإعلامية الليبية أن الصحفيات والصحافيين، كما ناشطات وناشطي المجتمع المدني، يواجهون التهديد بشكلٍ دائم، في ظلِّ بلدٍ ينتشر به أكثر من عشرين مليون قطعة سلاح خفيفة ومتوسطة وثقيلة، موزعة بين عشرات المليشيات المتمركزة في مدنٍ مركزية كطرابلس ومصراته والزنتان.
لكن غندور تشدّد على أن المرأة الليبية مازالت رغم كل شيء تناضل من أجل إثبات نفسها ونيل المكانة التي تليق بها في الداخل والخارج، وهو واقع تعكسه بعض النجاحات المتكرّرة هنا وهناك، ما يعني أن لا سبيل لتغييب النساء الليبيات، وإن كان ذلك بلغة السلاح.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك عشرات المليشيات المتصارعة في ليبيا، وحكومتان تتنازعان السلطة، الأولى حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، ومقرّها طرابلس، ويديرها فايز السراج، والثانية حكومة موازية بقيادة عبد الله الثني في شرق البلاد يدعمها "الجيش الوطني الليبي" ويدعمها المشير خليفة حفتر.
ورغم الخوف من المليشيات المنفلتة في البلاد، هناك الكثير من الليبيات اللاتي يواصلن النشاط بهدوء وبعيداً عن أعين المتربصين بهن، إيماناً منهن بأن لهن الحقّ في لعب أدوارٍ هامة داخل مجتمعهن، وأن هذه الغوغاء المحيطة بهن الآن سيتم ترويضها مرحلياً، عندها ستكون البلاد جاهزة لمرحلةٍ أكثر إشراقاً، ولا بد أن يكنَّ جاهزات لاحتلال المكانة التي يستحققنها، على حد تعبير عدد من الناشطات الرافضات اللواتي رفضن التصريح بهوياتهنّ خوفاً من انتقام المليشيات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه