عند كل مساء، أمسح مساحيق التجميل عن وجهي وأغيّر ملابسي الضيقة. أعيد رسم ملامح شخصية حسين (أنا المزيف) على وجهي وأمسح ما تبقى من آثار روزا (أنا الحقيقي)، أتأكد جيداً أن حسين مكتمل الهندام ونظيف الوجه والشعر قبل دخولي إلى المنزل حيث أقيم مع عائلتي في منطقة أكسراي في إسطنبول.
أترك روزا مرمية على السرير إلى جانب حبيبي مصطفى بملابسها الملونة الجميلة وضحكاتها الرنانة، وأغادر منزلنا أو عش الزوجية، لأعود حسين الشاب الحزين المتعب من اللهاث وراء إرضاء والده، والمحمّل بالعار والراضي بفتات الحب التي يحصل عليها من والدته.
بين حسين وروزا
عشت بين حسين وروزا ثلاث سنوات، تحايلت خلالها على الشكوك التي كان يحاصرني بها والدي كلما فلتت مني ضحكة عالية، أو حركة لا تتناسب مع مقاييسه للرجولة والشرف.
لعبت الدورين بإتقان وحرفية، فعشت على مزاج أبي داخل المنزل وعلى هواي خارجه، محاولاً عدم الخلط بين الشخصيتين، إلى أن صادفني ابن عمي في أحد النوادي الليلية في منطقة تقسيم، وعرف أن روزا التي كانت ممسكة بيد حبيبها هي أنا، زوج أخته.
صادفني ابن عمي في أحد النوادي الليلية في منطقة تقسيم، وعرف أن روزا التي كانت ممسكة بيد حبيبها هي حسين زوج أخته
بصق في وجهي أمام الجميع، ولم يتردد بشتمي وضربي، وصولاً حتى تهديدي بالقتل إن وطأت قدماي الأراضي السورية. وبالطبع، لم يتوان عن فضح ما رأى أمام والدي والعائلة.
تهديد بالقتل، حبس في الغرفة، ضرب بخرطوم المياه، شتائم جارحة وحرمان من الطعام والشراب... كلها إجراءات تأديبية كنت قد اعتدت عليها وحفظتها، فهي الأدوات الروتينية التي كان يستخدمها أبي لتربيتي ولـ"يجعل مني رجلاً"، لكن والدي لم يكتف بها هذه المرة، إنما اتصل بعمي، والد زوجتي، وطلب منه إرسالها وابنتي سماح من عفرين إلى تركيا.
كانت المرة الأولى التي لا أشعر فيها بالحقد والكره على زوجتي، فكمية الحزن وخيبة الأمل المحفورة على وجهها أجبرتني على التعاطف معها وأيقظت في داخلي مشاعر الذنب التي لم أعتدها سابقاً.
والدي أخفى عن أخيه كوني "نص رجال"
أتذكر زواجنا المدبر الذي خطط له أبي قبل سنوات بخبثٍ أخفى فيه عن أخيه كوني مثلي الجنس، وبأني حسب وصفه"نص رجال"، وأتذكر كذلك كيف أجبرني على الزواج والإنجاب في أسرع وقت وإلا قَتَل أمي لأنها حسب قوله لم تعرف كيف تربيني.
كنت في السادسة عشر عندما أُجبرت على الزواج، وفي السابعة عشر عندما أصبحت أباً لطفلة مجهولة المصير، فمنذ اللحظة الأولى التي سمعت فيها صوت بكاء ابنتي أدركت أنني لست كفوءاً لأكون أباً وبأن هذه الطفلة التي صارت ابنتي ستعيش في بيئة مريضة تجعلها تحكم مثل الباقين على والدها بالإعدام إجتماعياً.
كان الذنب الذي ارتكبته وقتها أنني اعترفت لابن الجيران بحبي له، فأخبر والدي فكان الحل تحطيمي والقضاء على مستقبل ابنة عمي وابنتي لـ"درء عاري".
ذنبي أنني ولدت بمشاعر مختلفة، وذنب زوجتي أنها ابنة عمي، أما ابنتي سماح فلا ذنب لها سوى أنها ولدت في هذه البقعة المظلمة من العالم.
كان عمر ابنتي عدة أشهر، عندما ضاقت بي الحياة، خاصة بعدما تم رفض عملي في عدة صالونات حلاقة و صار الجميع يعاملني على أني متحرش بالرجال، والفضل في ذلك إلى "حبي الأول"، ابن الجيران الذي تولى مهمة فضح ما حدث أمام الجميع.
كلمات أبي والعار الذي تسببت به للعائلة، نظرات زوجتي المغلوب على أمرها وهي تعاتبني لعدم قدرتي على القيام بواجباتي الزوجية معها، وبكاء ابنتي التي ولدت لا تسمع؛ مصائب أتت دفعة واحدة واتفقت على الانتقام مني، فاستسلمت لها. تركت كل شيء وهربت إلى تركيا.
بداية جديدة وحب جديد
في تركيا، لم يكن العثور على عمل في صالون سوري للحلاقة الرجالية صعباً على الإطلاق، فلا أحد هنا يعلم "قصة حسين الملطخ بالعار الذي أحب ابن الجيران". ولذلك عملت على إخفاء حقيقتي بحرص شديد، بت أختار ملابسي وتسريحة شعري ونبرة صوتي وحتى طريقة مشيي بعناية خوفاً من أن تطاردني سمعتي التي هربت منها، كما كنت أتحاشى الاجتماع مع أبناء الحي القديم أو أولاد الجيران الذين هربوا أيضاً من عفرين إلى تركيا.
"اختار لي مصطفى اسماً جديداً أبدأ معه بعيداً عن ظلم أهلي وكرهي لنفسي؛ فصرت روزا..."، قصة حسين وزواجه لـ"ستر العار" وهروبه من سوريا إلى تركيا والقتل الذي ينتظره عند عودته
"في إدلب، سأكون عاراً تُعيّر به ابنتي، وهناك أيضا ينتظرني أبي المُحمّل بأحقاده عليّ وعلى أمي التي أنجبت له لعنة كُتب عليه التعايش معها طوال حياته، وفيها أيضاً عمي وأولاده الذين يريدون القصاص"
نجحت لعدة أشهر في أن أكون حسين الذي يفخر به والده، إلى أن وقعت في الحب مجدداً، وهذه المرة أحببت زميلي في الصالون.
لم تنجح كل أدواتي التنكرية في إخفاء حبي لمصطفى، كنت أبكي طوال الليل على هذه اللعنة التي كُتبت علي. لماذا لا أستطيع التخلص من هذه المشاعر؟ لماذا لا أستطيع أن أحب زوجتي؟
بدأت همسات الزملاء وضحكاتهم تتعالى تهكماً على تصرفاتي التي يبدو أنها فضحت حقيقة مشاعري، فعندما يأتي مصطفى إلى الصالون كنت أتصرف وأتكلم بغباء العشاق، همسات الزملاء تحولت إلى سخرية علنية، وكلمات مهينة، أفقدتني السيطرة على نفسي وتصرفاتي، وتراجعت مهارتي في العمل، وبدأت أستحضر كل ما مررت به سابقاً.
كل الأشياء التي اعتقدت أنني تركتها في سوريا وأني نجحت في الهروب منها يبدو أنها لحقت بي إلى تركيا. تدهورت حالتي بشكل ملحوظ، وعملي بات على المحك إلى أن تدخل مصطفى ناهراً الزملاء الساخرين، ومعلناً أمام الجميع أنه يبادلني مشاعر الحب.
ولادة روزا
علّمني مصطفى أن أتقبل اختلافي، وأحب نفسي، وأن أسامح والدي وأهلي وحتى ابن الجيران الذي أحببته. علّمني أن الحب ليس عيباً، وأنني لست المثلي الوحيد في هذا العالم، وأنه لا داع للخجل من مشاعري.
تعرفت على مجتمع جديد لم تكن ميولي الجنسية فيه "عاراً" بحاجة إلى إخفاء، ولا مشاعري جريمة تستحق العقوبة والعزل. صرنا ننظم أنشطة ترفيهية وتوعوية، مع شباب وشابات مثليي الجنس من أعراق وجنسيات أخرى، وتعلمت الكثير عن حقوقنا كلاجئين و مثليي الجنس، كما أن إحدى الجمعيات الحقوقية التركية المهتمة بمجتمع الميم، تبنت الإشراف على رعايتنا النفسية والصحية، وعلى بناء ثقتنا بذواتنا، وبدأت أبني علاقة سلمية مع نفسي ومجتمعي.
اختار لي مصطفى اسماً جديداً أبدأ معه بعيداً عن ظلم أهلي وكرهي لنفسي؛ فصرت روزا التي ترتدي ما يحلو لها وتتكلم وتتصرف كما تحب، رميت ملابس وشخصية حسين المزيفة وراء ظهري وعشت كروزا مستمتعاً بحرية الحياة والمشاعر التي لم أجربها سابقاً.
بات بإمكاني المشي والتكلم والظهور بالشكل الذي أرغب به دون توقع ردات فعل سلبية أو نظرات تستنكر اختلافي، الأمر الذي جعلني أحب الحياة في تركيا، كما صرت أمتلك جرأة التعرف على أصدقاء جدد أجانب وأتراك ساعدوني على تعلم اللغة التركية والقليل من الإنكليزية.
لكن ابتسامة الحياة لم تدم سوى عدة أشهر، جاءت بعدها أسرتي إلى تركيا، بحثاً عن الأمان وأُجبرت بسبب ضيق حال عائلتي على العيش مع والدي في المنزل ذاته.
الترحيل إلى إدلب
رغم أنني كنت أحلم بعودة والدي وعائلتي إلى سوريا، خاصة بعدما قرر والدي الإمعان في معاقبتي واستقدم زوجتي وابنتي، إلا أن ترحيلهم إلى إدلب كان كابوساً حوّل حياتي إلى جحيم.
بعدما بدأت أتعرف بطريقة مختلفة على ابنتي سماح، وأرسم لها مستقبلاً خالياً من العار الذي سيلاحقها بسببي عندما تكبر، تم ترحيلها مع عائلتي من قبل السلطات التركية لعدم امتلاكهم بطاقة الحماية المؤقتة، فصفعتني الحياة مجدداً وحرمتني حتى من محاولة تغيير مصير ابنتي.
يصرّ والدي على عودتي إلى إدلب ليضمن بقائي تحت مراقبته، ضارباً بعرض الحائط الخطر الذي ينتظرني هناك، ومتحججاً بأن "تركيا تساعد على الفسق"
في الوقت ذاته، يصرّ والدي على عودتي إلى إدلب ليضمن بقائي تحت مراقبته، ضارباً بعرض الحائط الخطر الذي ينتظرني هناك، ومتحججاً بأن "تركيا تساعد على الفسق" وأنه أمّن لي عملاً في مجال البناء والإنشاءات مع عمي.
حاولت التواصل مع مسؤولين في جمعية "سبود" التي كانت تهتم بشؤون اللاجئين المثليين، إلا أن معظمهم تهرّب من تبني قضيتنا خاصة بعدما أكدوا أن لا سلطة لديهم على القرارات الأخيرة للسلطات التركية بترحيل السوريين.
كمن يعيش بين نارين
في تركيا أمشي متخفياً عن أعين الشرطة خوفاً من خطر السجن والترحيل في أية لحظة كونني لا أمتلك إقامة أو بطاقة حماية مؤقتة، ولذلك اضطررت أن أترك عملي وبدأت أعتمد على ما تبقى من المال الذي جمعته سابقاً أملا بالسفر مع ابنتي إلى أوروبا، وكنت قد أعطيت أكثر من نصفه لعائلتي.
وفي إدلب، سأكون عاراً تُعيّر به ابنتي خاصة بعدما انتقلت وأمها للإقامة في منزل عمي، وهناك أيضا ينتظرني أبي المُحمّل بأحقاده علي وعلى أمي التي أنجبت له لعنة كُتب عليه التعايش معها طوال حياته، وفيها أيضاً عمي وأولاده الذين يريدون القصاص.
كتبت هذه الشهادة لمى شماس بناء على مقابلة أجرتها مع حسين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...