في الإسكندرية، عروس البحر الأبيض المتوسط، وبالقرب من ميدان محطة الرمل الشهير، يقع المبنى التاريخي الفريد من نوعه "عمارة ميرامار"، نسبة إلى رواية الأديب المصري نجيب محفوظ، والتي تحولت إلى فيلم مهم حمل الإسم نفسه، وقامت ببطولته دلوعة السينما المصرية شادية (1931 – 2017)، وفي المكان عينه صور المخرج الكبير كمال الشيخ (1919 – 2004) العديد من مشاهد الفيلم الذي أختير ضمن أهم 100 فيلم قدمتها السينما المصرية.
ألّف محفوظ رائعته ميرامار في العام 1967، وتدور أحداثها في بنسيون (فندق صغير) سماه ميرامار، تديره سيدة يونانية الجنسية، ويعيش بالبنسيون عدد من الشخصيات المختلفة، لكل منهم تفاصيله التي تتشابه والتفاصيل الدقيقة التي تميز زخارف العمارة التي يقع فيها البنسيون.
في بداية الرواية كتب محفوظ عن الإسكندرية: "الإسكندرية أخيراً.. الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع". كما وصف العمارة بأنها "العمارة الضخمة الشاهقة تطالعك كوجه قديم، يستقر فى ذاكرتك فأنت تعرفه".
تحولت رواية محفوظ فيما بعد إلى فيلم يحمل الاسم ذاته "ميرامار"، لكن العمارة التي يشير إليها محفوظ والتي ستحمل فيها بعد اسم الرواية لم تكن تعرف بهذا الإسم، بل كان يطلق عليها عمارة بنسيون فؤاد، نسبة إلى الفندق الصغير القديم، الذي تحمل فيه الشقق في الطابق الثاني أرقام خمسة وستة وسبعة، وهو نفسه البنسيون الذي غيّر محفوظ اسمه إلى ميرامار في روايته، لأنه كان يعتبر الإسكندرية مساحة لامتزاج الثقافات المختلفة، فاختار اسماً أجنبياً للمكان، على عكس اسم فؤاد المحلي جداً والذي لا يعبر عن الإسكندرية.
تلك العمارة التي كانت تخطف أنظار كل الذين يسيرون على كورنيش الإسكندرية، مصممها هو المعماري الإيطالي المصري جياكومو أليسندرو لوريا، شيّدها في العام 1926، ومنذ بنائها والمصورون المصريون والأجانب مهتمون بالتقاط صور لها، حتى أن صورها تطبع حتى اليوم على البطاقات البريدية التذكارية التي تُعبر عن مدينة الإسكندرية.
ولم تكن عمارة ميرامار هي المبنى الفريد والمميز الوحيد الذي صممه لوريا، فقد قام أيضاً ببناء العمارة الملاصقة للمبنى، والتي تعود ملكيتها للقنصلية الإيطالية في مصر، كما صمم مبنى فندق سيسل، وهو أحد أشهر معالم ميدان محطة الرمل، إلى جانب مبانٍ مهمة أخرى أعطت الإسكندرية طابعاً مميزاً عن باقي المحافظات المصرية.
حين طلت شادية من بلكونة ميرامار
أما الفيلم المستوحى من رواية محفوظ فقد أنتج في العام 1969، وهو من بطولة الفنانة الراحلة شادية، وعبد المنعم إبراهيم، ويوسف وهبي، ويوسف شعبان. وفي الفيلم جسدت شادية دور زهرة، الفتاة الجميلة التي هربت من أسرتها، لأن أهلها أرادوا تزويجها من رجل عجوز لأجل ماله، وتأتي هي بالمصادفة إلى البنسيون لتخدم مجموعة من الرجال ينتمون إلى جيلين مختلفين ومشارب سياسية واجتماعية مختلفة.
رصيف22 يحاور جيهان حسن مالكة بنسيون فؤاد الذي استلهم منه الأديب نجيب محفوظ أحداث روايته “ميرامار”. ماذا قالت عن نجيب محفوظ، وعن البنسيون، وعن أبرز نزلائه من زمن الفن الجميل؟
تحكي جيهان حسن مالكة بنسيون فؤاد المعروف باسم "ميرامار" أن جدتها نفوسة اشترت البنسيون في العام 1956 من مالكته الأصلية كارلا، وهي سيدة يونانية كانت تعيش في الإسكندرية، وهي نفسها الشخصية التي استلهم منها محفوظ شخصية السيدة اليونانية ماريانا مالكة البنسيون في روايته ميرامار
وفي مقال لها تناول شخصية زهرة، بطلة ميرامار، تقول الأديبة الإسكندرانية وأستاذة الأدب العربي الحديث بجامعة جنيف سابقاً، فوزية عشماوي، إن شخصية زهرة تجسد الفلاحة المصرية التي تنزح من القرية إلى الإسكندرية فى بداية الستينيات، مضيفة أن محفوظ يعرض في الرواية الظروف الاجتماعية والدوافع وراء هروب زهرة من القرية الى المدينة، ولكنه لا يستخدم المذهب الواقعي أو المذهب الطبيعي التجريبي وإنما يستخدم المذهب الرمزي، ليس فقط في تصوير ورسم شخصيات الرواية، ولكن أيضاً في عرض مختلف الأوضاع والأحداث والتيارات الفكرية والسياسية في المجتمع المصري بعد ثورة الضباط الأحرار عام 1952 إذ هربت زهرة من القرية ونزحت إلى المدينة الكبيرة، الإسكندرية، لأنها رفضت الخضوع للتقاليد البالية، والزواج من رجل مسن وثري أراد أهلها أن يزوجوها له برغم إرادتها وهو ما يرمز بحسب عشماوي إلى الاستعمار الإنكليزي العجوز الذي طردته مصر ورفضت الخضوع له، على حد تعبيرها.
هنا بنسيون فؤاد
حين تزورون بنسيون فؤاد (ميرامار) لأول مرة ستلفت انتباهكم اللافتة الخشبية المميزة على بابه بالطابق الثاني من العمارة، وحين تطرقون الباب سيفتح لكم العامل، الذي تشبه ملامحه ملامح البنسيون العريقة، فأغلب العاملين في المكان بدأوا العمل منذ سنوات طويلة، وأعمارهم كبيرة. هم يشبهون المكان في عظمته وعراقته.
تقول مالكة اللوكاندة الحالية جيهان حسن لرصيف22 إنها ومن قبلها أفراد أسرتها حرصوا على الحفاظ على هوية البنسيون، ولم يغيروا ديكوراته، مؤكدة أن أغلب الزوار يأتون حتى اليوم بسبب تأثرهم بفيلم ميرامار ويتوقعون أن يجدوا البنسيون كما هو بدون تغيير، لذلك كان ضرورياً الحفاظ على كلاسيكية المكان، بحسب تعبيرها.
تحكي جيهان أن جدتها نفوسة اشترت البنسيون في العام 1956 من مالكته الأصلية كارلا، وهي سيدة يونانية كانت تعيش في الإسكندرية حينذاك، وهي نفسها الشخصية التي استلهم منها نجيب محفوظ شخصية السيدة اليونانية ماريانا مالكة البنسيون في روايته ميرامار.
تكشف جيهان لرصيف22 عن أن أفراد أسرتها حكوا لها كيف كتب محفوظ الرواية، ولماذا اختار هذا الفندق تحديداً ليجعله المكان البطل في روايته بقولها: "كان نجيب محفوظ يعشق الإسكندرية، وكان يحب احتساء قهوته في مقهى أتينيوس الملاصق للعمارة، وأثناء جلوسه في هذا المقهى شاهد كارلا، التي عرفته بنفسها وبأنها مالكة بنسيون صغير في العمارة، ودعته لزيارة المكان، وحينذاك أعجب بالمكان، وقرر أن يكون بطل روايته ميرامار".
تكمل جيهان التي لم تكن مولودة أثناء تصوير فيلم ميرامار أن أفراد أسرتها أخبروها أن تصوير أحداث الفيلم جرى في مدخل ودرج العقار ومصعد العمارة، وفي قلب ميدان محطة الرمل القريب من العمارة، مؤكدة أن أغلب المشاهد التي من المفترض أنها كانت داخل الفندق صورت في أستديوهات المؤسسة المصرية العامة للسينما وليست داخل الفندق مثلما يعتقد الجميع، إذ تم بناء ديكور يشبه البنسيون بدرجة كبيرة، مؤكدة أن بعض المشاهد القليلة الخاصة بالفنان يوسف شعبان والفنانة شادية جرى تصويرها داخل البنسيون الحقيقي خصوصاً تلك التي أظهرت بابه الحقيقي ونوافذه إلى جانب الدرج والمصعد الخشبي.
تضيف جيهان أن هناك ثلاث غرف في البنسيون تم تطويرها على الطراز الحديث بسبب أن بعض النزلاء لا يحبون الأسلوب الكلاسيكي، وبقيت سائر الغرف بلا تغيير.
وبحسب جيهان، فإن هناك فنانين كثراً من "زمن الفن الجميل" كانوا يفضلون الإقامة في البنسيون، خصوصاً أعضاء فرقتي نجيب الريحاني وإسماعيل ياسين، مثل ماري منيب وعبد الفتاح القصري وغيرهم، مؤكدة أنهم كانوا يأتون في الصيف.
وتؤكد جيهان أنها تلقت عروضاً، كثيرة لشراء البنسيون من رجال أعمال، لكنها رفضت أن تبيعه، لأنها تعتبر أنه أثر تاريخي مهم يجب أن يظل كما هو بلا تغيير هويته، لأنه من وجهة نظرها يعبر عن الإسكندرية حين كانت محطة لجميع الثقافات والجنسيات، قبل أن تتغير ملامحها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...