"جيتلك من محافظة تانية، متردنيش (لا تردني) مكسور"، جملة قالها رجل خمسيني وهو يحتضن مقام القطب الصوفي الشهير أحمد بن علي بن يحيي، الذي يدعوه المصريون اختصاراً بـ "السيد البدوي"، داخل مسجده الضخم بمدينة طنطا، في محافظة الغربية المصرية التي تبتعد عن القاهرة نحو 93 كيلو متراً.
رصيف22 زار المقام محاولاً رصد آراء رواده ومعرفة السبب الكامن وراء عشق المصريين للسيد البدوي وإصرارهم على السفر مسافات طويلة لزيارته والصلاة في المسجد الذي يحمل اسمه.
"وهو مين اللي يقدر ما يحبش شيخ العرب"، يقولها الحاج أحمد، الرجل الخمسيني، الذي يحكي لرصيف22 أنه حضر خصيصاً لزيارة المسجد من محافظة سوهاج التي يعيش فيها، مؤكداً أنه قضى أكثر من ثماني ساعات في القطار الذي نقله إلى مدينة طنطا، مضيفاً أنه تعوّد حب "السيد البدوي" منذ طفولته، حين كان يزوره مع والده.
"هنا كل الدعاء مستجاب بإذن الله"، هكذا يؤمن الحاج أحمد، الذي ينظر إلى المقام بكل حب، ثم يقول إنه لن ينسى أبداً حين كان ابنه مريضاً، وكاد يموت، فقرر أن يتركه في المستشفى حيث يعالج ويأتي إلى حبيبه السيد البدوي، ويصلي في المسجد، ثم يدخل إلى الضريح ويبدأ في دعاء استمر لأكثر من ساعة، طالباً من الله أن يشفي ابنه، وبعد ذلك عاد إلى محافظته، ليجد أن ابنه في صحة جيدة وخرج من المستشفى.
"الله الله يا بدوي جاب اليسرى"
البدوي، شيخ العرب، الملثم، أبو الفتيان، أبو العباس، أبو فراج، السطوحي، عيسوي المقام، القطب النبوي، باب النبي، بحر العلوم والمعارف، الصامت، القدسي، الزاهد، جياب الأسير، العطاب، ولي الله، ندهة المضام، محرش الحرب، أبو العباس، الأسد الكاظم، أسماء عديدة أطلقت على الإمام الصوفي، الذي ولد في العام 596 هـ في مدينة فاس المغربية، وتوفي في العام 675 هـ في مدينة طنطا المصرية.
يعدّ "السيد البدوي" ثالث أقطاب الولاية الأربعة لدى المتصوفين، وهو إمام الطريقة البدوية ذات الراية الحمراء، وقد أطلق المصريون عليه لقب البدوي لأنه كان يغطي وجهه باللثام مثل بدو الصحراء.
ينتهي نسب "السيد البدوي" من جهة أبيه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، وبعد سنوات من ولادته في مدينة فاس انتقل إلى مكة المكرمة مع أفراد عائلته، وكان في السابعة من عمره، وأثناء هذه الرحلة قضت عائلته ثلاث سنوات في مصر قبل الوصول إلى مكة، وهو ما جعل السيد البدوي يحب مصر برغم أنه كان طفلاً وقتذاك.
في سن الـ38، سافر الإمام إلى العراق مع شقيقه الأكبر حسن، ورجع بعد عام واحد إلى مكة، ثم قرر في العام نفسه الهجرة إلى مصر، وتحديداً إلى مدينة طنطا، لتعدو المكان الذي ينشر منه طريقته التي عرفت بالطريقة الأحمدية نسبة إلى اسمه.
يؤمن عشاق السيد البدوي بأنه صاحب كرامات عديدة، أشهرها أنه استطاع أن ينقذ الأسرى المصريين من أوروبا بعد أسرهم في الحروب الصليبية، وتقول الأسطورة إنه كان ينادي الأسير باسمه فيظهر في اللحظة نفسها في مصر، ولذلك انتشرت أغنية في التراث الشعبي المصري تقول كلماتها: " الله الله يا بدوي جاب اليسرى"، أي أن البدوي قد جاء بالأسرى.
ويقام للسيد البدوي احتفال ضخم في شهر تشرين الأول/أكتوبر من كل عام، لمناسبة مولده، الذي يعتبر أحد أكبر الاحتفالات الدينية في مصر بعد مولد الحسين، وفي مولده يتوافد نحو مليوني زائر من جميع أنحاء مصر إلى المسجد لحضور احتفال غالباً ما يحييه المنشد الصوفي الشهير ياسين التهامي.
"حبيب ربنا"
تقول آمال عبد اللاه، التي جاءت من القاهرة إلى طنطا لزيارة السيد البدوي إنه "حبيب ربنا" وتضيف أن من يحبه الله يجعل جميع الناس تحبه، هكذا ببساطة تفسر السيدة المصرية سبب عشق المصريين لشيخ العرب، وتكمل أنها هنا من أجل الدعاء لابنتها ياسمين التي تمر بظروف نفسية صعبة هذه الفترة، رافضةً أن تحكي تفاصيل أكثر، وبأمل شديد تقول: "أدعو الله في مسجد سيدنا البدوي أن يشفيها الله ويجعلها أفضل ويحقق لها كل ما تتمناه من خير في هذه الدنيا".
في تشرين الأول/أكتوبر من كل عام يشد عشرات الآلاف من المصريين الرحال إلى مدينة طنطا في محافظة الغربية من أجل حضور مولد "السيد البدوي"، أحد أشهر أئمة الصوفية. من هو هذا الرجل؟ ولماذا يعشقه المصريون إلى هذا الحد؟
وبرغم أن هناك باباً للسيدات في المسجد لفصل النساء عن الرجال، فإن البوابة الرئيسية المخصصة للرجال لا تمنع أي امرأة من الدخول، لذلك فإن المسجد مختلط، لكن غالباً ما تفضل النساء الجلوس في نهاية المسجد.
المسجد الأحمدي
مراحل عديدة مرت على مسجد السيد البدوي، أو المسجد الأحمدي كما يعرف رسمياً، فبعد وفاة أحمد البدوي في يوم الثلاثاء 12 ربيع الأول من العام 675 هـ، في مدينة طنطا التي كان اسمها حينذاك طندتا، خلفه تلميذه عبد العال، الذي قرر أن يبني خلوة كبيرة لعشاقه بجوار القبر، ثم تحولت سريعاً إلى زاوية للمريدين. بعد ذلك أمر علي بك الكبير الذي كان يحكم مصر ببناء المسجد والقباب والمقصورة النحاسية حول الضريح، وطلب من الأوقاف الإنفاق على المسجد وتطويره، حتى صار أكبر مسجد في طنطا.
وفي العام 1975، أثناء حكم الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، أدخلت توسعات مهمة على المسجد، وفي العام 2005، أثناء حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك تم تطوير المسجد، وبناء نافورة مياه أمامه.
وفي محيط المسجد توجد فنادق شعبية لمن جاء من محافظات بعيدة من أجل زيارة المسجد وقرر أن يقضي بضعة أيام في المدينة.
وأمام المسجد مباشرة، مقهى شهير اسمه المقهى الأحمدي، يجلس فيه زوار مقام السيد البدوي وهم يتناولون المشروبات الساخنة والباردة، كما تنتشر حول المسجد المحال التي تبيع الحلوى المعروفة في مصر باسم "المشبك"، والبسبوسة، والحمص ما يضفي على المزار أجواء احتفالية على مدار العام وكأنه عيد لا ينتهي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...