تعرّفنا الدقائق الأولى من فيلم "بيت النهرين" للمخرجة "مايا منير"، على أساطير الخلق في بلاد ما بين النهرين، ورؤيتها للعناصر التي يتشكل منها الكون، كذلك على بعض النصوص التي تروي حكاية الطوفان الذي عرفته تلك المنطقة. سيأخذنا هذا الفيلم، وعبر حكاية عائلة، للتعرّف على ديانة الصابئة المندائية، التي تُعتبر أول الديانات التوحيدية، والتي ما يزال أتباعها يتواجدون حتى اليوم في العراق وإيران. لكن أتباع هذه الديانة عانوا كثيراً من اضطهاد الديانات الأخرى ومن الحروب التي عرفتها المنطقة، هم الذين تحرّم ديانتهم عليهم القتال، ويُعتبر السلام وحده المقدس، ما أدى لوقوعهم ضحايا لأعمال عنف.
لقاء خاص مع الفنانة على موقع مؤسسة "اتجاهات" حول الفيلم:
البنية السردية في الفيلم ثلاثية: الخط الأول يعرّف المشاهد على الديانة المندائية وطقوسها وعاداتها، والخط الثاني يتابع حكاية عائلة الزهيري في الهجرة والإقامة في دمشق ويقربنا من أفكار الشخصيات، أما الخط الثالث، والذي يحتل أهمية خاصة، هو حكاية صراع سلام الزهيري بين دوره كرجل الدين الأخير في الطائفة، وبين تعلقه بفن النحت المحرّم على رجال الدين، حسب التعاليم.
يتابع الفيلم حكاية الزوج سلام الزهيري، والزوجة هناء، والأولاد نورا، أنور، ويوهان. على إثر أحداث العنف في العراق، انتقلت هذه العائلة إلى سورية العام 2004، لتستقر في ضاحية جرمانا، قرب العاصمة السورية دمشق. الثنائي الزوجي سلام وهناء التقيا في جامعة بغداد، حيث درسا في قسم الفنون، تزوجا وأنجبا، ثم لا يلبث سلام أن يتخذ مساراً دينياً يتدرج على إثره في موقع رجل دين للطائفة.
في مقاله عن الفيلم، كتب الناقد نديم جرجورة: "في الفيلم تداخل كبير بين خصوصية عائلة، وخصوصية طائفة. معاينة أحوال الطائفة يترافق مع متابعة أحوال العائلة".
لمحة عن الديانة المندائية
في كتاب المعجم الموسوعي للديانات والعقائد، دار الكتاب العربي، 1997، يكتب المؤلف د. سهيل زكار: "المندائيون الصابئة، طائفة دينية صغيرة في العراق وإيران تدّعي التحدّر من يوحنا المعمدان، وتعتقد أن أسلافها تحركوا نحو الشرق بعد سقوط القدس في 70 م. تنحدر ديانتهم من الغنوصية، وتؤمن بثنائية النور والظلام وانحباس النفس الروحانية في عالم الشر المادي"، بما معناه أن العالم المادي شر، والعالم الروحاني هو الخير والنور.
من الثابت أن الديانة المندائية تعود إلى ابراهيم، فقد آمن الصابئة المندائيون بتعاليم إبراهيم واحتفظوا بصحفه ومارسوا طقوس التعميد التي سنّها لهم، واستمروا عليها إلى يومنا هذا. وأتباعها يعتبرون أن آدم أول الأنبياء، وكلمة الصابئة إنما مشتقة من الجذر "صبا" والذي يعني باللغة المندائية اصطبغ، غُط أو غُطّس في الماء، وهي من أهم شعائرهم الدينية، وبذلك يكون معنى الصابئة أي المصطبغون بنور الحق والتوحيد والإيمان. كتابهم الديني المقدس المنزل عليهم يسمى الكنزا ربا "الكنز العظيم"، يسمى أيضاً سدرا ربا. وتبدأ جميع آيات كتب الصابئة بالبسملة التالية: باسم الحي العظيم.
هكذا يأخذنا الفيلم رويداً رويداً للتعرف على الشعائر الخاصة بهذه الطائفة، وأركان الديانة التي هي الصلاة: وتدعى بالمندائية "براخا" وتعني المباركة أو التبريكات. والصوم: ويسمى بالمندائية "صوما ربا" أي الصيام الكبير.
كلمة الصابئة إنما مشتقة من الجذر "صبا" والذي يعني باللغة المندائية اصطبغ، غُط أو غُطّس في الماء، وهي من أهم شعائرهم الدينية، وبذلك يكون معنى الصابئة أي المصطبغون بنور الحق والتوحيد والإيمانوالصيام في مفهوم الصابئة الديني هو الكفّ والامتناع عن كل مايشين الإنسان وعلاقته مع الرب. وركن الصدقة: وتسمى بالمندائية زدقا.
أما الصباغة: أو ما يدعى ب"مصبتا" باللغة المندائية، وهي أهم الشعائر والتي منها يأتي اسم الطائفة، فهي عملية التعميد بالماء والتي تعني الارتماس "الانغماس كليّاً في الماء" والتطهر بالماء الجاري، ويجب أن يتم في المياه الجارية والحية لأنها ترمز للحياة والنور الرباني. وللإنسان حرية تكرار الصباغة متى يشاء حيث يمارس في أيام الآحاد والمناسبات الدينية، وعند الولادة والزواج أو عند تكريس رجل دين جديد. وقد استمد المسيحيون طقس التعميد من هذه الديانة. ولأهمية المياه في شعائرهم، يطلق أتباع المندائية على نهر الفرات لقب: نهر الضياء، أو نهر النور. بينما نهر دجلة هو اسم مندائي، ويعني النهر الكاذب، وذلك لكثرة الوحول والطين المختلط بمياهه.
المندائية ديانة غير تبشيرية، أي أنها لا تسعى إلى نشر رسالتها، ورغم أن هذه الخاصية تمنحها طابعاً مسالماً وغير توسعي، لكنها صعّبت انتشار هذا الدين، ما قلل من أعداد أتباعه، لذلك كتب عنها د. زكار بأنها ديانة في طريقها إلى الأفول. لكن نموذج عائلة مثل عائلة الزهيري التي نتعرف عليها في الفيلم، توضح إمكانية استمرار الديانة، والحفاظ على تراثها الثقافي وكتبها المقدسة المكتوبة باللغة الآرامية والتي تشكل كنزاً ثقافياً إنسانياً.
المندائية ديانة غير تبشيرية، مثل بعض الطوائف الإسلامية كلإسماعيلية والنصيرية، أي أنها لا تسعى إلى نشر رسالتها، ورغم أن هذه الخاصية تمنحها طابعاً مسالماً وغير توسعي، لكنها صعّبت انتشار هذا الدين، ما قلل من أعداد أتباعه، كما أنّ الحرب في عيون أتباعها غير مقدسة، بينما السلام هو المقدس
وصل سلام الزهيري في تدرجه الديني إلى مرتبة "اشكندا" في المندائية، ما يحمّله مسؤولية المحافظة على الثقافة والشعائر المندائية، لكن الديانة تحرم على رجال الدين العمل في الفن، ومنه النحت الذي يعشقه الزهيري... هذه هي قصة فيلم "بيت النهرين" للمخرجة مايا منير
الحرب غير مقدسة، السلام هو المقدس
هذه واحدة من أفكار الحكمة في الديانة المندائية. وموضوعة الحرب والسلام هي محور لواحد من أهم حوارات الفيلم.
يجري الحوار بين الأب سلام الزهيري، وبين ابنه أنور. بينما الإبن يلعب لعبة فيديو قتالية حربية، نتابعها على الشاشة بما فيها من قتل وحرب ومعارك، يحاول الأب أن يذكّر ابنه بأن هذا النوع من الألعاب يفتح شهيته إلى الحرب، التي هي غير مقدسة بالديانة المندائية، بينما السلام هو المقدس. لكن الابن يجيب: "الحرب تتكرر منذ وجد الإنسان، وبالتالي فهي قانون للحياة لا يمكن التغاضي عن حضوره المتكرر في التاريخ"، ويتابع لعبة الفيديو الحربية.
بين الفن والالتزام الديني
الحكاية المثيرة للاهتمام التي يتابعها الفيلم، هي عودة سلام الزهيري إلى فن النحت بعد انقطاع دام 13 سنة. ورغم أنه يعمل على تمثال طيني بعنوان "الصرخة، هي صرخته لإيقاف النزف والتشظي الإنساني، ونداؤه لمنع اندثار هويته الحضارية، إلا أنه يعاني من صراع داخلي. لقد هاجر آخر رجل دين في الطائفة منذ زمن إلى كندا، ولم يعد هناك من يقوم بالشعائر المندائية التي تتطلب وجود رجل دين متدرب ومكلف لإقامة الشعائر. وقد وصل سلام الزهيري في تدرجه الديني إلى مرتبة "اشكندا"، ما يحمّله مسؤولية المحافظة على الثقافة والشعائر المندائية، لكن الديانة تحرم على رجال الدين العمل في الفن، ومنه النحت الذي يعشقه الزهيري.
إنها حكاية صراع بين الميل إلى الفن، والمسؤولية تجاه تراث إنساني يتمثل في ضرورة استمرارية وجود هذه الديانة، وتأمين استمرارية الشعائر لأتباعها. هذا الصراع بين الفن والإلتزام الديني، يشكل قسماً كبيراً من الفيلم، ويكون محوراً لواحد من أهم حواراته. يجري الحوار بين الأب وابنته نورا، التي تحب القراءة وتذكر قائمة بأسماء الكتب التي تعجبها "مهزلة العقل البشري، على الوردي"، "كتاب الطبيعة البشرية، على الوردي"، كتب تيارات التاو والحكمة. هذا الميل إلى القراءة يمكّن الفتاة من الحوار مع والدها بندّيّة.
تحاول نورا إقناع والدها بأهمية الأثر الذي يخلفه العمل الفني في الإنسان، وأن الفن يعمل على التوعية، وهي ترى أنه لا يمكن للدين أن يتعارض مع الفن الإنساني. تشجع والدها على تجاوز نظرة المجتمع، والانخراط أكثر فيما يحبه وهو تحقيق الأعمال النحتية. هذا يشجع الوالد على متابعة أعماله النحتية، وبلفتة ذكية، تقوده مخرجة الفيلم للقاء فنان تشكيلي محترف، هو الرسام والنحات فادي يازجي.
اللقاء بين رجل الدين الذي يحب النحت، والفنان المتخصص، يشكل محور حوار ثالث هام من حوارات الفيلم. حين يطلع الفنان يازجي على منحوتة "الصرخة" لـلزهيري ويخبره أنه ما يزال في بدايات الطريق، وأنه لم يعثر بعد على الأسلوب المميز له كنحات، يحثه على متابعة النحت، والتفكير بالعثور على أسلوب فني يميزه، على المغامرة أكثر، وعلى جرأة أكثر في تحقيق خصوصيته. في اللقاء يروي سلام الزهيري عن الصراع الداخلي الذي يعيشه بين التزامه الديني وحبه الفني.
في اللقاء الخاص مع المخرجة "مايا منير" على موقع "اتجاهات"، المؤسسة الداعمة للفيلم، تخبرنا عن المستويات البصرية التي بني عليها الفيلم: "يتكون على المستوى البصري من ثلاثة مستويات: المستوى الأول: المادة التسجيلية السينمائية والتي تمثل المكان والزمن الحاضر، زمن الأحداث. المستوى الثاني: هي مادة أرشيفية من فيلم صوره المخرج الراحل نبيل المالح عن الديانة المندائية، ليفارق الحياة قبل إكماله. تستعمل المخرجة هذه المادة المصورة عام 2012، كوثيقة سينمائية عن الطقوس المندائية. أما المستوى البصري الثالث: هي مادة فنية مصورة بتقنية Stop Motion، تجسد أمامنا بين الفترة والأخرى تماثيل من الطين، وتروي لنا بالتماثيل الطينية أسطورة الطوفان والهجرة".
أما عن موسيقى الفيلم فتكتب الناقدة لما طيارة: "الموسيقى ألفها خصيصاً للفيلم الفنان السوري سمير كويفاتي، فكانت عنصراً مكملاً للفيلم وأساسياً وجذاباً، خاصة أن المؤلف كان أميناً حين عاد إلى أصول تلك الموسيقى عند الصابئة الإيرانية، ووجد أن إيقاع الصبي كلحن هو الأقرب إليهم، مستعيناً بالناي السومري الرافدي الأقرب إلى "الدودك" أو المزمار الأرمني، فأرسل النوتة لإعادة عزفها في أرمينا لتكون مناسبة جداً للفيلم".
حكمة الديانات، رحلة الهجرة والتنقل من موطن إلى آخر، الحرب والسلام، والصراع بين الدين والفن، هي الموضوعات التي تميز فيلم "بيت النهرين" للمخرجة "مايا منير". الفيلم يقدم في حكاية واحدة، نموذجاً للنقاش في كل هذه القضايا الهامة، ما يجعله فيلماً كثيفاً بالمعرفة، ومحفزاً ذهنياً للجدل في العديد من الموضوعات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...