شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
في ذكرى ميلاد محمد عبد المطلب… حكاية الفتوة المطرود من

في ذكرى ميلاد محمد عبد المطلب… حكاية الفتوة المطرود من "كازينو بديعة"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 13 أغسطس 201907:15 م

كأنك في حضرة وليِّ أمرك... لا تملك إلا أن تطيع صوته وتعطّل معه تمرّدك... صوت لا يمكن وصفه بالمسموع بل بالمتذوَّق، وأظن أن أقرب توصيفٍ لطعم صوت محمد عبد المطلب أنه يشبه الإفطار بعد الصيام، ولعل هذا ما ربط صوت الرجل في وجدان العرب بالإعلان عن هلال رمضان من كل عام، عبر أغنيته الاستثنائية "رمضان جانا"، والتي جرّأه نجاحها المذهل ذات مرّة ليقول عنها أنها "أهم من بيان المفتي".

ليس أنيق المظهر كـ"عبد الوهاب" ولا "سوقياً" كمُطربي الانفتاح... هو صوت أبيك، حتى لو لم يعجبك صوته الآمر، لكنك تأنس به وله، ويسلّيك إنْ غابت أمُّك كأنه دفء مستعار منها. لن تبكي وأنت في حضرة صوت عبد المطلب... فلن تنزل دموعك معه ولن تجف... أنت في منطقةٍ وسطى كانحباس الدمع في مواويل الحكمة التي اشتهر بها "المطرب صاحب العلامة الفريدة".

كان جدول الإذاعة المصرية يخصّص يوماً لكل مطرب من الكبار، فكان يوم الخميس محجوزاً باسم سيدة الغناء، أم كلثوم، وكانت تسبقها بيوم، فقرة عبد المطلب، وكان الجمهور يعتبر "الست" ليلة الفرح و"عبد المطلب " ليلة الحنة الشهيرة في فولكلور الأفراح المصرية.

إن البحث والتأمّل في خفايا هذه التجربة الغنائية المصرية، المسماة بـ"طِلِب" بكسر أول حرفين، تحملك إلى عالمٍ منغلق السرِّ كحبة جوز، لا تدرك تماماً تحت أي مبرّر يأسرك عبد المطلب وهو يغني "شُفت حبيبي"، من ألحان السنباطي، فتذوب ذوبان العاشق، ولا تدري سبباً للبهجة التي تندفع من صوته كرشقة سكين، تصيبك ولا تقتلك، وهو يغني "اعمل معروف"، من ألحان موسيقار الأجيال، فترقص وتدور في حضورٍ طاغٍ لـ"أبو نور"، كما كان يحب أن يناديه الناس في الشارع.

"شوك ومطر وتراب وجوع وملح، وفي الآخر السكر بقى..؟ كله سكر دلوقتي".. و"أجبرت نفسي أكون عبد المطلب".. جملتان ربما تفتحان قليلاً من أسرار واحدٍ من "مغنواتية مصر"، نطق بهما عبد المطلب في برنامج "حديث الذكريات" مع الإعلامية أمينة صبري، وهو يتحدّث عن مشواره الطويل مع الغناء، فالرجل يدرك تماماً أنه لا يجب أن يستعير صوت أحدٍ ولا أداء أحد، يجب أن يكون نفسه التي تستحق أن توجد ويكون نسخته الأصلية التي ينسخها الناسخون من بعده.

وصل محمد عبد المطلب عبد العزيز الأحمر إلى القاهرة عام 1925، قادماً من مسقط رأسه في البحيرة، إحدى محافظات غرب دلتا النيل، وكان عبد الوهاب وقتئذ هو نجم نجوم المرحلة، وكعادة الفلاح المنطلق في أرضه، لم يكن يحب أن يدرس قوانين الغناء بقدر ما يحب أن "يغني والسلام" تحت شعار "اتركوني للناس.. صوتي لهم وللفضاء الواسع".

ولعل أهم تدريبٍ تلقاه لكي يصبح صوته "صاحب مساحات" كان على يد الملحن اليهودي المصري الرائد، داوود حسني، الذي أمره أن يؤذّن الفجر يومياً في جامع من الجوامع، لتطويع الأحبال الصوتية على تمرينٍ يومي في ساعات النهار الأولى بعد الاستيقاظ، وبالفعل واظب "طلب" على ذلك لمدّة عامٍ كامل، فكانت مكافأته الكبرى أن لحن له داوود حسني أغنية "وديني بلد المحبوب"، ورغم أن صوته كان يعطي طابعاً أنثوياً في مرحلته الأولى، لا تتعجب كثيراً فقد كان لا يزال صغير السن، فإن ترديد اسمه قبل بدء الأغنية في الأسطوانة كان يؤكّد وجوده كذكر... من هذه الذكورة الاسمية يبدو أن "عبد المطلب" قد أصابه التطرّف في صوته وشكله فيما بعد مرحلته الأنثوية تلك، ليعبّر بغلظة الذكر ونطقه في أغنياته ليصير هذا وسمه وأسلوبه المميز، منذ أن صار صوته علامة تجارية لا تخطئها الآذان.

البدايات دائماً ما تكون أنثوية ولو كرهت جميع الديوك، التي تظن أنها تُطلع الفجر من حنجرتها كما تقول الأساطير.

ولمزيدٍ من الذكورة يعبر عبد المطلب بنفسه إلى عالم الفتوّة والقوة، لكن هذه المرة عبر قصّة حب ملؤها الغيرة والدفاع عن محبوبته، التي كانت امرأةً "هزّت عرش مصر"، ولها قصة يجب أن تروى... يقول الراوي إن حكمت فهمي، تلك الفتاة التي كانت تعمل راقصة في "كازينو بديعة مصابني"، الجامعة التي أخرجت لمصر كثيراً من موهوبيها، استطاعت أن تفرض سلطانها على كبار رجال الدولة، ووصلت شهرتها إلى حد طلب "هتلر" و"موسولينى" مشاهدة رقصها، وهي الراقصة نفسها، التي تعاونت مع الألمان ضد الإنجليز في واحدةٍ من أشهر قضايا الجاسوسية في العالم، والمعروفة بعملية "كوندور"... واتهمت فيها "حكمت" مع الرئيس الراحل أنور السادات وصديقه حسن عزت، وسجنت بسببها الراقصة الشابة لكنها لم تعترف على شركائها بدافع وطني، وظلت في سجن المنصورة على ذمة القضية لمدة عامين ونصف العام، حتى أفرج عنها لتعود إلى ممارسة الرقص لسنوات قليلة، أدركت فيها أن الزمن تغير، فيما وصل السادات بعد سنوات قليلة هو وزملاؤه من تنظيم "الضباط الأحرار" إلى حكم مصر. وذلك وفقاً لمصادر عديدة، منها كتاب "البحث عن الذات" (1978) لأنور السادات وغيرها من الكتب.

يأسرك  وهو يغني "شُفت حبيبي"، فتذوب ذوبان العاشق، ولا تدري سبباً للبهجة التي تندفع من صوته كرشقة سكين، تصيبك ولا تقتلك، وهو يغني "اعمل معروف"، فترقص وتدور في حضورٍ طاغٍ لـ"أبو نور"، كما كان يحب أن يناديه الناس في الشارع

ولعل أهم تدريبٍ تلقاه كان على يد المحلن اليهودي المصري، داوود حسني، الذي أمره أن يؤذّن الفجر يومياً في الجامع، لتطويع الأحبال الصوتية في الساعات الأولى بعد الاستيقاظ. وقد واظب على ذلك، فكانت مكافأته أن لحن له داوود حسني أغنية "وديني بلد المحبوب"

لم تكن حكمت فهمي هنا إلا راقصة أحبها محمد عبد المطلب، المطرب الناشئ في "كازينو بديعة"، التي روت قصّة الحب التي جمعت "حكمت" بـ"طلب" وهي تحذّر المطرب محمد فوزي، الناشئ هو الآخر في فرقتها، من الوقوع في غرام صديقة له بالكازينو: "مصيرك هيكون زي عبد المطلب وهاطردك"..

كانت حكاية طرد عبد المطلب بعد أن حاول زبون مغازلة الراقصة الشابة، فترك الفتوّة عبد المطلب المسرح الذى يغنى عليه، وذهب إلى الزبون وأهداه "روسية مصري" أسقطته جريحاً، وتم القبض على "طلب" ونقل إلى قسم شرطة الموسكي بوسط القاهرة ليبيت به ليلته، متهماً بفتح رأس أحد زبائن "كازينو بديعة"، التي ما إن عاد إليها العاشق الفتوّة بعد أيام الحجز، حتى أخبرته بأنه "مطرود"..

لا مكان للعشاق هنا يا صديقي المؤذّن، اذهب إلى مواويلك يا سيد المواويل.. مكانك في تاريخ الغناء أيقونة منقوش عليها "صُنع في مصر".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image