أثارت كثرة المتقدمين بطلبات ترشح للانتخابات الرئاسية التونسية جدلاً واسعاً بين مَن رأى فيها نجاحاً للتجربة الديمقراطية الضامنة للتعددية وممارسة الحقوق الدستورية، وبين مَن انتقد ما اعتبر أنه "حركات بهلوانية" لا تكتسي أية أهمية بل تسيء إلى منصب الرئاسة.
كان ذلك مع تداول أسماء عشرات قليلة من المترشحين. ولكن مع انتهاء مهلة تقديم طلبات الترشيح إلى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، تضاعف العدد، مع تسجيل 42 ملفاً جديداً في اليوم الأخير، في التاسع من آب/ أغسطس ليصل العدد الإجمالي إلى 98.
عبد الحميد عمار... إلى الواجهة بمساعدة "صورة"
عاد الفنان التشكيلي عبد الحميد عمار (68 عاماً) إلى الواجهة مجدداً في الفترة الأخيرة بسبب صورة التُقطت له وهو يبكي أثناء إلقائه نظرة الوداع على الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في 27 تموز/ يوليو الماضي.
ظهر في الصورة مرتدياً ملابس "رثة"، هو الذي يعيش شبه مشرّد ويقول إنه لا يهتم بمظهره الخارجي ويصبّ اهتمامه على الفن، ما أثار امتعاض الكثيرين من التونسيين الذين رأوا فيها دليلاً على وضع الفنان التونسي المهين، فتداولوها بشكل كثيف على وسائل التواصل الاجتماعي.
لم يخطر على بال أحد أن عمار سيتقدم بأوراق ترشحه لرئاسة الجمهورية. الآن، يقول الفنان التشكيلي لرصيف22 إنه يحمل برنامجاً جدياً يسعى من خلاله إلى إيلاء الثقافة والتراث التونسي أهمية كبرى بالإضافة إلى العمل على خلق شراكات اقتصادية جديدة تمكن اقتصاد تونس من النهوض.
برغم ظرفه الاقتصادي القاسي، يشير عمار إلى أنه، بحال ترؤسه تونس، سيتبرّع براتبه لصناديق تُعنى بتطوير منظومة الدفاع التونسية وكذلك لذوي الاحتياجات الخاصة والعاطلين عن العمل.
ولكن، في ظل الصراع المحتدم الذي سيشهده الاستحقاق الانتخابي الذي تجري دورته الأولى في 15 أيلول/ سبتمبر، لن يكون عمار من الأسماء البارزة، أولاً لأنه مستقل ولا يحظى بدعم أحزاب سياسية، وثانياً لأن عامة الشعب لا يعرفون مواقفه من القضايا التي تهمهم.
"حركات بهلوانية"؟
تتباين آراء التونسيين حول تقييم كثرة عدد الترشيحات وحول مدى جديتها. هناك مَن يعتبر أن كثيراً منها أشبه بـ"حركات بهلوانية".
يعتبر عضو المجلس الوطني في حركة ''تحيا تونس'' (حزب رئيس الحكومة) مصطفى بن أحمد أن القانون الانتخابي الحالي تسبب في "تقزيم دور كرسي الرئاسة"، ويضيف لرصيف22 أن هناك ترشيحات غير جدية و"هناك حتى مَن يرتبطون يشبهات فساد وتهرب ضريبي بين المرشحين".
ولكن بن أحمد يستدرك أن حق الترشح يبقى من بين الحقوق التي يكفلها الدستور والتي لا يمكن السماح بالمساس بها.
ترشيحات كثيرة أثارت استغراب التونسيين بل حتى امتعاض بعضهم. حالة عبد الحميد عمار من بينها إذ تعجّب كثيرون من ترشح شخص ظهر قبل أيام على هيئة مشرد ويقول الآن إنه سدد قيمة الضمان المالي الذي تضعه هيئة الانتخابات ويبلغ 10 آلاف دينار بعد تكريمه من قبل وزارة الثقافة، إثر انتشار صورته المذكورة.
عمار ليس الحالة الوحيدة التي أثارت الاستغراب. سخر التونسيون من المرشح فتحي الكريمي الذي تعهد بإلغاء الأحزاب بحال فوزه، كما سخروا من المرشح علية حمدي الذي ادعى أنه وراء وصول الرئيسين الأمريكي السابق باراك أوباما والفرنسي السابق فرانسوا هولاند إلى الحكم، ومن المرشح محمد أمين العقربي الذي توعّد فرنسا بإعادتها إلى حجمها الطبيعي.
كذلك، استغرب التونسيون ترشح سليم الرياحي الموجود خارج البلاد والصادر بحقه أمر اعتقال في قضية شبهة فساد مالي رفعتها أطراف ليبية ضده.
أما "الطامة الكبرى"، برأي البعض، فكان خروج الفنانة الاستعراضية نرمين صفر، في هذه الأجواء، لتعلن نيتها الترشح ولتطالب بمنح المرأة ثلثي الميراث.
وتعلن الهيئة العليا للانتخابات قبل 31 آب/ أغسطس أسماء المرشحين النهائيين لهذه الانتخابات.
في ظل هذا الواقع، انتقد البعض القانون الانتخابي، وطالب بضرورة إعطاء الأولوية للمرشحين عن الأحزاب والمنظمات. هذا ما يؤيده مؤسس حزب ''تونس بيتنا'' والمرشح فتحي الورفلي.
يقول لرصيف22 إن حزبه تقدم بمبادرة تهدف إلى تعديل القانون الانتخابي بما يسمح بتنظيم مسألة الترشيحات، مشيراً إلى أن حركة النهضة عارضت في السابق هذه التعديلات وأقصت الوزير الذي كان بصدد دراسة الموضوع وهو وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان مهدي بن غربية.
ويفسر المحلل السياسي والصحافي المختص في الشأن البرلماني سرحان الشيخاوي كثرة الترشيحات بغياب الرؤية الواضحة لدى الفاعلين السياسيين الحاليين، ويقول لرصيف22 "إن ضبابية المشهد السياسي في تونس جعلت كافة الفاعلين السياسيين يعوّلون على إمكانية الفوز أو على الأقل العبور إلى الدور الثاني".
ويضيف أن عدداً كبيراً منهم "يعلمون مسبقاً أن حظوظهم منعدمة، وبالرغم من ذلك يصرّون على تقديم مطالبهم، إذ يبحثون عن البروز في الواجهة والحضور الإعلامي فقط".
وبحسب الشيخاوي، "هناك نوايا مبيتة لضرب مؤسسات الدولة خاصة رئاسة الجمهورية متهماً "جهات ترغب في ضرب رمزية رئاسة الجمهورية" بدفع البعض إلى الترشح.
دليل على نجاح التجربة الديمقراطية؟
في المقابل، يذهب قسم آخر من التونسيين إلى أن كثرة الترشيحات تنم عن نجاح التجربة الديمقراطية في تونس.
يشير المرشح عن إئتلاف الجبهة الشعبية حمة الهمامي إلى أن كثرة الترشيحات "تبقى أفضل من أن يعيش التونسي مرارة الإقصاء وحرمانه من حقوقه الدستورية"، مضيفاً لرصيف22 أنها "دليل جديد على نجاح التجربة الديمقراطية رغم ما تعانيه البلاد من صعوبات اقتصادية وما مرت به من أزمات سياسية واجتماعية".
ويعتبر الهمامي أن كثرة الترشيحات ليست ظاهرة دخيلة على التجارب الديمقراطية، لافتاً إلى أنه في أعتى الديمقراطيات تكون الترشيحات كثيرة حتى تقع "غربلتها" في الدور الأول.
مرشح يتعهد بإلغاء الأحزاب، آخر يدّعي أنه وراء وصول باراك أوباما وفرانسوا هولاند إلى الحكم، وثالث يتوعّد فرنسا بإعادتها إلى حجمها الطبيعي... هل كثرة المرشحين للانتخابات الرئاسية التونسية دليل على نجاح الديمقراطية؟
مشهد الانتخابات الرئاسية في تونس... "ارتفاع عدد ﺍلترشيحات أﻣر إيجابي حتى ولو كان بعضها مبتذلاً ومدعاة للسخرية. وتصوير ﻣﻨﺼﺐ اﻟﺮﺋﺎﺳﺔ ﻛﺄﻣﺮ ﻟﻴﺲ ﺣﻜﺮاً ﻋﻠﻰ ﻧﺨﺒﺔ ﻣﻌﻴّﻨﺔ ﻳﻜﺴﺮ ارتباطها ﺑﺎﻻﺳﺘﺒﺪاد"
وإذا كان النائب عن حركة النهضة عبد اللطيف المكي ينتقد القانون الانتخابي ويعتبر أنه من الضروري إجراء تعديلات عليه لحصر وتنظيم الترشيحات، إلا أنه يقول لرصيف22 إن "كثرتها لا تمثل مشكلة بل تشكل نقطة مضيئة لأنها تمنح التونسي الحرية في ممارسة حقوقه الدستورية".
ويذهب الناشط الحقوقي علاء الخميري إلى ما هو أكثر من ذلك. يقول لرصيف22 إن عدد ﺍلترشيحات المرتفع أﻣر إيجابي حتى ولو كان بعضها "مبتذلاً ومدعاة للسخرية".
ويعتبر أن تصوير ﻣﻨﺼﺐ اﻟﺮﺋﺎﺳﺔ والترشح له ﻛﺄﻣﺮ ﻟﻴﺲ ﺣﻜﺮﺍً ﻋﻠﻰ ﻧﺨﺒﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺃﻣﺮ إﻳﺠﺎﺑﻲ و"ﻳﻜﺴﺮ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ اﻻﻋﺘﺒﺎرﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻄﺎﻟﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻻﺳﺘﺒﺪﺍد" ومحصورة "بأطاف وﻟﻮﺑﻴﺎت ﻣﺤﺪدة".
ولكنه لا ينسى أن يلفت إلى اﻟﻜﻢ اﻟﻬﺎﺋﻞ ﻣﻦ اﻟﻤﺎل اﻟﺴﻴﺎﺳﻲ الذي يمتلكه البعض وماكينة الدعاية التي تحركها بعض الأﺣﺰاب واﻟﻤﺮﺷﺤﻴﻦ، بشكل "يمس ﻣﺒﺎﺷﺮة بمبدأ اﻟﻤﺴﺎواة ﺑﻴﻦ المرﺷﺤﻴﻦ واﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ ﻋﻤﻮﻣﺎً" ويمنح البعض ﺣﻈﻮظاً أوﻓﺮ ﺑﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺑﺎﻗﻲ ﺍﻟﻤﺮﺷﺤﻴﻦ بدون أن يعكس ذﻟﻚ ﺣﺘﻤﺎً ﻗﻴﻤﺔ برنامج ﺍﻟﻤﺮﺷﺢ.
الصراع الجدّي
يشتد الصراع الجدي في تونس بين مجموعة قليلة من المرشحين.
حركة النهضة وقفت في البداية تتمعن المشهد ثم أعلنت في 6 آب/ أغسطس ترشيحها الشيخ عبد الفتاح مورو (71 عاماً) الذي يشغل حالياً منصب رئيس البرلمان مؤقتاً.
ومثل ترشيح مورو انتكاسة لبعض المرشحين الذين كانوا يسعون إلى كسب ود الحركة وقواعدها التي من المنتظر أن تتشتت أصواتها بين مورو وبين رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي وكذلك الرئيس المؤقت السابق المنصف المرزوقي.
وأثار ترشيح مورو تساؤلات عن أسباب اندفاع الحركة في الاستحقاقين الانتخابيين الرئاسي والتشريعي، هي التي كانت قد رشحت زعيمها راشد الغنوشي للانتخابات التشريعية وقيل إن هدفها إيصاله إلى رئاسة البرلمان، وثارت مخاوف لدى قواعدها من تكرار السيناريو المصري.
من جهتها، أعلنت حركة نداء تونس التي أنهت تجربة التوافق مع النهضة قبل وفاة مؤسسها الرئيس السابق الباجي قائد السبسي دعمها لوزير الدفاع الوطني السابق عبد الكريم الزبيدي لخوض غمار الماراتون إلى قصر قرطاج.
إلى جانب هؤلاء، يبرز اسم رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد ورجل الأعمال ومدير قناة نسمة نبيل القروي الذي اتخذ في البداية من العمل الجمعياتي واجهة للترويج لاسمه، ورئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة.
كما يدخل مرشحون آخرون على خط المنافسة على غرار رئيسة الحزب الحر الدستوري عبير موسي التي تتبرأ من المنظومة السياسية الحالية، وهو موقف يضعها في مركز جيد، بالإضافة إلى مرشح الجبهة الشعبية حمة الهمامي.
يحتدم السجال. وأياً تكن النتيجة، تنتظر ساكن قصر قرطاج الجديد تحديات جمة على رأسها التخفيف من حدة الانقسامات التي تطغى على المشهد السياسي وتنقية الأجواء والتنسيق مع باقي السلطات للمضي بالبلاد قدماً اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...