نحن في القرن الحادي والعشرين والنساء ما زلن يتعرّضن للعنف اللفظي والنفسي والجسدي والجنسي… بحثت كثيراً عن طريقةٍ لبدء حديثي، ولم أجد أكثر من هذه المقدّمة القاسية. نتخبّط كثيراً في محاولات سيرنا نحو ما نعتقد أنه سيحرّرنا كنساء، ويُكسبنا كرامة العيش ورفعة الحرية، في أغلب الأحيان يصعب أن نقرّر الطريق الأفضل للوصول لما نريد، لذا نقوم بالتجريب، نخسر ونكسب، ندفع أثماناً باهظة ونكسب معارك بالمقابل، إلا أنه لا يمكن الحكم على نتائج الرحلة قبل انتهائها، ولا يمكن أن تُقاس تجربة بناءً على تجارب أخرى ولو كانت مشابهة.
ثمة ما تحتاجه الواحدة منا عندما تفكر في أن تبدأ معركتها المعنونة "الطريق نحو الحرية"، سواء أكان الخصم هو المجتمع، العائلة، العرف والتقاليد، الدين، الزوج أو الأبناء، إن للمعارك ناسها، وهذا يعني أن الجميع في لحظة تحضيره لبدء المعركة يحتاج لدليلٍ؛ نموذجٍ يشكّل الأمان والشجاعة والإصرار، مثل تجربة تحرّر قامت بها امرأة بكل شجاعة، وبأبوابٍ مفتوحة واستعداد للخسارة قبل الربح، إن التفكير في نماذج متحررة تسلّحت بالصبر والنفس الطويل وفازت بكرامتها الحرة بعد معركة صعبة، هي عنوان أمل بالغد لكل امرأةٍ مقيدة.
الجريمة والنفي المجتمعي
يُعدّ هروب المرأة في المجتمعات العربية جريمةً، ويعاقب عليها المجتمع والعائلة بقتل المرأة أو إعادتها إلى السجن الذي فرّت منه، ومحاولات الإعادة هذه تتمثل الآن في قضية هروب الأميرة هيا بنت الحسين، الأخت غير الشقيقة للعاهل الأردني، رغم أنها فرّت مع أولادها لبريطانيا طلباً للحماية، من زوجها أولاً، ومن الزواج القسري الذي كانت ستتعرّض له طفلتها. تُنتهك حقوق النساء وتُسلب حرياتهن وكراماتهن حتى ولو أصبحت إحداهن في المسمّى الدولي: زوجة الحاكم أو الرئيس، إن رحلة البحث عن الأمان النفسي أولاً هي الدافع الأكثر تكراراً لمحاولات النساء الهرب من بيوتهن.
في اللحظة الأولى لانتشار خبر هروب الأميرة استنكرتُ: ماذا تريد أميرة؟ عمَّ تبحث المرأة القادرة على حماية الغير؟ ما الذي يجعل امرأةً تمتلك قدرةً مادية هائلة بحاجة للفرار؟
تشغل قصة الأميرة هيا نسبة كبيرة من أحاديث الأردنيين والأردنيات في مواقع التواصل الاجتماعي، من لحظة انتشار خبر هروبها إلى اللحظة الراهنة، المُلفت والمُفرح هو الإيمان الواضح من قبل الشعب أن الأميرة قامت بفعلٍ صحيح تماماً، رغم أن تفاصيل الحادثة وأسباب طلبها للحماية لم تتضح إلا مؤخراً.
وسط صمتٍ من العائلة الهاشمية وعدم التصريح بأي شيء عن القصة، كان الشعب الأردني ينشر صوراً للأميرة ويدعو لها، ويعبر عن حبه واحترامه للمرأة القوية القادرة على ترك مكان مهما كان الثمن، لست متأكدة من أن الاحترام الواضح للحريات ولكرامة العيش يتعلّق بكون الهاربة أميرة أردنية، لكنني أعتقد أننا وصلنا لمرحلة لم يعد بوسع أحدنا أن يؤمن بشيء قبل أن ينتزع حريته.
تشغل قصة الأميرة هيا نسبة كبيرة من أحاديث الأردنيين... منذ لحظة انتشار خبر هروبها، المُلفت والمُفرح هو الإيمان الواضح من قبل الشعب أن الأميرة قامت بفعلٍ صحيح تماماً
الطريق الوحيد لحصول المرأة على حريتها هو بيدها هي، وأكبر ما يمكن أن تحصل عليها إيجاباً هو تعاطف الناس العاديين معها، أما ما يمكن أن تحصل عليها سلباً فهو الصمت الرسمي عن الحديث في قضيتها
ثمن حريتك تدفعينه يومياً
متابعة قصة الأميرة كانت تتم من خلال وسائل إعلام بريطانية، وتبين أن الأميرة طلبت الحماية لها ولطفلتها وطفلها، وأصبحت الآن قضية حقوقية تُدار ويُحكم بها في بلد قوانينه مدنية وحديثة، لا بيوت طاعة فيه ولا تعديات قانونية على الأفراد يمكن أن يسمح بها. ظهرت يوم الأربعاء الماضي، 31 يوليو 2019، صورة للأمير على بن الحسين مع شقيقته الأميرة هيا من بريطانيا، كانت الصورة المنشورة تعني أن الأميرة لم تخسر شقيقها، وكان من الملفت انتشار الصورة عند الجميع بدون مبالغة، وكأن الأردن احتفل بقصة هيا وانتصارها على فكرة النبذ العائلي الكامل بعد انتشار صورتهما.
أثمان الحريات باهظة جداً، تدفعها النساء في مراكز القوى قبل أن تدفعها النساء العاديات
أثمان الحريات باهظة جداً، تدفعها النساء في مراكز القوى قبل أن تدفعها النساء العاديات، ورحلة دفع الأثمان تصل أحياناً إلى مشارف الموت ومنها إلى ما بعد الموت، لهذا السبب إن قيمة الحرية مساوية لقيمة الحياة بالضبط؛ كل قصص النساء الهاربات احتوت تفاصيلها على تهديدٍ مباشر لحيواتهن، إن كان بالحبس أو الابتزاز أو التزويج القسري أو العزل، إلخ… ومن الفرضيات التي في طريقها للإثبات الآن أن التنكّر للحديث في قضايا الحقوق قد طال قصص هروب الأميرات، وأن المؤسسات الحقوقية التي ترعى النساء ومشاكلهن، مثل مؤسسة حماية الأسرة، لم تقدم تصريحاً واحداً عما جرى مع الأميرة هيا، وكذلك منظمات المجتمع المدني وتجمعات النقابات والأحزاب، كل ما يحدث يعني أن الطريق الوحيد لحصول المرأة على حريتها هو بيدها هي، وأكبر ما يمكن أن تحصل عليها إيجاباً هو تعاطف الناس العاديين معها، أما ما يمكن أن تحصل عليها سلباً فهو الصمت الرسمي عن الحديث في قضيتها.
ثمة قصص تنتشر يومياً عن بشر مُعنَّفين ومسلوبي الكرامة والحرية. ولا رسائل تفكر فيها المرأة التي تنسلخ عن واقعها وتهرب، إننا نحن، من نبحث عن الرسائل والتجارب والإصرار في أفعال الشجاعات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...