إذا كنتِ تستيقظين صباحاً كي تذهبي إلى عملك، أو تسمحين لنفسك بالاستيقاظ باكراً من أجل الدراسة، أو سوّلت لك نفسك الأمّارة بالسوء يوماً أن تسافري وحيدة، تخرجي، تشتري سيارة... فأنت "عاهرة"!
لا تحملقي مدهوشة هكذا، ولا تحاولي خصوصاً أن تدافعي عن نفسك، فمهما قلتِ، وكيفما صرختِ وبرّرتِ ستظلين "عاهرة" يوم ولدتِ، ومتى عشتِ، وحتى تموتي فيقال عنك: أراحت واستراحت.
شعرك الطويل وقدّك الممشوق دليلان قاطعان على "عهرك"، والمرتّب الذي يدخل حسابك كل شهرٍ وثيقة إدانةٍ قطعية في حقكِ، أما السيارة التي تركبين فهي افتخار واضح منك "بالعهر" الذي تمارسينه.
السبيل الوحيد لديك كي "تغتسلي من عارك"، هو أن تعودي خنوعةً، تابعةً، أن تظلي قابعةً في كهف الوصاية، حتى بعد أن زحزح نضالُ الأخريات الصخرةَ التي كانت تقفله.
قد يبدو كلامي غريباً، ويظن الجميع أن سحاب اليأس استطاع أن يغمرني، وجعلني لا أرى كل اللون الوردي الموجود في الحياة، وأن العدمية قد أعمت بصيرتي إلى درجة أني أصبحت أهوّل الأمر وأضخّم المشكل.
ما الفرق بين استباحة الجسد واستباحة الكرامة؟ بين الاغتصاب الجسدي والاغتصاب المعنوي؟
سيقول قائل إنه، منذ وزمن ليس بعيداً بالضبط، حين ظهر شريط فيديو في المغرب يوثّق اغتصاب شابة تدعى حنان، من طرف مجرمٍ حقير، الجميع شجب وندّد بما حصل، بل حتى أن نقاش عقوبة الإعدام عاد إلى الواجهة وطالب الرأي العام (بذكورييه) أن يعود تطبيق العقوبة في المغرب، وأننا قطعنا شوطاً طويلاً في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، وأن كل رجل أصبح يعلم أن كرامتها من كرامته ... إلى آخره من الكلام المعسول الذي نهون به تعاستنا.
قصة "حنان" هي قصة للعبرة، فحسب المصادر، الرجل الذي اعتدى عليها هو في الأصل خطيبها، معروف بإدمان المخدرات، وتعوّد استغلالها في الدعارة، عند دخوله السجن قرّرت أن تنفذ بجلدها وتترك طريق الدعارة. لكنه لم يستسغ ذلك وأبى حين أنهى مدة عقوبته إلا أن ينتقم منها شرَّ انتقام.
بعد حصّةٍ طويلةٍ من الضرب والتعذيب، آثارها ظاهرة على الفتاة التي تحوّل جسدها إلى اللون الأزرق، وفقدت حتى القدرة على المقاومة، اغتصبها بزجاجيتين إمعاناً في إذلالها وإشباعاً لحقده المريض، لحسن حظها، إن جاز القول، المجرم المعتدي كان برفقة صديقٍ له وثّق الاعتداء كاملاً بكاميرا الهاتف، متجاهلاً كل استغاثات الفتاة.
بعد ظهور الشريط ثارت حفيظة الجميع، اهتزَّ الرأي العام المغربي، وطالب الفيسبوكيون بإعادة النظر في إلغاء تنفيذ عقوبة الاعدام، خصوصاً وأن انتشار الفيديو تزامن مع صدور حكمٍ بالإعدام في حق مرتكبي الجريمة الإرهابية في شمهروش (قتل سائحتين)، عاد نقاش العقوبة بشدة بين التنفيذ النظري والتطبيقي للحكم.
كل هذا التضامن والغضب لأجل كرامة ضحية أنثى، هو مهم، لكن بالمقابل كم من "حنان" اغتُصبت من قبل في صمت؟ كم من حنانٍ نُكِّل بها وتعرّضت لأشد أنواع التعذيب دون أن توثق كاميرا الهاتف معاناتها؟ كم من حنانٍ امتنعت ضواري الغابات عن الاقتيات على بقاياها تقزّزاً مما فعلته بها ضباع البشر؟ كم من حنانٍ ماتت معذبة لم ينعها أحد، ولم يصلِّ عليها أحد فقط لأنها امرأة؟
تقولون اليوم إن الرجل صار يقبل بندّية المرأة له، إنه في القرن الواحد والعشرين لم يعد الرجل يتطاول على النساء أو يحتقرهن، أتساءل وأنا أرى هجوم أحد الحثالات في الفيسبوك، بعد مدة قليلة من ظهور هذا الفيديو البشع، على أستاذةٍ مغربيةٍ شابة تسافر كي تزور العالم كلما سمحت لها الفرصة، ناعتاً إياها بالعاهرة التي تأكل من ثدييها، فقط لأنه عجز وهو في عمر الأربعينيات عن تحقيق ذاته، أو فعل ربع ما فعلته هي قبل أن تبلغ عقدها الثالث، لأنه فاشل وعاجز عن العمل، اعتاد أن يتسوّل نقود قهوته وسجائره، فحزَّ في نفسه أن يرى امرأة تعيش بفرحٍ بينما يرتع في تعاسةٍ من صنع يديه، فقرر طبعاً أن يعاقبها بأسهل الطرق وأحقرها، أن يطعن في شرفها، متأكداً من أن كل الفاشلين المنبوذين من الذكور سيتبعون لغوه ويثمّنون أقواله كي يغطوا على خيباتهم، ويعلقوا فشلهم على مشجب نون النسوة التي تتسلق سلم النجاح معتمدة على جسدها كما يدعون. ما الفرق إذن بين من اغتصب حنان، وبين من ينعت النساء بالعاهرات لأنهن ناجحات؟ ما الفرق بين استباحة الجسد واستباحة الكرامة؟ بين الاغتصاب الجسدي والاغتصاب المعنوي؟
كل هذا التضامن والغضب لأجل كرامة ضحية أنثى، هو مهم، لكن بالمقابل كم من "حنان" اغتُصبت من قبل في صمت؟ كم من حنانٍ نُكِّل بها وتعرّضت لأشد أنواع التعذيب دون أن توثق كاميرا الهاتف معاناتها؟
الهيمنة الذكورية تحوّلت إلى عقدةٍ من تاء التأنيث التي فرضت نفسها على جميع المستويات، والذكوري الحالم بالسيطرة قد يتحوّل إلى مجرم في أي لحظة، إذا لم تتدخل الدولة من أجل سنّ قوانين لوضع حدّ لكل من يتباهى بسلوكيات تشجع على العنف
في حوارٍ صحفي مع جيران الضحية حنان، رحمها الله، وجواباً عن سؤال ما الذي يعرفونه عن الضحية، أجاب أحدهم قائلاً إن المجرم كان صديقها، واعتاد أن يأخذها عنوةً، وأحياناً تحت تهديد السلاح، من وسط منزلها، مستغلاً أنها تعيش وحيدة مع أمها، أي أنه يستقوي على امرأتين لا تملكان القدرة على مقاومته ولا أحد يمنعه.
هؤلاء الجيران الذين نظروا إلى عدسة الكاميرا بكل وقاحة، وشهدوا أنه كان يختطفها غصباً كل مرة دون أن يتعرّض له أحدهم، هم أنفسهم من ينعتون كل امرأة تعيش وحيدة بالعاهرة، هم أنفسهم من سيسمحون لنفسهم بالاعتداء عليها وقتلها إن لزم الأمر، إذا سمحت لرجلٍ غريبٍ بولوج منزلها.
نعم سيقفون وقفة "رجل" واحد إذا فعلت شيئاً عن طيب خاطر، ويتقهقرون جميعاً إلى الوراء إذا تعرّضت لأي خطر.
الهيمنة الذكورية تحوّلت بمرور الوقت إلى عقدةٍ من تاء التأنيث التي فرضت نفسها على جميع المستويات، والذكوري الحالم بالسيطرة قد يتحوّل إلى مجرم في أي لحظة، إذا لم تتدخل الدولة من أجل إقرار قوانين لوضع حدّ لكل من يتباهى بسلوكيات تشجع على العنف... لأن جرائم القتل والاغتصاب قد تبدأ بفكرة على الفيسبوك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...