أعلنت سينما "زاوية"، وهي سينما مصرية تابعة لشركة "أفلام مصر العالمية"، في بيانها الرسمي الصادر في الثالث عشر من يوليو 2019، مساندتها الكاملة لإحدى المتدرّبات التي اتهمتْ مخرجاً مصرياً بالتحرّش بها جنسياً، أثناء ورشة عمل أعدتها السينما خلال العام الماضي. ترجع القصة إلى منشورٍ نشرته المتدرّبة على صفحتها الشخصية، في زخم الحديث عن سلوك اللاعب "عمرو وردة" واتهامه بالتحرّش الجنسي على مواقع التواصل الاجتماعي.
نصَّ المنشور على واقعة تحرّشٍ جنسيّ تعرّضت لها أثناء حضورها "ماستر كلاس" عن أفلام المخرج يوسف شاهين عام 2018، والذي أسندته إدارة السينما إلى مخرج مصري مستقل. قالت فيه إن المخرج وضع يده على جسمها دون إذن أو سابق معرفة بينهما. لم تذكر المتدرّبة اسم المخرج، الذي كتب منشوراً يردّ فيه على هذا الاتهام من خلال حسابه الشخصي على فيسبوك. نصَّ منشور المخرج إقراراً بحدوث الفعل، واعتذاراً عنه، لكنه كذلك تضمّن تلميحات عن استقبال المتدرّبة للفعل، وبأنه كان "حميمية زائدة" منه، وليس تحرّشاً جنسياً. لم ينجح التبرير في الإجابة على "سؤال المهنية"، وكيف يُمكن لمُدرّبٍ أن يلمس أجسام مُتدرّبين ومُتدرّبات خلال سياقٍ رسمي كورشة عمل، دون قبولهم/ن الواضح، وكيف يُمكنه مصادرة تصنيفهم/ن للفعل كتحرّشٍ جنسي. تفاقمت الأزمة بعد تدخّل إدارة السينما واقتراح حل الوساطة. وبدا أن الوساطة لم تنجح، ولم يلتزم المخرج بالاعتذار الواضح وغير المقرون بأي تبرير، بحيث تقبله المتدرّبة نفسها، فأعلنت السينما اعتذارها الرسمي للمتدرّبة، في بيانها الذي أوصت من خلاله بوقف التعامل مع المخرج نهائياً.
أظن أن سنوات استحقاق الرجال لأجسام النساء من حولهم، مهما ادّعوا تحررهم الفكري والجنسي، مُستمرّة معهم حتى في السياقات التي نظنها سياقات آمنة من الانتهاك
استحقاق يؤدي إلى انتهاك
من منظورٍ جندري، أي مُتعلّقٍ بالهويات والأدوار الاجتماعية، يميل أغلب الرجال إلى الشعور باستحقاق ما حولهم، بما في ذلك الأشخاص الآخرين والذين يعتقدون أنهم أقل قوة، سواء بسبب العمر، النوع الاجتماعي، الطبقة، أو المكانة الاجتماعية، ويكون الاستحقاق جزءاً من تشكّل ذواتهم الرجولية. فمبدأ الاستحقاق معمول به ومُفعّل، يستخدمه أغلب الرجال من حولنا في حيواتهم اليومية، وقد لا يُدركونه من الأساس، لأنه جزء من إدراكهم لبيئتهم المحيطة، ولذواتهم التي يبنونها في تفاعلها المباشر مع هذه البيئة. يشمل هذا الأشخاص الذين يتواجدون فيها. يُمكننا تبسيط هذه النقطة من خلال النظر إلى الطريقة التي يتعامل بها الرجال مع أجسام النساء، بدايةً من الأم التي تُعدّ الطعام، والأخت التي تُرتّب خزانة الملابس، إلى الصديقة التي يلمس جسمها "بحميمية" بين حينٍ وآخر، دون أن تكون اللمسة جنسية، وإلى الشريكة التي يلمسها متى شاء، ويعتبر علاقتهما الجنسية الرضائية قبولاً أوتوماتيكياً لكل لمسةٍ دون سؤال الشريكة.
سواء كانت هناك علاقة اجتماعية بينك وبين رجل ما، أو أنكما لا تعرفان بعضكما البعض، فأغلب الظن أن شعوره بالاستحقاق، منتشر في الهواء. لا يحتاج إلى سفسطةٍ لتبريره. هؤلاء الرجال يشعرون أن "من حقهم" فعل كذا، وإن اعترضتِ نظروا لكِ كأنك مجنونة تعترض على أمر "طبيعي"
معظم الرجال يقبلون أن نتهمهم بالكسل، بدلًا من اتهامهم بالانتهاك والاستفادة من تجاهلهم لأهليتنا كنساء، لأن الأهلية الوحيدة التي يعترفون بها هي أهليتهم، وأهلية الرجال الآخرين
يشعر الرجال بأن هذه الأفعال هي حقوق أصلية لهم، وبأنه لا داعي لسؤال أي امرأة في مجالهم عمّا إن كانت ترغب في هذا الفعل أو لا. ويصبح الرجل كأنه في علاقة هو الوحيد المُتحكم بها، وصاحب القرار، وصاحب الفعل. وأقصد هنا أي علاقة، بما فيها علاقة الزمالة أو حتى خمس دقائق داخل عربة نقل عام يجلس فيها بجوارك رجل، لا يسألك إذا كنتِ مرتاحة في جلستك أم لا، بينما هو يفتح رجليه عن آخرهما ويأخذ جزءاً من مقعدك، ويتسبب في انكماشك وعدم راحتك، تحت زعم أنه رجل، وأن هذه الطريقة هي الأكثر راحة له، بما أن عضوه الجنسي بارز. ورجُلٌ آخر يجلس ورائك في نفس العربة، ويسحب يديه من خلف مقعدك، ليلمس جسمك. أو هذا الذي يُرسل إليكِ صوراً لعضوه الجنسي على الرسائل، دون أن تعرفي حتى مَن يكون.
سواء كانت هناك علاقة اجتماعية بينك وبين رجل ما، أو أنكما لا تعرفان بعضكما البعض، فأغلب الظن أن شعوره بالاستحقاق، منتشر في الهواء. لا يحتاج إلى سفسطةٍ لتبريره. هؤلاء الرجال يشعرون أن "من حقهم" فعل كذا، وإن اعترضتِ نظروا لكِ كأنك مجنونة تعترض على أمر "طبيعي". نعم، هذه التصرّفات بالنسبة لهم "طبيعية"، لأنها واقعهم المُعاش واليومي، ولأنها عميقة وفي صلب علاقتهم بجميع النساء من حولهم، مهما كانت درجة قرابتهن لهم. بإمكاني الآن الإشارة إلى قصة المخرج، والتركيز على تبريره للفعل بأنه "حميمية زائدة"، وشعوره بأنها حميمية مُستحقة، وتبريره لهذا الاستحقاق بأن الشاكية لا تعي الفرق بين الحميمية والتحرّش الجنسي. انظري معي كيف يقوم رجل، ليس فقط باستحقاق جسمك، ولكن بمصادرة شعورك وتصنيفك للفعل، واتهامك بأنك "منغلقة ثقافياً" وآتية من بيئةٍ لا يختلط فيها الرجال مع النساء، كأن الاختلاط معناه الوحيد هو أن يلمس رجل جسمك دون أن تسمحي أنتِ له. ثم يتهمك أصدقاؤه بأنك "متخلّفة" و"محافظة" ولا يتناسب وجودك والأماكن التي يتعامل فيها الرجال مع أجسام النساء "بأريحية"، لتكون الخطوة التالية للاستحقاق هي الانتهاك.
يقول داشر كلتنر، أستاذ علم النفس بجامعة "كاليفورنيا"، في مقاله المنشور في أكتوبر 2017 في مجلة "هارفرد بزنس ريفيو": إن الرجال في مراكز القوة يميلون إلى المبالغة في تصوّر انجذاب الآخرين لهم جنسياً، خاصة النساء، ويتحينون الفُرص للتقرّب الجسماني لهن، كاللمس المطوّل، والقرب أكثر من اللازم، وتجاوز حدود اللياقة في الحديث. فسّر "كيتلنر" هذا السلوك بأنه مرتبط بعلاقات القوة بين الرجال والنساء، والتي تبلغ ذروتها عندما يكون الرجل في موقع سلطة أو مركز اجتماعي أعلى من النساء الذي يتعامل معهن، وينعكس ذلك على سلوكياته. يتوافق طرح "كيتلنر" مع دراسةٍ نشرتها "الرابطة الأمريكية لعلم النفس" عام 2001، تُحلّل فيها العلاقة بين الاستحقاق كوسيطٍ بين الرجولية والسلوكيات المتعلقة بالاعتداء الجنسي. أي أن شعور الرجال بالاستحقاق بوجهٍ عام، واستحقاق أجسام النساء بوجهٍ خاص، يؤثر بشكلٍ رئيسي على إدراك الرجال لهويتهم الاجتماعية، وعلى تصورهم أنه من حقهم لمس أجسام النساء وقد تصل أحياناً إلى الاغتصاب.
الاستحقاق: عدو الرجال أم صديقهم؟
أعتقد أن في هذا المثال بالتحديد، سيُصبح الأذى الذي شعرت به الشاكية أقل، لو أن المخرج سألها إن كان مسموحاً له لمس جسمها، بعض المجهود لن يضر. لكن الكسل يأتي في لُبِّ الاستحقاق. فمعظم الرجال يقبلون أن نتهمهم بالكسل، بدلًا من اتهامهم بالانتهاك والاستفادة من تجاهلهم لأهليتنا كنساء، لأن الأهلية الوحيدة التي يعترفون بها هي أهليتهم، وأهلية الرجال الآخرين. فالرجال الذين يدّعون عدم معرفتهم بمفاهيم مثل القبول والرضائية، هم أنفسهم مَن سيلجؤون للعنف لو أن رجلاً مثلهم شعر باستحقاق على أجسامهم. في جلسات الرجال الذين يلعبون فيها "بلايستيشن"، سنجد أحدهم يصيح في الآخر، بأنه لا يستطيع الجلوس على الأريكة لأن صديقه يفتح رجليه بطريقةٍ تأخذ من مساحة جلوسه هو على نفس الأريكة. وسنجد رجلاً يضرب آخر، لو أن الأخير لمس مؤخرته في حفل ما، ولن يقبل تبرير أن المعتدي كان تحت تأثير الكحول. وسنجد الآن أن "القبول" شيء مفهوم وواضح، لا يحتمل التأويل، ولا يتسع للتبرير. بينما يتصرّف نفس الرجال في الأمثلة السابقة باستحقاق أجسام نساء حولهم، ويتحجّجون بأنهم استقبلوا "إشارات خاطئة" من هؤلاء النساء، حفزتهم للمبادرة بفعل ما.
أظن أن سنوات استحقاق الرجال لأجسام النساء من حولهم، مهما ادّعوا تحررهم الفكري والجنسي، مُستمرّة معهم حتى في السياقات التي نظنها سياقات آمنة من الانتهاك. ويظل أغلبيتهم مستمتعين بالاستحقاق، كامتيازٍ اجتماعي رجولي، لا يُريدون أن تُفسَد لحظات استمتاعهم بهذا الفعل أو تلك الكلمة. لذلك، هم لا يسألون النساء، بل يتصرّفون ويتوقعون القبول ولا يهتمون بنتائج الرفض. قلّة من الرجال هم الذين يحاولون التخلص من هذا الاستحقاق بالتساؤل. السؤال الواضح والاجابة الواضحة هما مفتاح أي علاقةٍ اجتماعية بين الأفراد، مستمرّةٍ أو عابرة. السؤال هو إقرار بحق الأطراف الأخرى في قبول ورفض أي فعل يمسهم/ن، ومن قبل ذلك هو اعتراف بأهليتهم/ن التي يتجاهلها الاستحقاق بأنانيةٍ ووقاحة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي