شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
إنجيل برنابا... سرٌّ فاتيكاني دفين أم دعاية للطائفة الأحمدية؟

إنجيل برنابا... سرٌّ فاتيكاني دفين أم دعاية للطائفة الأحمدية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 5 يوليو 201902:51 م

بالرغم من مرور أكثر من عشرين عاماً على قراءتي الأولى له، ما زال "إنجيل برنابا" (Barnabas) يُثير جدلاً ولغطاً كبيرين.

بينما تؤكد جميع الكنائس المسيحية على زيفه، يؤمن عددٌ هائل من المسلمين بأصالته وبكونه وثيقة دامغة على صحة ما جاء في القرآن عن أن المسيح لم يُصلب "بل شُبّه لهم" وأن ألوهيته التي تنص عليها الأناجيل الأربعة المعروفة ومن ثم قيامته "محض أكاذيب" ابتدعها الكهنة في قرون المسيحية الأولى، مثلما قاموا بطمس كل ما بشّر به عن رسول يأتي من بعده اسمه "أحمد".

أذكر جيداً ما قالته لي الصديقة التي أعارت إلي ترجمة إنجيل برنابا إلى العربية عن عثورها في صفحاته على الحلقة المفقودة بين الكتابين "المُنزَلين" وبأنه سيُبدّد حيرتي بشأن ما ورد في النصوص الإسلامية عن شخص وحياة ودور عيسى ابن مريم، فرحت ألتهم السطور بنهم شديد، ثم بدأت الدموع تنهمر من عيني عندما وصلت الى الجزء الذي يُبشّر عيسى فيه بقدوم محمد ويحضّ أتباعه على الإيمان برسالته ونصرته.

"... أخيراً، ها هو نصّ مُسرّب من عقر دار المسيحية يؤكّد أن "نبيّي" كان صادقاً في روايته!"، هكذا قلت لنفسي.

عقدت العزم يومها على أن أُخلص الإيمان بما بين يدي من نصوص، وألّا أسمح لوساوس "الشيطان" بالتسلّل إلى رأسي مرة أخرى، فقمعت شعوراً بالريبة وتساؤلات راودتني عن الكتاب الذي بدا لي إسلامياً أكثر ربما من نصوص الإسلام نفسها حتى ليُخيّل لقارئه أن المسيح لم يفعل شيئاً طوال سنوات حياته سوى دحض مزاعم ألوهيته ونهر من يروّجون لها بانفعال وغضب، والدعوة إلى الإيمان بمحمد الذي تمنى في أحد السطور لو أنه عاصره وفكّ له أربطة نعليه (؟)

عندما سألت أحد أصدقائي المسيحيين عن برنابا، أجاب بأن الانجيل المُتداول عنه مُفبرك وأنه "صنيعة اليهود" لمحاربة المسيحية، ففكرت لو كنت مكانه لكنت سأفعل الشيء نفسه لتبرئة ديني من تهم الزيف والتدليس... تذكّرت كل ذلك وأنا أتابع مقطعاً مُصوّراً جاءني عبر واتساب عن الوثيقة التي "استمات الفاتيكان في إخفائها، لكن القدر شاء أن تظهر كي تثبت للعالم أجمع أن الإسلام هو دين الحق!"

بينما تؤكد جميع الكنائس المسيحية على زيفه، يؤمن عددٌ هائل من المسلمين بأصالته وبكونه وثيقة دامغة على صحة ما جاء في القرآن عن أن المسيح لم يُصلب "بل شُبّه لهم"... هذه قصتي مع "إنجيل برنابا"
أليست مفارقة أن النص الذي هلّل له ملايين المسلمين من شتى الملل والمذاهب ما كان ليقرأه أحد لولا فرقة "مسلمة" لا يعترف بها أحد، بل أن الجميع قد اتفقوا على تكفيرها؟

قبل حوالي خمس سنوات، عقدت العزم على التحرّر من سلطة الموروث وتحكيم العقل في دراستي وتحليلي النص الديني. الطريف في الأمر أن الإعلان عن توجّهي الجديد للملتزمين من الأصدقاء جعلني هدفاً لسيل من الرسائل النصيّة والصوتية والمُصوّرة التي تنوّعت أشكالها ومصادرها، لكن مضامينها كادت أن تكون متطابقة.

لم يستوقفني في المقطع عن إنجيل برنابا التكتيك المخادع الذي لجأ إليه صانعوه باستخدام صوت نسائي يتحدث بالفرنسية مع عرض ترجمة بالعربية أسفل الشاشة للإيحاء بأن ما يُقال هو ثمرة بحث أكاديمي غربي، ولا توابل الصورة المعروضة والموسيقى المرافقة لها بغرض خلق جو من الغموض والتشويق يسبق الكشف عن "السر الخطير".

لم يُثر أي من ذلك انتباهي، فقد اعتدته لكثرة ما مرّ عليّ منه، لكنني لم أتمالك نفسي من الضحك عندما ذكرت "الراوية" أن "خبراء" في كل من تركيا وايران قد فحصوا المخطوطة وأجمعوا على صحتها.

لكن لماذا لم تتم الاستعانة بمراكز التوثيق المرموقة كي تقوم بأبحاثها العلمية بحياد وتؤكّد أو تنفي ما توصّل له خبراء ايران وتركيا، المعروف عنهم لا حياديتهم حول هذه المسألة. 

ذكّرني المقطع بحكاية برنابا بعدما كدت أنساها وجعلني أبحث عن مراجع جديدة عنه وعن اللغز المنسوب إليه... لم أعثر على غايتي عندما كتبت الاسم في خانة البحث في أرشيف المكتبة العامة في أوكلاند، إذ جاءت معظم العناوين لمؤلفين حملوا اسم برنابا، باستثناء كتاب واحد منشور في أواسط الثمانينات بعنوان The Gospel of Barnabas (الناشر:Allen & Unwin) لمؤلف بريطاني راحل هو ديفيد سوكس (David Sox)، فقمت باستعارته بعد التأكد من استناد الباحث إلى مراجع موثّقة أدرجها في نهاية الكتاب.

يشير المؤلف الى نقطة مهمة في بداية بحثه وهي أن وجود أربعة أناجيل معتمدة فقط بالرغم من كثرة عدد شخوص العهد الجديد قد فتح الباب على مصراعيه أمام ما يتردّد بين فترة وأخرى بشأن العثور على أناجيل تعود لـ"يهوذا" و"مريم المجدلية" وحتى "العذراء" أم يسوع وشقيقه "جيمس" وسواهم، خصوصاً بعد ما اكتُشِف من مخطوطات ولفائف في "نجع حمادي" في مصر وبالقرب من البحر الميت.

يتطرق سوكس الى أن برنابا اليهودي، قبرصي الأصل، اسمه الحقيقي هو يوسف الشامي، ولم يكن أحد "الحواريين" الاثني عشر أو تلاميذ يسوع المقرّبين كما روّج له بعض الباحثين الإسلاميين، بل هو مذكور في سفر "أعمال الرسل" كرفيق بولس الذي جاب معه بلاد الشام مبشراً بالمسيحية قبل أن يختلف معه ويتركه، كما رُوي عنه أنّه عندما أُعدم عام 61م، لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يضم إنجيل متّى الى صدره.

يورد الكتاب بعد ذلك الرواية المتداولة عن راهب كان برفقة البابا سكستوس الخامس في مخدعه عندما غلب النعاس الأخير وغط في نوم عميق، فانتهز الفتى الفرصة للاطلاع على المخطوطات النادرة في مكتبة الحبر الأكبر وكان إنجيل برنابا أول ما عثر عليه - بالمصادفة؟ - فقام بإخفائه في ردائه وفر هارباً ثم اعتنق الإسلام بعدما قرأ ما جاء فيه، بينما يُرجّح رأي آخر أن يكون واضع الإنجيل أحد فرسان الهيكل بنية الانتقام من الفاتيكان بعدما تمرّد على سلطته.

لا سبيل أمامنا اليوم للتأكّد من صحة أي من تلك القصص. كل ما بوسعنا فعله هو دراسة الوثائق من ناحية المواد المستخدمة فيها وطريقة التنضيد وأسلوب الكتابة في المتن والهوامش، وكذلك التحقّق من الأحداث المذكورة فيها والشخوص والأزمان والأماكن، وهو ما عكف عليه خبراء عدة طوال القرن الماضي، واستنتجوا أن الصحائف قد خُطّت بعد وفاة برنابا بقرابة ألف عام.

شخصياً، أقف على مسافة واحدة من الروايتين المسيحية والإسلامية، لا أنفي ولا أؤكد أيا منهما، لكنني قرأت باهتمام ما أورده الكتاب عن كيفية وصول النص الى أيدي المسلمين واعتماده مرجعاً موثوقاً به ورصيناً في أبحاث الدارسين في الجامعات والمعاهد الإسلامية، بما فيها الأزهر الذي يتخرّج منه كل عام مئات المعلّمين والدعاة وأئمة الجوامع وحاملي الإجازات في إصدار الفتاوى عن أي شيء وكل شيء.

يؤكد المؤلف أن الطائفة "الأحمدية" التي أنشأها في أواخر القرن التاسع عشر ميرزا غلام أحمد في البنجاب - وتعدّها المذاهب الإسلامية كلها فئة مارقة ضالّة - هي الجهة التي حرصت على ترجمة المخطوطات وكانت وراء نشرها في أصقاع العالم الإسلامي والترويج لها بأنها الإنجيل الحق الذي تم تحريفه، لأنها تتّسق مع ما يؤمن به أتباعها من أن زعيمهم هو "الأحمد" أو "المسيح" أو "المهدي" المنتظر الذي بشّر النبيّان عيسى ومحمد بظهوره.

أليست مفارقة أن النص الذي هلّل له ملايين المسلمين من شتى الملل والمذاهب واتخّذوه حُجّة على الكنائس المسيحية ما كان ليقرأه أحد لولا فرقة "مسلمة" لا يعترف بها أحد، بل أن الجميع قد اتفقوا على تكفيرها؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image