امرأة مهتمة بالجمال، وتبذل مجهودا دون جدوى في البحث عن شريك الحياة، العمر يمرّ، وجمالها يبهت، صديقاتها يرتبطن ويتزوجن، لا رجل يدقّ بابها.
هذه هي الصورة النمطية عن المرأة الوحيدة "السينغل"، والتي عملت السينما المصرية، خاصَّة التجارية، على ترويجها، واستغلالها كوميدياً، وهذا ما برعت فيه بشكل مدهش الفنَّانة الكوميدية زينات صدقي، عبَّرت عن تفاصيل نفسية واجتماعية للمرأة الوحيدة، بحركات جسمها، وكلماتها الساخرة اللاذعة، ودعواتها الحارة، يتعلق قلبها بقارئة الفنجان وهي تصف لها شريكها المنتظر، تطل من شرفة "قصرها" على سيل الرجال المتدفق في الشوارع، ولا أحد منهم يصعد لغرفتها، يُؤنس وحدتها.
برزت زينات في أدوار مساعدة بتيمة قصصية شائعة في السينما المصرية منذ الأربعينيات، أبطال شباب وبنات يخوضون تجارب عاطفية مأساوية، تنتهي بنهايات سعيدة، وشخصيات مساعدة سيئة الحظ، يضعها القدر في مواقف متناقضة، تفجّر حالات الكوميديا والضحك.
زينات صدقي: حياة مأساوية، وأفلام كوميدية
محطات كثيرة مرت بها زينب محمد سعد، أو زينات صدقي (4 مايو 1912 - 2 مارس 1978) ـ
مرَّت بتجارب في الصِّغَر تعلَّمت منها معاني كثيرة عن الحياة و"الجدعنة"، وحبِّ الناس، وتعلّمت من أخرى كيف تتخطى العوائق التي وضعها الزمن في طريقها نحو الشهرة والنجوميّة.
تراها كثيراً بائسة، تقاوم إحباطها بالنكات، و "الإيفيهات"، ولكن ثمة مشاهد تخالف الصورة النمطية المحفوظة عن زينات صدقي، التي ألقى بها الفنُّ ظلماً في إطارٍ معيّن، رفض عقل كثير من المشاهدين، بمرور الوقت، أن يراها خارجه.
في خطواتها الأولى تعثّرت زينات في مسرح نجيب الريحاني، الذي خطفه الجمال الساحر لهذه الفتاة الصغيرة التي تشعُّ بريقاً وعنفواناً، وكانت توصف بأن جمالها أوروبي.
امرأة مهتمة بالجمال، وتبذل مجهودا في البحث عن شريك الحياة، عمرها يمر، جمالها يبهت، لا رجل يدقّ بابها، صديقاتها يرتبطن، ويتزوجن... صورة نمطية ظالمة عن المرأة السينغل في مصر، برعت في تقمصها بشكل كوميدي زينات صدقي
كان من المنطقي أن يسند إليها الريحاني دورَ فتاةٍ جميلةٍ، يتسابق الجميع لينال رضاها، فقد كانت بحقّ جميلة، على عكس الصورة التي صدّرتها لنا السينما، غير أن نجيب اختار لها دورا في مسرحية "الجنيه المصري" حوَّل مسارها إلى الأبد.
خادمةٍ سليطة اللسان، تفتعل المشاكل مع كلِّ من حولها، وفي مخالفةٍ للتوقّعات، نجحت الفتاة الصغيرة، وأدهشت كلَّ الحضور، ليقرّر نجيب أن تقدّم شخصياتٍ مشابهةً في تجارب الفرقة التالية، وهو ما تحقّق بالفعل، لتمضى زينات بين أدوار بنت البلد "السينغل"، والخادمة التي ينفر من سياط لسانها الجميع.
والنموذج الأبرز الذي يعيش بيننا حيّاً حتى اللحظة شخصيتها في فيلم "ابن حميدو"، قدّمت فيه شخصية حميدة، تلك الفتاة التي تطارد العريس المنتظر في كلِّ مكان، حتى يوقعها الحظّ في ابن حميدو.
وكذلك فيلم "شارع الحب"، وشخصيتها الشهيرة "سنية ترتر"، التي تمتلك المال وتسعى لخطف حسب الله، قائد الفرقة الموسيقيّة الذي وقعت في غرامه، بينا يرفضها هو بسبب قسوتها ولسانها الطويل.
ورغم تقديم زينات لشخصية المرأة الوحيدة "السينغل" في أكثر من تجربة، إلا أنها نجحت وببراعة في أن تحافظ على تفرد كل شخصية، فلا يمكن أن تضع في سلّةٍ واحدة "سنية ترتر" مع "حميدة" أو "العذراء الحسناء" التي تنشر إعلان زواج بعد أن فشلت كلّ محاولاتها مع الخطبة في فيلم "عريس مراتي".
مطربة، راقصة، مونولوجست مسرح مع إسماعيل ياسين
وفى مخالفةٍ أخرى للصورة المعروفة والمحفوظة عن زينات صدقي، ستكتشف بينما تقرأ سيرتها الذاتية، أنها بدأت حياتها كمطربةٍ و"عالمة"، ففي أحد مشاهد فيلمها "شهر العسل" الذي شاركت في بطولته إلى جانب المغني فريد الأطرش والراقصة سامية جمال، لجأت "المطربة" زينات صدقي إلى حيلة "البلاي باك"، للخروج من مأزق عدم جاهزيتها للغناء، ورغم الأداء الساخر الذي قُدّم به المشهد، إلا أنه تحوّل في الألفية الحديثة إلى موضةٍ ينتهجها بعض نجوم الطرب في الحفلات الحيّة.
رغم تقديم زينات للمرأة "السينغل" في أكثر من فيلم، إلا أنها نجحت وببراعة في أن تحافظ على تفرد كل شخصية
زينات كانت قد اكتسبت حبَّ الموسيقى من والدتها التي كانت تعشق الدندنة والضرب على العود في بيتها، وعندما قرّرت الخروج إلى عالم الفنِّ، اختارت أن تكون بدايتها كمطربة، وكوّنت مع صديقتها "خيرية صدقي" فرقةً صغيرة، شاركتا من خلالها في إحياء أفراح الأكابر بالإسكندريّة، وعُرفت في هذا الوقت باسم "الست زينب العالمة"، وكنتيجةٍ منطقيّةٍ انتقلت زينات صدقي من الأفراح إلى "تياترو زيزينا" لتغنّي بشكلٍ احترافي بعيدا عن أغاني الأفراح، فيما عملت في "تياترو مونت كارلو" الذي انتقلت إليه بعد إغلاق "زيزنيا" على تجربة موهبةٍ جديدةٍ كـ"مونولجيست" مع الشاب الصاعد وقتها، إسماعيل يس، ومنه إلى كازينو "بديعة"، التي التقطتها ومهّدت لها الطريق لتعلن عن موهبةٍ جديدةٍ في مجال الرقص.
ورغم أن عمل زينات صدقي بالغناء وإلقاء المونولوج والرقص لم يستمرّ طويلاً، إلا أنها اكتسبت من تلك السنوات التي عملت فيها بالتياترو خبرةً كبيرةً جعلتها بحقّ نموذج للفنّانة الشاملة، وإن لم تر فيها السينما سوى جانب واحد لامرأة تقف في وجه الكلّ بما في ذلك طبيعتها وجمالها.
من الأمور التي تخالف صورتنا عن ملكة الكوميديا أيضاً أنها لم تعيش وحيدة بلا زوج أو شريك كما أدوارها في السينما، بل تزوّجت أكثر من مرّة، وكانت زيجتها الأولى في عمر 15 عاماً، من طبيب من أقارب والدها، ولكونها صاحبة الظلِّ الخفيف التي لا تهوى النمطيّة أو النكد، اختارت الانفصال عن زوجها الطبيب الهادئ وحياته المملّة الرتيبة، وذلك بعد وفاة والدها مباشرة، وبعد مرور 11 شهراً فقط على الزواج.
أما الزيجة الثانية فكانت من إبراهيم فوزي، ملحّن أغاني مسرحيّات نجيب الريحاني، غير أنها انفصلت عنه بعد 3 أشهر فقط، حين قرّر الريحاني السفر بفرقته إلى المغرب لتقديم عروضه هناك، وأمام رفض الزوج سفر زوجته بدونه، وأمام رغبتها في عدم ترك الفرصة ليتدخّل في شؤونها وفرض سيطرته عليها وحرمانها من الفنّ الذي تعشقه حتى النخاع، اختارت الفنَّ في مقابل قصّة حبٍّ عنيفة.
الملهاة تحوَّلت لمأساة
في نهاية حياتها تعرّضت ملكة الكوميديا لمطبّاتٍ قاسية، حيث أغلقت على نفسها الأبواب بعد فشل آخر تجربتين لها في فيلم "بنت اسمها محمود"، و"السراب"، وهما التجربتان اللتان خاضتهما دون إرادتها وعن غير اقتناع، لدرجة أنها بكت بعد فشلهما، وقرّرت الابتعاد عن الوسط الفني، الذى كان يحاول جرّها إليه من جديد بأدوار باهتة رفضتها جميعاً، ودخلت في نوبة اكتئاب، في سيرة مشابهة لرفيق بداياتها الكوميدي إسماعيل ياسين، ولم يكتف القدر بذلك فجاء حجز الضرائب على ممتلكاتها، ليضطرّها إلى بيع مصاغها والفازات الثمينة والسجاد العجمي، وأكملت شقيقتها الماكيرة الشهيرة تسديد قيمة الضرائب المتبقية، والتي وصلت إلى 20 ألف جنيه في أوائل السبعينيات.
"إيفيهات" خالدة
قدرتها على تقديم الأداء الكوميدي السلس بعيداً عن المبالغة الكاريكاتوريّة التي قضت على موهبة البعض من زملائها، وبراعتها في تصدير الإحساس لكلّ جمهورها بأنها ليست بغريبة عنه، وإنما تقارب في الشكل وطريقة التعبير المرأة المصريّة العادية، التي نراها دوماً في الشوارع والحارات. كلُّ هذا جعل منها أيقونة تتناقل الأجيال أشهر "إيفيهاتها"، ويجدون فيها خير وسيلة للتعبير عما يجول بخواطرهم عبر منصّات تكنولوجيّة تجاوزت زمن زينات صدقي بأزمان عدة.
ومن أشهر "الإيفيهات" التي حملت توقيع زينات صدقي:
دا حتى مش كويس على عقلي الباطن يا أخواتي.
الوحش الكاسر الأسد الغادر إنسان الغاب طويل الناب.
يا سارق قلوب العذارى.
يا أختي جماله حلو يا أختي شبابه حلو.
يا أختي عليا وعلى جمالي.
أنا قلبي ليك ميال ولا فيه غيرك ع البال.
بتبصلي كده ليه والمكر جوا عينيك.
إيه فايدة الحلاوة من غير ما حد يحلى بيها يا أم كامل.
كتاكيتو بنى.
عدلهالى من عندك يارب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...