في الرابعة من فجر 20 فبراير 1930، عادت حبيبة مسيكة إلى بيتها، بعد سهرةٍ طويلةٍ وشاقة قضتها في بيت العائلة الإسرائيليّة لومبروزو.
كان الإرهاق الذي تعرّضت له كفيلاً بأن يجعلها تغطُّ في نومٍ عميق بعد دقائق معدودةٍ من دخول المنزل، غير أنها استفاقت على صدمةٍ مدوّية بعد أربع ساعات فقط، لتجد النيران وقد بدأت تحيط بها، فيما وقف حبيبها إيلياهو ميموني، الذي اشترى لها شقةً وفيلّا، يشاهدها وهي تحترق، لتلقي بعدها مسيكة حتفها.
هكذا تقرأ الرواية العربيّة موت حبيبة مسيكة، إحدى أشهر مطربات تونس، مع زيادةٍ في التفاصيل بأن ميموني الثري اليهودي أنفق على حبيبة مسيكة كلَّ أمواله، حتى اضطرَّ إلى بيع مقتنياته الشخصيّة، فيما أدلت صاحبة فندق بنبارون الذي أقام فيه إيلياهو، بأنه في يوم الحادث غادر غرفته في السابعة صباحاً، وعاد بعدها بنحو ساعة ونصف أو ساعتين، وعلى يديه آثار حروق، ولأنه على غير العادة، بدا مضطرباً وشاحب الوجه بشكلٍ ملفتٍ للنظر، تسللّت صاحبة الفندق إلى غرفةٍ مجاورة لغرفته لتكتشف أنه يجهّز للانتحار، فتدخّلت ومساعدها لإنقاذه.
رواية إسرائيلية: أحبها فرفضت فأحرقها
في الروايات الإسرائيليّة عن مسيكة ستجد نفس الموت، ونفس الأسماء وإن تغيّرت بعض التفاصيل، حيث تقول إن حبيبة مسيكة كان لديها عشاقٌ يهود ومسلمون ومسيحيّون، وكانت على وشك الزواج من راؤول ماران، وهو مسيحي فرنسي، (صاحب منهج نسوي).
تضيف الروايات الإسرائيليّة: "لم يستوعب ميموني تأجيلات حبيبة المستمرّة للزواج منه، وقام بأعمالٍ يائسةٍ من أجل الاقتراب منها، لكنها لم تفلح، فقد اشترى لمسيكة شقةً في تونس، وبنى لها فيلّا فاخرة في وسط مدينة تيسور مسقط رأسها، وعندما لم تستجب لنداءاته، أشعل النار في منزلها، حتى وصلت صيحاتها إلى منزل صديقتها وجارتها راشيل توبيانا، التي لم تتمكّن من إنقاذها، ففارقت الحياة بعد ثلاثة أيام من حرقها، فيما مات ميموني بعد شهرٍ بسبب مرضٍ خطير، ولم يحاول الانتحار كما قيل".
وفي روايةٍ ثانيةٍ تقول راشيل توبيانا، وهي جارة وصديقة مقربة للمغنية اليهوديّة: "كان لدى حبيبة خاطب لم تستجب له، وأراد أن يخيفها على أمل أن تعود إليه فألقي بزجاجة مولوتوف في غرفة معيشتها، دون أن يعلم أنها كانت في الغرفة، فأخذت حبيبة تصرخ حتى سمعت توبيانا صراخها، فهرعت إلى البيت وكسرت الباب وألقت عليها البطانيات، لكنها رغم ذلك لم تنج من الموت".
وكنوعٍ من ردِّ الجميل، عرضت عائلة مسيكة على راشيل، بيانو الراحلة الذي نجا من الحريق، لكنها رفضت واشترته لابنتها جابرييل، التي كانت في الخامسة من عمرها، والتي بدأت على الفور العزف على البيانو، وعندما هاجروا إلى إسرائيل، اصطحبت البيانو معها ليتمَّ نقله فيما بعد إلى معرض "المغادرون دون عودة" في المتحف التاريخي بتلِّ أبيب.
وفي روايةٍ ثالثة نشرتها صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيليّة، قالت أولجا كارب (66 عاماً)، حفيدة ميموني: "تعاملت حبيبة مع جدّي كعشيقة، ونشأت بينهما علاقة غراميّة استمرّت لعدّة سنوات. إنهم يقولون إن جدّي كان عمره 77 عندما وقعت الحادثة، لكنه كان يبلغ من العمر 57 عاماً فقط، وكانت دائماً تذهب إلى حيث توجد ثروة ومال.. وكان جدي رجلاً ثريّاً للغاية، لقد بني قصراً لأبنائه وإخوته، وأرادت حبيبة أن يبني قصراً لها أيضاً وعندما رفض، انفصلت عنه".
وتابعت: "والدي، فيليكس ميموني، كان يبلغ من العمر 20 عاماً وقت الحادث، وقد أكّد لي أنه ذهب مع جدّي لشراء قناع، لحضور حدثٍ غير متوقّع، وفي يوم الحادث قابله أبي في الطريق صدفة، وعندما سأله عن وجهته، أجاب جدي أنه سيعود قريباً، وذهب لشراء البنزين، وأحرق حبيبة بنفسه، وتوفيت على الفور، وتوفّي جدّي متأثّراً بجراحه نتيجة الحريق بعد شهر".
أنفق ثري يهودي كل أمواله على صاحبة أغنية "على سرير النوم دلعني"، واضطر إلى بيع مقتنياته الشخصية، وفي النهاية أحرق منزلها.
في أوّل ليلةٍ لعرض مسرحيتها "روميو وجولييت"، التي جسّدت فيها شخصيّة روميو أمام جولييت التي لعبت دورها الفنانة الليبيّة رشيدة لطفي، وبعد انتهاء أحد المشاهد الذي يقبّل فيه البطل البطلة، اشتعلت قاعة العرض غضباً وهاج الجمهور في كلِّ مكان، يكسّر ويخرّب ويدمّر كلَّ ما يقع تحت يديه، فيما يصرخ البعض متسائلاً، كيف يجرؤ هذا الممثل الوقح على أن يقبّل الممثلة بهذه الطريقة الشنعاء، كيف تقدّمون لنا هذه الوقاحة؟ دون أن يدري أيّ منهم أن هذا البطل هي حبيبة مسيكة نفسها.
وبعد دقائق قليلة كانت النيران قد انتشرت في أرجاء المسرح، وبينما كانت حبيبة تتلمّس بين الدخان الكثيف الطريق إلى باب الخروج، خوفاً من الموت محترقة، وجدت بعض الشباب المتحمّس للفنِّ يساعدونها على الخروج، لتنجو في هذا اليوم من الموت حرقاً.
هواية تخطي الحدود
ولدت مارجريت التي ستعرف لاحقاً باسم حبيبة في تونس عام 1903، لأسرةٍ فقيرةٍ تعيش في الحي اليهودي بتونس، وتوفي والداها في سنٍّ صغير، لذلك نشأت وكبرت في منزل خالتها المغنية ليلي سباز، التي اكتشفت في ابنة شقيقتها مواهب متعدّدةً في التمثيل والغناء والشعر، ما جعلها تلحقها بمدرسة بنات تابعة للاتحاد الإسرائيلي العالمي، الذي فتح الباب أمام التغيير الذي يدافع عن وضع المرأة اليهوديّة وحقوقها في تلك الفترة.
بدأت حبيبة الغناء في سنٍّ مبكّر، حيث قادتها الصدفة أوّل مرّة لتغنّي في إحدى حفلات الزفاف بالحي اليهودي، وأمام التألّق غير العادي لها وهي طفلة، ذاع صيتها بين أبناء الحي، فبدأوا يطلبونها في حفلات زفافهم، ويوماً بعد يوم تخطّى نجاح مسيكة الحدود، ومن هنا زادت شعبيّتها، وأطلق عليها لقب "حبيبة" كونها حبيبة الكل، وليست حكراً على اليهود فقط.
تمردت حبيبة على عادات يهود تونس المحافظة، الرافضة لغناء امرأة أمام الرجال، وحماها شباب متطوعون من عشاقها الكثر تحت اسم "عسكر الليل"
وفي شبابها كوّنت مسيكة فرقةً مسرحيّة، قدّمت من خلالها تجارب من المسرح العالمي، وأبرزها أعمال شكسبير الذي تأثّرت به بشكلٍ كبير، فقدّمت له مسرحيات: روميو وجولييت، عطيل، وتاجر البندقية، كما برعت في المسرح، خطفت الأضواء والأنظار بأغانيها التي حقّقت شهرةً كبيرةً وقتها، ومن أبرزها، هونت راسي للسهرة، عليا، هبالي، يا محلى الفسحة، على باب دارك، ومن وسط قلبي.
"العسكر" يحمونها من "العشاق"
كان المجتمع اليهودي التقليدي، يحظر على المرأة الغناء أمام جمهورٍ من الرجال، غير أن حبيبة قرّرت أن تتحدّى تلك العادات، وراحت تصدح بفنِّها متى أمكنها ذلك، وعلى مرأى ومسمعٍ من الجميع، لا فرق بين كبير أو صغير ولا ذكر أو أنثى، الأمر الذي جعلها تصنع قاعدةً جماهيريّةً كبيرة حولها، وقد أكّدت الصحف العبريّة أنها، وبسبب المحظورات التي مرّت بها، تخلّت عن الدين اليهودي، لكونها لم تكن مقبولة من قبل المجتمع اليهودي التقليدي في تونس، بسبب عروضها أمام الرجال، ورغم ذلك، لم يجرؤ أحد بما في ذلك الحاخامات على إدانتها.
اشتهرت حبيبة أيضاً بقصص الحب والغرام والحكايات الكثيرة التي دارت في فلكها، وتتحدّث القصّة عن عشاق ومهووسين بالجملة، وأمام زيادة أعداد عشّاقها والمتيّمين بها، ولحمايتها من جنونهم، تكفّلت مجموعة من الشبان، الذين أحبّوها أيضاً، بحمايتها، وكانوا يسمّون "عسكر الليل".
وقد دفعت النهايةُ المأساويّة لمسيكة المخرجةَ سلمي رشيد لتقديم فيلمٍ عنها بعنوان "رقصة النار"، بطولة سعاد حميدو وقالت إنها استلهمت العنوان من رقصةٍ شهيرةٍ قدّمتها حبيبة مسيكة، حين صعدت على المسرح مرتديةً فستاناً بلون النار، وعندما دارت حول نفسها أصبحت مثل كتلة اللهب، وكما أثارت مسيكة الجدل بفنّها وحياتها وحتى موتها، أثار الفيلم ضجةً كبرى وإن كانت متوقّعة منذ البداية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 6 أيامtester.whitebeard@gmail.com