شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
وُلدت بربريّاً صدفةً: قصّتي والحراك الأمازيغي في ليبيا (1)

وُلدت بربريّاً صدفةً: قصّتي والحراك الأمازيغي في ليبيا (1)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 22 يونيو 201901:10 م
Read in English:

From Libya: An Amazigh Story of Struggle and Identity (1)

ولدتُ بربريّاً صدفة. تركتُ مسقط رأسي في اتجاه الشمال، حيث تطلُّ أوروبا برأسها بعيداً في أقصى الشمال، وتمدُّ ذراعيها نحو شمال إفريقيا جنوباً، لأجد نفسي وبمحض الصدفة أقيم في ألمانيا، حيث يلقي خطيب الجمعة خطبته باللغة الأمازيغيّة، وأثناء محاولتي بداية حياة أخرى بدل تلك التي فقدتها في ليبيا، وجدتني مطالَباً بتقديم امتحانٍ لنيل رخصة قيادة السيارة، وهذه المرّة كان بإمكاني تقديم الامتحان النظري بلغتي الأم الثانية، اللغة العربيّة، كلُّ هذا يحدث في ألمانيا، حيث يتحدّث الجميع تقريباً اللغة الألمانيّة، ألمانيا حيث نوزّع على المرضى الناطقين بالعربيّة في المستشفى الذي أتدرّب فيه، مطبوعاتٍ تحوي وصفاً تفصيليّاً بلغتهم الأم، للإجراء الجراحي الذي سيخضعون له، كون أكثرهم لا يُتقن سواها.

لم تكن الأمازيغيّة تهمتهم لأنها، والحق يقال، لم تكن تهمّ أكثرهم، لقد كانت الأمازيغيّة قضيةً لا تهمّ أصحابها كثيراً.

وهذا جزء القصّة الأخير، والذي لا مبرّر للحديث عن تفاصيله، جزءٌ أعيش فيه في دولةٍ تحترم فيه فكرة المواطنة، وقبل كلِّ هذا فكرة الإنسان وحقوقه الطبيعيّة، حتى لو لم يكن مواطناً، حيث الدولة للجميع وبالجميع.

وهذا أمرٌ يُلزمنا العودة لبداية القصّة، عندما ولدت بربريّاً صدفةً، نسيت أن أخبركم أني أتحدّث لغتين منذ الولادة تقريباً، أحدهما كانت شعبيّة ويحبّها الله والنظام الحاكم، والأخرى يحبّها الله أيضاً لكنّها لم تلق ذلك الودّ من النظام والناس حوله أيضاً.

في ليبيا ،كانت الأمازيغيّة تهمةً إبّان عصر جماهيريّة العلم باللون الواحد، لكنها لم تكن تهمةً للناطقين بالأمازيغيّة يحملونها فوق أكتافهم، خلاف كونهم ليبيّين، لقد كانوا مثلهم مثل بقية الليبيّين، لا خصوصيّة لهم فيم يخصُّ معاملة القبضة البوليسيّة لأجهزة الدولة، لم تكن الأمازيغيّة تهمتهم لأنها، والحق يقال، لم تكن تهمّ أكثرهم، لقد كانت الأمازيغيّة قضيةً لا تهمّ أصحابها كثيراً، في قرية من قرى الجبل هنالك سجين سياسيٌّ ناطق بالأمازيغيّة، قضى في سجون القذافي زمناً أكثر مما قضاه نلسون مانديلا في سجون "الأبارتهايد"، وهنالك آخر ناطق بالأمازيغيّة أيضاً، لا أحد يعلم، منذ أكثر منذ ثلاثين عاماً تقريباً، أين هو حتى اليوم، كلاهما ناشط سياسيّ، لكن لم تكن الأمازيغيّة تعني كليهما، إذ أنهما، مع التحفّظ على ذكر الأسماء طبعاً، كانا ينتميان لحراك الإسلام السياسي، وهو تيارٌ عروبيّ سلطويّ أكثر من عروبة وسلطويّة القذافي ربما، هذان مثالان بسيطان يظهران أن الأمازيغيّة لم تكن أمراً يهمُّ الناطقين بها بشكلٍ يُثير غضب النظام الحاكم حينها.

يقول سياسيٌّ نافذٌ ناطقٌ بالأمازيغيّة بعد وفاة القذافي، وهو من منظّري حزب الإخوان المسلمين، في تسجيلٍ مصوّرٍ له، أنه يجب محاولة تقليد زخم فكرة اللجان الثوريّة، وإعادة تكرارها وتقليدها في اتجاه دعم فكر الحزب الذي يعتقد المنتمون له، أنهم يمتلكون صوت الله تحت قبّعاتهم ويده في جيوبهم، وهذا سياسيّ آخر ناطق بالأمازيغيّة لا يحمل تهمة الأمازيغيّة أو همّها فوق كاهله.

لقد كان الناطقون بالأمازيغيّة في ليبيا يعملون، حالهم حال جميع الليبيّين تقريباً، في كلِّ أجهزة الدولة، اللجان الثوريّة، أجهزة الأمن، الاستخبارات، الجامعات، المدارس، المستشفيات، كان لهم مكانٌ في كلِّ مكانٍ تقريباً أيضاً، في المؤتمرات الشعبيّة، مراكز الشرطة، منازل "البيت لساكنه"، طوابير الجمعيّات ومحطّات البنزين الأرخص فوق الكوكب، أسرّة المرضى وفي المقابر أيضاً، وكان هنالك اجحافٌ في إعمار المدن ذات الأغلبيّة الناطقة بالأمازيغيّة، لكن هذا الإجحاف كان إجحافاً عادلاً إذا صحّ وصفه، خصوصاً عندما نعلم أن طرابلس وبنغازي كانتا آخر ما تمَّ تشييده من مدنٍ في ليبيا، في عهد " إيتالو بالبو" الحاكم الإيطالي، قبل أن يخسر الفاشست الحرب العالميّة الثانية.

ليبيا دولة لم يبن فيها النظام، على امتداد نصف القرن تقريباً، سوى الأحلام، القليل من كتل الإسمنت، والنهر الصناعي العظيم أيضاً.

أما بالنسبة للأمازيغيّة فهي شأن آخرٌ تماماً، الأمازيغيّة التي انخرطت في الدفاع عن حقِّها في أن تكون لغةً حيّةً في واقع الشعب الليبيّ، أو على الأقلّ في واقع الناطقين بها، كلغةٍ محليّةٍ شأنها أي لغةٍ محليّةٍ أخرى، كالعربيّة أو التباويّة، يمارس من يريد بها حقَّه في التعبير، الغناء، التأليف، النشر، التزوير والكذب أيضاً، لغة يوصل بها من يريد أفكاره ومشاعره، كوعاءٍ يختاره لها، في اتجاه ترسيخ فكرة أن الحقوق الفرديّة حقوقٌ لا يتمّ منحها حسب أهواء السلطة الحاكمة أو الأكثريّة العدديّة، ولا شأن لها بعدد مستحقّيها من إجمالي سكان الدولة نفسها.

ونسيت أن أخبركم أني أتحدّث لغتين منذ الولادة تقريباً، أحدهما كانت شعبيّة ويحبّها الله والنظام الحاكم، والأخرى يحبّها الله أيضاً لكنّها لم تلق ذلك الودّ من النظام والناس حوله أيضاً.

الأمازيغيّة التي انخرطت في الدفاع عن حقِّها في أن تكون لغةً حيّةً في واقع الليبيّين،لغة يوصل بها من يريد أفكاره ومشاعره، في اتجاه ترسيخ فكرة أن الحقوق الفرديّة لا يتمّ منحها حسب أهواء السلطة الحاكمة أو الأكثريّة العدديّة.

كان المجتمع الناطق بالأمازيغيّة نفسه، وبسبب رهاب قبضة النظام البوليسيّة أحياناً، وبسبب الإيمان بأفكار عبد الناصر أحياناً، يمارس العزل المجتمعي في حق المطالبين باحترام اللغة وتدريسها، ويمارس التعريب الاختياري.

كان هذا الانخراط أمراً مكلفاً بالنسبة لي، فمثلاً كوني لم أخرج من طرابلس حيث ولدت وترعرعت، إلا مرّاتٍ معدودة، اكتشفت في إحداها أن اسمي مدرج في قوائم المتابَعين من طرف أجهزة الاستخبارات العربيّة، والتي تعمل بانسجامٍ مع بعضها البعض، ففي مطار القاهرة قبل سقوط حسني مبارك تمَّ إيقافي لساعاتٍ لغرض التحقّق من سبب زيارتي، وعمّا إذا كنت أنتمي لجماعة "الإخوان المسلمين"، وفي السنة التالية في عهد مرسي أيضاً، وبينما كنت مع وفد وزارة الثقافة، ممثلاً للمجلة الأمازيغيّة الأولى في تاريخ ليبيا الحديث، كوني رئيس تحريرها، تمَّ إيقافي مرّةً أخرى ساعاتٍ أيضاً لغرض التحقيق، لكن هذه المرة كان الإخوان المسلمون هم من في يدهم السلطة، تغيّرت الأسئلة لكن الحال بقي على ما هو عليه.

ليبيا دولة لم يبن فيها النظام، على امتداد نصف القرن تقريباً، سوى الأحلام، القليل من كتل الإسمنت، والنهر الصناعي العظيم أيضاً.

وبالعودة إلى ما مضى، كانت اللغة الأمازيغيّة تُلعن يوميّاً في وسائل الإعلام الرسميّة وتُعتبر سمّاً قاتلاً، مؤامرةً استعماريّة، فرنسيّةً أحياناً وصهيونيّةً أحايين أخرى، لغةً ميتة تارةً، ولغةً عربيّة تارةً أخرى، كان المجتمع الناطق بالأمازيغيّة نفسه، وبسبب رهاب قبضة النظام البوليسيّة أحياناً، وبسبب الإيمان بأفكار عبد الناصر أحياناً، يمارس العزل المجتمعي في حق المطالبين باحترام اللغة وتدريسها، ويمارس التعريب الاختياري في كثيرٍ من قراه المتناثرة بعيداً عن بعضها البعض، سعيد سيفاو المحروق مثلاً، وهو كاتبٌ ليبي مهتمٌّ بالثقافة واللغة الأمازيغيّة في عصر فورة القوميّة العربيّة في شمال إفريقيا، والذي مات سنة 1994 بعد تعرّضه لحادث سير جعله مقعداً لعشر سنوات، بقي وحيداً في شقّته في طرابلس بعد أن لفظته مدينته الأم والناطقة بلغته الأم، لدرجة أنه بعد وفاته لم يجد أحداً ليحمل نعشه نحو قبره، وهو الذي كان يمارس الأمازيغيّة عبر أشعاره الكاتمة للصوت، والتي كانت سبباً في اعتقال أعضاء فرقة موسيقيّة بعد وفاته، لأنها ببساطة غنّت أشعاره الأمازيغيّة في شريطٍ غنائيٍ بدائي التسجيل، اسموه " ليبيا 2000".

" لا يوجد بربر على حدة، وعرب على حدة، إنه تصوّر لا أساس له، كلّنا ليبيّون بالوطن ... " هذه الجملة كتبها المحروق في إحدى كتاباته التي لم يتمّ نشرها إلا بعد وفاته، وهي كانت الجملة التي لخّصت فهمي للموضوع برمّته، ليبيا يجب أن تكون دولة الجميع، والإيمان بقوميّة أمازيغيّةٍ تدّعي ملكية التاريخ لا يختلف البتة عن الإيمان بقوميّةٍ عربيّةٍ تدّعي ملكية الحاضر والمستقبل أيضاً، ومن هنا كانت نقطة الصدام مع حراك ما أسميته "حزب البعث البربري" والذي كان يعمل في الخفاء عبر مواقع إنترنت محظورة، فيه الكثير من النوايا الطيبة، لكن كردّة فعلٍ مساوية لتوجّه النظام القومي العروبي، كانوا مجموعة من الناشطين المنبهرين بقوميّة القبائل الجزائريّة، والذين كانوا يكرهون أكذوبة الوطن العربي، ويتمسّكون بتصديق أكذوبة وطنٍ قوميٍّ أكبر اسمه " تامزغا"، رفقة مشكلةٍ أصرَّ عليها الكثيرون من هؤلاء، ألا وهي ربط الأمازيغيّة بمذهب الإباضيّة، لتتحوّل هي نفسها إلى خليطٍ طائفيٍّ لغويٍّ غريب، لم يعلم أحدٌ في ليبيا بوجوده، حتى سقط نظام القذافي.

 لكن الأمر لم يستمرّ طويلاً حتى استطعتُ رسم الحدود الفاصلة بين فكرة أني أتحدّث لغةً مختلفةً عن جيراني، وحقيقة أننا سنظلّ جيراناً بسبب التصاق كلينا بالجغرافيا.

نعم، لم يكن أغلب الليبيّين قبل حرب فبراير الأهليّة، يعرفون بوجود أتباع للمذهب الإباضي في ليبيا وهم تعدادهم بالآلاف، ولم يكن يعرفون أو يهتمّون ربما بمعرفة شيء اسمه أمازيغيّة.

انقدتُ وراء وهم القوميّة الموازي هذا بادئ ذي بدء، لكن الأمر لم يستمرّ طويلاً حتى استطعتُ رسم الحدود الفاصلة بين فكرة أني أتحدّث لغةً مختلفةً عن جيراني، وحقيقة أننا سنظلّ جيراناً بسبب التصاق كلينا بالجغرافيا، وهنا بدأت أسير بخطواتٍ حذرةٍ عبر مقالاتي نحو فكرة الأمة الليبيّة، حياد الدولة تجاه أفكار، معتقدات وهويات مواطنيها المختلفة، وفكرة العلمانيّة أيضاً، والتي كانت الأمازيغيّة مهداً لها وباباً كان يمكن أن يكون الباب الأوسع لتكريس فكرة التعايش المشترك، ودولة الجميع، لكن هذا الباب بقي موارباً، ورفض الجميع فتحه، متخندقين وراء ترسانة الخطابات القوميّة الرنّانة، العداء القبلي المتوارث الناتج عن حربٍ أهليةٍ سابقةٍ قبل مائة عام تارةً، وشعارات العصبيّة الدينيّة تارة أخرى، ليضيع حلم الدولة، وتتحوّل ليبيا إلى مستنقعاتٍ مليئةٍ بالجمعيات الخيرية المدجّجّة بالسلاح.

يٌتبع...


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image