أن تكون متأرجِحاً بين نوعين اجتماعيّين، ممزّقاً بين هويتين اثنتين فُرضت إحداهنّ عليك و عاشت الأخرى داخلك لسنواتٍ تنتظر أن ترى النور وأن تخرج إلى العلن. أن تنشطر هويتك إلى قسمين و تجد أمامك أناً مغايراً وغريباً عنك لكنّه في نهاية الأمر جزءٌ لا يتجزّأ من ذاتك، إذ أن "كلّ واحد منا يحمل داخله أنا آخر يكون في نفس الوقت غريباً ومطابقاً لذاته "كما جاء على لسان الفيلسوف الفرنسيّ إدغار موران.
أن تسعى إلى حجب "أناكَ" المختلفة عن الجميع وإخفائِها حتى أنّك توهم نفسك بتناسيها، لكنّك ما تلبث أن تدرك أنّك مُحاصَر وسط جسد، أشبه بمجرّد وعاء يحتويك فُرِض عليك لحظة ولادتك تعسّفاً، وأن ترزح تبعاً لذلك تحت أعباء أدوار اجتماعيةٍ مُسنَدة إليك قسراً. أن تجد نفسك محلّ جدال و نقاش في العالم أجمع وأن تقضي عمراً في محاولة إثبات وجودك.
هذا باختصارٍ، معنى أن تكون عابراً جنسياً.
أحمد، عابرٌ جنسيٌّ تونسيٌّ لم يستطع التماهي مع ثقل الأدوار الاجتماعية المُسندة إليه إكراهاً وأدرك منذ ثلاث سنوات أن هويّته ليست مرتبطة بأعضائه التناسلية الأنثوية أو بكروموسومات x أو y. كان الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، كان اختلافاً عن ثنائية الجنس والجندر والجنسانية وهدماً للأدوار الاجتماعية النمطيّة. مضى أحمد من خلال رحلة التأرجح الجندريّ هذه إلى اكتشاف نفسه وكافح لغلق الهوّة الكامنة بينه وبين جسده الغريب عنه.
بنظراتٍ شاردة وصوتٍ جهوريّ، انطلق أحمد في سرد قصّة عبوره التي بدأت من تونس، حيث كانت بداية الشكّ والاغتراب عن الذات والرغبة في التنصّل من جسد غريب لا يُشبهه، وحملته إلى مصر حيث أكّد له اختبار الأزهر صحّة ما يشعر به في أعماقه.
"منذ صباي كنتُ لا أشبهُ أحداً من أقراني، لا (لحمي لحمهم ولا فكري فكرهم) على حدّ تعبير ماكس ستيرنر. كنتُ عرضةً لنميمة الجارات اللواتي كنّ يراقبنني باستمرارٍ علّهُنّ يظفرن بزلّة ما لينقُلنها إلى والدتي لكنّها لم تكن تكترثُ لهُنّ أو على الأقلّ، تظاهرت بذلك. كانت أمّي، وما تزالُ، سنداً لي في كلّ ما مررت به من مشاقّ في شتّى مراحل حياتي. هذا الدعم هو ما جعل من الجحيم الذي عشته (ناعماً) بعض الشيء وهو ترفٌ لم يحظ به العديد من (الترانس)".
رغم عدم اطّلاعي آنذاك حول قضايا الجندر والميول الجنسانية، لكنّني اهتديت بحدس ما، إلى أنّني اثنان في واحد. لطالما شعرتُ بنفسي رجلاً مُحاصراً في جسد أنثى و ساورتني عديد التساؤلات حول هويّتي الجندرية. طيلة فترة مراهقتي، تجنّبت النظر إلى المرآة، خوفاً من رؤية جسدٍ آخر لا يشبهُني، بل هو مناقضٌ لي".
بعد اطلاعي صدفة على صفحات خاصّة بمجموعة من العابرين جنسياً في مصر، قرّرت السّفر لعرض ملفي الطبي على لجنة الفتوى في الأزهر الشريف وتأكدت آنذاك من صدق ما كنت أشعر به في باطني.
عند عودتي إلى تونس، انطلقت رحلة عبوري الجسديّ عبر حقن جرعات التستوستيرون و إجراءي في ما بعد عملية استئصال الصّدر بشكل سريّ لوضع حدّ للتمزّق الذي كنت أعيشه بين هذه الثنائيّة. لكنّني لم ألبث أن فقهت مقولة درويش: (منفىً هو العالم الخارجي ومنفىً هو العالم الداخلي). ألفيتُ نفسي في مساحة الهامش، كغيري من أفراد مجتمع الميم في العالم العربي و لم أجد بانتظاري سوى نظرات غريبة وممارسات قمعيّة ومُزدرية".
ازدراءٌ و إقصاء لغويٌّ
كغيره من العابرين جنسياً والمثليّين، كان أحمد يُلقّبُ بنعوت من قبيل "عائشة رجل"، "خنثة" أو "كريوكة" وغيرها من الأوصاف الشّائعة التي تنمّ عن جهلٍ بجوهر القضيّة.
في الواقع، تختلف التسميات بدورها، وتتعدّد بين عابري/ مُتغيِّري/ مُتحوّلي الجنس ومصحِّحي الهويّة الجنسيّة وغيرها، وتشير أغلبها إلى استعمالات عديدة غير محدّدة لتُفضي إلى تأويلات واسعة ومتباعدة تعيد فرز الأقليّات الجنسيّة على سلّم التعريفات، وتُثير خلطاً لدى الباحثين في المسألة.
بنظراتٍ شاردة وصوتٍ جهوريّ، انطلق أحمد في سردِ قصّة عبوره التي بدأت من تونس، حيث كانت بداية الشكّ والاغتراب عن الذات والرغبة في التنصّل من جسد غريب لا يُشبهه، وحَمَلتهُ إلى مصر حيث أكّد له اختبارُ الأزهر صحّة ما يشعر به
31.2 بالمائة من المُستجوَبين تعرّضوا إلى التحرّش الجسديّ، وتمّ ضربهم على الأقلّ مرّة واحدة طيلة حياتهم. وتعرّض رُبعهم إلى هجوم مرّة على الأقلّ، باستعمال أسلحة مختلفة أو إلى محاولات اغتصاب أو قتل على مرأى الجميع... أرقام مفزعة عن العبور الجنسي من تونس
ينبع هذا الخلط المفاهيميّ العميق من صلب مجتمع الميم الذي تنضوي تحته كل ألوان الطيف الجندريّ. إذ يُعرّف كل فرد نفسه كيفما يشاء و يُجنّد اللغة لصالحه حتّى يتمكّن من تقديم هويّته الجندريّة بوضوح و ارتياح و يتخلّص من ثقل ثنائيّة الجندر التقليديّة.
في هذا السياق، تمّ في ديسمبر 2016 بعث منصّة تشاركيّة تبحث في قضايا الجندر والنساء باللغة العربيّة وهي "ويكي الجندر" في محاولة لتحديد المفاهيم وتوحيدها.
حسب ما ورد فيها، فإنّ منتدى الجنسانيّة و اللجنة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغربي آسيا (الإسكوا) قام بتعريب مصطلح Transsexuality إلى "تغييرٍ جنسيّ". وعرّبته منظمة "أورام ORAM" إلى "تصحيح الهويّة الجنسيّة". من جهةٍ أُخرى، ترجمتهُ "مدوّنة ترانسات" إلى "عُبورٍ جنسيٍّ". في حين ارتأت "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" أن تستخدم مصطلحي "مُتغيّري/ متحوّلي الجنس" و"الترانس".
لا يعاني الأشخاص الترانس في تونس من التهميش اللّغوي فقط، بل يعانون من الإقصاء من قبل الدولة التونسيّة التي لم تعترف بعد بوجودهم بشكل رسميّ. و ليس هذا الأمر بغريب عن "منظومة الأقليات الجنسية" التي ينضوي تحت رايتها عديد الأشخاص، إذ أنّ "كلّ من يتبنّى هوية أكثر تعقيداً سيجد نفسه مُهمّشاً".
ويُعانون كذلك من القمع والرفض من قبل المجتمع، وقد يتخّذ هذا الرفض أوجُهاً عديدة أخطرها وأكثرها شيوعاً اللجوء لممارسة العنف مادياً كان أم معنوياً.
أرقامٌ مفزعة
أجرت كل من جمعية "دمج للعدالة و المساواة" والمنظمّة النسوية "شوف" ومبادرة "موجودين للمساواة حول العنف ضدَّ الأشخاص LGBT" استقصاءً مهماً، كانت حصيلته أرقامٌ مفزعةٌ سلّطت الضوء على الحرب اليوميّة التي تخوضها الأقليّات الجنسيّة في تونس، والعابرون جنسياً على وجه الخصوص، من خلال تعرّضهم إلى أشكال متباينة من العنف الماديّ والمعنويّ على تنوّع خلفيّاتهم الاجتماعيّة ومحيطهم العائليّ ومقرّ سكناهم.
بيّن الاستقصاء أنّ 51.8 في المئة من المُستجوَبين يتلّقون يومياً وابلاً من الشتائم و كماً هائلاً من الأسئلة الشخصيّة والمحرجة عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ بدرجةٍ أولى، بالإضافة إلى رسائل تهديد وشتم تمسّ من كرامتِهم الإنسانيّةِ ومن شخصِهم.
ولا يقتصر التحرّش اللفظيّ على الأماكن العامة فقط بل يتجاوزها إلى الفضاءات المدرسيّة - سواء من قبل التلاميذ أو الأساتذة أو حتى الإداريّين- ويمتدّ إلى مقرّات العمل.
في حين أن التحرّش الجسديّ يتم التعرّف عليه إما عبر ملاحقة الشّخص وتتبّعه بإلحاح ودون رضاه لا لسبب عدا كونه يمثّل أقليّة مختلفة يُستسهل استغلالها جنسياً أو الاعتداء عليها، أو عبر ممارسة أيِّ شكلٍ من أشكال العنف الماديّ.
أشار الاستقصاء إلى أن 31.2 في المئة من المُستجوَبين قد تعرّضوا إلى التحرّش الجسديّ، وتمّ صفعهم أو ضربهم على الأقلّ مرّة واحدة طيلة حياتهم. وتعرّض رُبعهم إلى هجوم مرّة على الأقلّ، باستعمال أسلحة مختلفة (سكين/ عصا/ قوارير مهشّمة...) أو إلى محاولات اغتصاب أو قتل على مرأى و مسمع من الجميعِ.
قصص ابتزاز واستغلال... وقطع أرزاق
إلى جانب مختلف أشكال العنف، يوجد العديد من الممارسات الأخرى الموجهة ضدّ الأشخاص الترانس على غرار الازدراء، التقليل من الشأن والاستغلال على أنواعه.
حدثنا أحمد عن تعرّضه إلى محاولة استغلالٍ عند بحثه الحثيث عن محلّ للسكن. حين اعتقد أنه عثر على "المكان المثاليّ" المتمثّل في مساحة - بالكاد اتسعت لفراش وحمّام- بثمن زهيد، وجد نفسه أمام تمييز وازدراء من قبل وكيل العقارات الذي استغل فرصة تواجد صاحبة المكان خارج البلاد واشترط أن يقبل أحمد استضافته برفقة صديقته في مقرّ سكنه لقضاء نهايات الأسبوع، وذلك في مقابل أن يصرف النظر عن عدم تطابق هويته في الأوراق الرسمية مع الهوية التي اختار أن يظهر بها إلى العيان.
ربما اعتاد أحمد مثل هذه التصرفات القائمة على التمييز و التهميش والإقصاء، فقبل لقائي به بأسبوع تمّ طرده من سوق سيدي البحري في العاصمة، والذي عمل فيه كبائع خضار لفترة وبأجر لا يتجاوز العشرة دنانير بحجّة تغيّبه.
"سأصير يوما ما أريد"، هذا ما يردّده عديد العابرين والعابرات الذين رسموا مسيرة عبورهم أو أولئك الذين ما زالوا في بحث متواصل عن هويتهم التائهة وسط تضاريس جسد غريب عنهم، و في رقعة جغرافية ضيقة، محدودة التفكير
في السياق ذاته، أوضح علي البوسالمي، رئيس جمعية "موجودين" أن عديد العابرين جنسياً يعانون من البطالة رغم توفّر المؤهّلات و المهارات المطلوبة، وهذا يعود أولاً إلى غياب الإطار القانونيّ الذي يُنظّم مسألة العابرين جنسياً وتغيير هويّتهم بشكلٍ رسميّ، وثانياً إلى "رهاب التحوّل/العُبور الجنسي" الذي يعاني منهُ أغلبُ المجتمعِ التونسيِّ.
وقد ذكر البوسالمي أن هناك من قبل توظيف شخصَين من العابرِين جنسياً في مقهى، لكنّه سرعان ما عدل عن قراره متذرّعاً بالشكاوى التي وردته من قبل العائلات "المُحافظة" التي تتردّد على المكان والتي سبّب لها تواجدهما إزعاجاً. و كان ذلك سبباً كافياً لقطع مورد الرزق عن هذين العابرَيْن.
"سأصير يوما ما أريد"، هذا ما يردّده عديد العابرين والعابرات الذين رسموا مسيرة عبورهم أو أولئك الذين ما زالوا في بحث متواصل عن هويتهم التائهة وسط تضاريس جسد غريب عنهم، و في رقعة جغرافية ضيقة، محدودة التفكير، رافضة لكل أشكال الاختلاف عن القواعد و الأنماط السائدة.
هُم ليسوا بحاجةٍ إلى تسامح المُجتمع معهم - نظراً لعدم ارتكابهم أيّ جرم يُذكر- بقدر حاجتهم إلى اعتراف قانونيّ أولاً، و تأطير لقضاياهم بشكل يكفل حقوقهم و حريّاتهم الشخصيّة كما تنصّ عليها فصول الدستور التونسيّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...