كانت الهجرة بكل تأكيد هي القضية التي حدّدت شكل رئاسة ترامب، حتى من قبل إنتخابه، هذا إذا قررّنا أن نعتبر فشله الملحوظ في التصويت الشعبي وغير المسبوق في تاريخ رؤساء الولايات المتحدة السابقين والملوث بدلائل التدخل الروسي الموثقة في تقرير روبرت مولر الذي صدر مؤخرا انتخابا لا شائبة فيه.
ولكن، بالرغم من الشكوك المتكاثرة حول شرعية رئاسته، فاليقين هو أن مناقشات الهجرة، خلال السنوات الأخيرة، صارت تشغل الكثيرين في خطابنا السياسي، وسط كثرة الآراء والأدعاءات حول موضعها المناسب قانونياً وثقافياً.
وإذا كانت إدارة ترامب قد أصبحت متميّزةً بصور ”تقسيمية“ بكل المعاني المختلفة للكلمة— بدءاً من الدعوات المتكررة لجدار الحدود، إلى إيقاف لاجئين في مطارات في أوائل أيام صعوده إلى السلطة، أو ما سمّي ”حظر دخول المسلمين“، وتفريق الأسر المهاجرة القَسْرِيّ القاسي، وانتهاءً باستقالة كيرستين نيلسن وزيرة الأمن الداخلي مؤخرا بسبب مما يبدو من أن حبس الأطفال لم يكن كافيا — فمن المحتم علينا ألّا نفصل الحاضر عن الماضي. إنّ استئصال اللحظة الحالية من سياقها التاريخي السابق هو ممارسة للنسيان التاريخي.
من المفروض أن نسأل: ما هو بالضبط، الجديد في سياسة الهجرة تحت ظل حكم ترامب؟ وبكلمات أخرى، هل تمثل السياسة المذكورة أعلاه تَحوِلا فئويا أم تطويرا لسياسات سابقة؟ في ما يلي سأضيف سياقا تاريخياً إلى حالة الهجرة الحالية من خلال الإشارة إلى تطورات عبر إطارين زمنيين: اولاً، الفترة بعد هجمات11 سبتمبر 2001 والتي تشمل رئاستي بوش وأوباما والمتميزة بازدياد شديد في الطرد؛ ثانيا، الحرب الباردة وعصر الليبرالية الجديدة المتعلقة بتجريم الهجرة.
الماضي القريب: ترامب وإرثا بوش وأوباما، انقطاع أم إستمرارية؟
كيف ننقد هذه السياسة بشكل فعال وقانوني، هذه الحملة غير العادلة ضد المهاجرين؟ وهي حملة مناقضة للقانون الدولي والمباديء الإنسانية الأساسية. ربما في الإعلام الأمريكي، أصبحت المقارنات بإدارات سابقة هي السبيل المفضل لتأكيد طبيعة هذه الحملة الخطيرة والمتطرفة. فنحن يتم تذكيرنا مرارا بإنشاء داكا تحت قيادة أوباما، البرنامج البارز المحتفل به والذي يسمح بإعطاء وضع قانوني (مشروط ومؤقت) وحقوق (محدودة وغير ثابتة) لمجموعة محددة من الشباب المهاجرين غير المسجلين، ممن لا يحملون وثائق؟ أم المحاولات الشجاعة والعطوفة، في ولاية بوش الثانية، للإعفاء ، والتي أفشلها وأسقطها حزبه.فنذكَّر،مرة تلو مرة، بأنّ الأمور، في الماضي، كانت مختلفة بشكل مطلق.
ألا يجدر بنا بدلاً من النظر إلى الخلف، أن ننظر قدماً إلى الحركة المتنامية للحدود المفتوحة، التي تعترف بأن حرية الحركة هي حق أصيل من حقوق الانسان الاساسية؟
ولهذا الخطاب تأثير عميق وربما غير مقصود، فعندما نرسم سياسات ترامب حول الهجرة وكأنها مختلفة تماما عن سياسات أسلافه السابقة، حتى إذا كان غرضنا الإدانة وإحتجاج، ألا نقول بهذا أننا نقبل سوء معاملة المهاجرين الماضية، التي كانت أساسا دائما لهذه السياسة، وهي إرث تاريخي من عصور سابقة؟ ألا نتناسى أن آلية الطرد التي يجرب ترامب، الآن، أن يستغلّها ويتوسّع فيها كانت، إلى حد كبير، متبعة في الإدارتين المشار إليهما. إنّ بوش استبدل إعفاءه الذي لم يتحقق عبر مبادرة سيئة تحمل اسما مضلّلاً وهي ”المجتمعات الآمنة.“ وهو برنامج تتشدد فيه أجهزة المراقبة تجاه الأشخاص الذين لا يحملون وثائق، مؤديا إلى تَشَابُك متزايد في العمل بين قوات الشرطة ووزارة الأمن الداخلي وفَرْوعها المثيرة للجدل، الهجرة والجمارك، التي تواجه مطالبات متزايدة بإلغائها.
ومن هنا جاء المصطلح الإنجليزي الإنتقادي ”كريميغريشِن“ مشيراً إلى تجريم الهجرة وكل من يقوم بها. وهل نسينا أن هاتين الإدارتين السابق ذكرهما اللتين تم تأسيسهما من قبل بوش نفسه، تحلان محل الإدارة الأكثر حيادية، وهي خدمات الهجرة والتجنس؟ أم نتجاهل سياسة أوباما العُدْوانِيّة في الإبعاد التي أكسبته تَسْمِيَة ”الطارد الأعلى“؟ باختصار، فإننا حين نتوسع في هذا الخطاب،نخاطر بالتغاضي عن حقيقة أن للظاهرة أمامنا،أي، إضْطِهاد المهاجرين في الولايات المتحدة، سوابق. إن لها قصة طويلة.
تجريم الهجرة: ريغان ومخاوف الحرب الباردة والحرب على المخدرات
لا تبدأ هذه القصة مع أوباما ولا مع بوش. لم تبدأ في التسعينات المتميزة بالعنصرية والتمييز والقمع ضد المهاجرين، إثر إتّفاق ”نافتا“ وموجة الهجرة المكسيكية الناتجة عنها.
نشرت الأستاذة جيوليت ستمف في عام 2006 مقالة بارزة باسم ”أزمة تجريم الهجرة،“ حيث عمّمت فيها المصطلح الجديد. وحسب ستمف وعلماء آخرين مثلها الذين يدرسون العلاقة بين القانونين الجنائي وقانون الهجرة،نجد جذور نظامنا للهجرة المعاصرة منذ ٣ عقود، في الثمانينات تحت رونالد ريغان، عندما تغيرت أمور الهجرة تماما. فقد كانت الأسباب للتغيير في نظام الهجرة متعددة ومرتبطة بالسياق التاريخي. أولا، استغل ريغان أشد المخاوف المنتشرة المتعلقة بالحرب الباردة ليصور مجموعات من المهاجرين كخطر داهم. يلاحظ العالم سيسر غرسيا هرناندز، مثلا، أنّ أكثر من 125000 شخص هاجروا من كوبا إلى امريكا، وبسبب أصولهم وعرقهم وعلاقتهم المفترضة بالحكم الشيوعي، تم تصويرهم كتهديد أمني.
وبعد أن بدأ ريغان يشن ”الحرب على المخدرات“، نفذ عددا من السياسات التي تركزت على الأمن في الحدود الجنوبية. كما فرض قوانين هجرة أصبحت أولوية الحكومة فيها أكثر أهمية من أي وقت مضى. وانتشرت الصور النمطية عن ”المهاجر المجرم“ والتي شملت مهاجرين من كل أنحاء امريكا اللاتينية.
لنعد مرة أخرى إلى النقطة التي بدأنا بها، وهي الخطاب الذي يُبعد إدارة ترامب عما كان قبلها والمغلف بالشوق إلى زمن مضى، حينما كانت السياسة أقل استقطابا، وقوانين الهجرة أقل قسوة، إلى حد ما. وحتى إذا كان هناك شيء من الأضطهاد حينذاك، فعلى أقل تقدير لم يتحدث عنه الإعلام بأصوات عالية. يبدو هذا الحنين ذو المظهر الانساني في الخطاب السائد الآن لانتقاد سياسة ترامب، ظلا لذلك النداء ذي الشعار المتعصب " لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى".
ولكن الحنين والتاريخ نادراً ما يسيران سوية، وكما رأينا، فالحنين في الواقع هو وهم يغمض عينيه عن حقيقة ما حدث على مر التاريخ في أغْلَبِ الأحْيان. وكما قال غرسيا هرناندز، فإن ظاهرة تجريم الهجرة وأشكالها المتعددة تحمل ”مواصفات بنيوية“ مدعومة بسياسات ذات ماض وحاضر عنصري يتعامل مع المهاجرين كأنهم ”غزاة خطرون“ أو غرباء غير مرغوب بهم.
ألا يجدر بنا إذاً بدلاً من النظر إلى الخلف، أن ننظر قدماً إلى الحركة المتنامية للحدود المفتوحة، التي تعترف بأن حرية الحركة هي حق أصيل من حقوق الانسان الاساسية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...